لماذا يقيّمنا الآخرون من خلال الملابس؟

تطورت فكرة الملابس من كونها مجرّدَ أشياء بسيطة تغطي الجسم مثل الجلود والأعشاب إلى أقمشة مختلفة؛ بين القطن والصوف تمنحنا الدفء والراحة، ثم إلى شبكة متنوعة من الأقمشة الغالية والرخيصة التي يسوّق لها التجار، ويشتَرى كلٌّ منها حسب القدرة المالية للزبون.

 خلال التاريخ انحصرت بعض الأقمشة على الأثرياء دون غيرهم، حتى وإن تشابهوا في الزي الشعبي لنفس البلد.

تاريخ صناعة الملابس:

في مصر القديمة كانت الأقمشة محصورة في القطن صيفا لتبديد الحر، والكتان شتاء للدفء. وبين الصين وبلاد فارس ومصر صار التجار يتبادلون ويقتنون الأقمشة الفاخرة كالحرير، أما في روما القديمة، فكانت صناعة الملابس يدوية بالكامل بتصاميم بسطية؛ إذ ارتدت النسوة والرجال على حد السواء الكتان، ولأن الخياطة لم تخترع بعد فقد كانوا يتلحّفونه ويربطونه بدبابيس منمقة.

مع بداية عصر التنوير في أوربا، اتخذت الملابس شكلا أكثر تعقيدا من مجرد أردية وجلاليب من القطن والكتان والحرير، لتكون أزياء كاملة، منمقة، متعددة الألوان ومزخرفة بشكل متقن.


لتأتي بعد ذلك الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر لتطيح بكل تلك الأزياء أرضا، وتمهد الطريق لأكبر حركةٍ لصناعة الملابس، تغير فيها مفهومُ الأفراد عن ماهية الملابس؛ جاء هذا التغير مع تغير في اهتمامات الناس وحالتهم الاقتصادية.

لاحقا، مع ظهور الآلات، أصبحت الملابس أرخص وفي متناول الجميع تقريبا.

ثم مع مرور الزمن وتحرر الملابس من صورتها النمطية الأنيقة التي تلائم شكل الجسم كما يصممها الترزي*، تحولت الملابس صيغة تعبيرية تكشف عن هوية الفرد.

البس حتى أراك: 

رغم أن جملة (الملابس تعبّر عنا) تبدو بورجوازية بشكلٍ ما وممقوتة غالبا لعنصريّتها، إلا أن المجتمع أصبح يتوقع منا ملابس معينة لتدل على مدى التزامنا الأخلاقي، أو مذهبنا الديني، أو مستوانا الاجتماعي أو حتى طريقة تفكيرنا. فالملابس هي العلامة الأولى التي من خلالها يستطيع الآخرون إصدار حكمهم عنا، ليتمّ تصنيفنا ضمن من قد يكتسب الاحترام أو يُعامل دون أدنى انتباه.

بالطبع تلك النظرة ليست وليدة اللحظة، فهي حقيقة قد مرت على الإنسان لعدة عصور ولم يستطع التخلص منها حتى الآن.

الحديث عن التصنيفات من خلال الملابس يقودنا للحديث عن استعمال بعيد عن التصنيف السطحي، إلى مفهوم الزّيّ الموحد، الذي سهل على الأفراد التعامل مع بعضهم بل جعل تمييزهم عن الآخرين أسهل، خاصة في الكوارث مثلا؛ فالزي الموحد للأطباء والممرضين ورجال الإطفاء أتاح لهم التميّز عن غيرهم، وبالتالي أولوية الوصول إلى المرضى والمصابين.

انتقلت الملابس من كونها أشياء بسيطة لتصبح رمزا يمكن عن طريقه تمييز شخص بوظيفته وموقعه عن الآخرين. 

الملابس في كل مكان: 

بعد الحرب العالمية الثانية تحول العالم إلى كتلة استهلاكية كبيرة، تستهلك ما يفيض عن حاجتها بشكل جنوني وكأنها تعالج خيبات الحرب.

ومنها ظهرت أسواق وماركات محلية وعالمية متعددة، تلبي حاجات المستهلك وتجعله يرغب بالمزيد، بشكل جنوني.

صناعة الملابس تستهلك طاقة بشرية هائلة بسعر زهيد وتؤثر سلبا على البيئة، إلا أنها رغم ذلك وسلية لتذكير البعض بماضيهم؛ إذ تحمل ذكرياتهم وروائحهم ما جعلَ من الصعب في كثير من الأحيان التخلي عنها.

وثائقي عن الملابس:

في أفريل من سنة 2021 أطلقت نتفليكس مسلسلا وثائقيا بعنوان: worn stories يستعرض في موسمه الأول المكوَّن من سبع حلقات رحلةَ الأفراد مع الملابس، حبَّهم لبعض القطع، كرهَهم لارتداء الملابس من الأساس وشعورهم بالتحرر دونَها إلى درجة إنشاء مجتمع كامل لا يحتاج فيه الإنسان إلى أي ملابس.

لكل شخصٍ حكايته مع الملابس، لدرجة حميمية كبيرة؛ فهناك ملابس شهدت على أوقات ذهبية لأصحابها، كان لها الفضل في شهرتهم أو أعطتهم الثقة بمجرّد ارتدائها، وملابس جاهد أصحابُها للبسها، وأخرى تسبّبت في نمو الحب بين شخصين. قطعة الملابس قد تحمل الكثير من الحكايات تتناولها يد جيل تلو الآخر، لأنها شهدت على الكثير.

من الغريب أن مجرد قطعة من الملابس قد تكون مسؤولة عن كل تلك الحكايات بل وشريكًا جوهريًّا فيها، فتحولت من أشياء غير ذات أهمية إلى هويّة نريدها أن تمثّلنا، تحسن من صورتنا وتبرز أوضاعَنا الاجتماعية التي نجتهد للوصول إليها.

لماذا أصبح الناس يقيّمون الآخرين عن طريق الملابس؟ 

منذ ظهور الطبقية، صارت نظرة الإنسان لغيره تعتمد على مقدار ما معه من مال، ماذا يملك أيضا وكم يكسب؟ مالك يجب أن ينعكس على ملابسك، وبالتالي على الاحترام الذي تستحقه. بقدر سذاجة وسطحية هذه النظرة، بقدر ما هي حقيقية ومعمول بها كثيرا.

هامش:

*التّرزي أو الدّرزي: الخياط (كلمة معرّبة من الفارسية).

تدقيق: عمر دريوش.

كاتب

الصورة الافتراضية
Mostafa sarah
المقالات: 0

تعليق واحد

اترك ردّاً