رحلتي بين أروقة سيلا 2022

قبل بضعة أيام عاد إلينا المعرض الدّولي للكتاب بالجزائر في طبعته الخامسة والعشرين، طبعة انتظرها الجميع: قُرّاء، دور نشر، كتّاب. وذلك بسبب الظروف الحاصلة مؤخرا عبر أنحاء العالم أجمع، والتي فرضت عدّة قيود تمنع أن يُنظّم في ظلها تظاهرة بحجم الصّالون الدّولي للكتاب، ما أدّى إلى تأجيله وعدم إقامته في موعده الأصلي (أكتوبر 2020 ثمّ أكتوبر 2021) وبسبب هذا الغياب الطويل كانت الأمال المعلقة على هذه النسخة من المعرض كبيرة جدا، تتجاوز مقاسه، الذي وَجب عليه أن يكون بحجم كل تلك الأشهر في انتظاره والحسّرة على تأجيله ولِما ترتب عليه من حرمان الكاتب عرض سلعته الجديدة، وكذا القارئ من شراء كتبه غير المتوفرة في مكتبات الجزائر، إلاّ أنّ التوقعات لم تلبث طويلا حتّى تخيب رغم مجيئه بحلة تُنمّ عن أهميته المزمعة وذلك بمشاركة أزيد من 1250 عارض من أكثر من 36 دولة وبحلول إيطاليا ضيف شرف الطبعة.وبالحديث عن هذه النسخة الاستثنائية فإنّي سأنقل تجربتي الخاصّة معها دون تعميم انطباعاتي على باقي الزوّار.

إنّ بعض الأحداث التي شهدتها هذه النّسخة من المعرض جعلتي أعود بالذاكرة إلى معرض سنة 2018 الذي عاصر خلاله الوسط الثقافي الجزائري افتتاح عدد لا بأس به من دور نشر فتية تنافست فيما بينها على من يطبع كتب أكثر، افتتاح هذه الدور خلق أزمة حينها، لأنّ القائمين عليها في الغالب كانوا مجرد قرّاء حديثي الولادة، وبالتالي طبع الكتب لم يخضع لشروط صارمة ولا إلى أيّة مقاييس ومعايير تضمن جودة الكتاب المطبوع.

“أندر من الكتاب الجيّد، القارئ الجيّد” أصبح القارئ الجيّد الذي يتجول داخل أروقة المعرض بحثا عن كتاب جيّد ليقتنيه من دار نشر جزائرية لا يصادف أمامه سوى :المتمرد، هاجر أنت لست شجرة، أرهقتني المكسيك يا ماروشكا … بعض هذه الكتب كان كاتبها مجهولا خوفا من أن تطاله انتقادات البعض اللاذعة، وبعضها الآخر لم يبالِ صاحبها بمحتوى كتابه ولا بمراجعات من قرؤوا إصداره، بل صار المعرض بالنسبة لأمثال هؤلاء عُرسا بكل ماتحمله الكلمة من معنى.يقول حامد أحمد :”وراء كل كتاب فكرة، ووراء كل فكرة خطوة للأمام”فهل كانت حقّا تلك الكتب التي برزت وسط الساحة في المعارض السابقة أفكارا للأمام؟يا ترى ماذا يفعل أصحابها الآن؟ وهل اعتزلوا الكتابة واكتفوا بهذا الحد من النسخ التي لم تبع؟ أم سينشر أصدقاؤهم مخطوطات كتبهم المؤجلة من أجل التنقيح بعد وفاتهم كما فعل صديق كافكا؟

كل تلك الكتب الجديدة المفتقرة للكثير كي تصبح أدبا وفكرا يستحق الطبع والنشر لاقت تصديّا كبيرا من قِبل القرّاء الحقيقيين الذين واجهوا المدّ بخروجهم من عزلتهم لأنّهم على حسب ما يعتقدون أنّ تلك الكتب ليست خطوات للأمام بقدر ما أصبحت خطوات للخلف. إذ أنّ كلّ زائر وفيّ للمعرض يعلم أنّ المبيعات الكثيرة دائما تكون من نصيب دور النشر العربية الأخرى وذلك لأنّها في سعي دائم إلى الكمال، عكس حال الدار الجزائرية المؤسف خاصّة عقب ما طالها مؤخرا من استهتار ولا مبالاة، فهي لا تنافس على نشر كتب جزائرية ناضجة واضحة المعالم، ولا تنافس حتّى على تقديم ترجمات جيّدة لكتب عالمية تتفوق من خلالها على ترجمات المدى، التنوير، وغيرهم بل كلّ ما تطمح إلى تحقيقه هو استقطاب عدد أكبر من الكتاب الجدد للنشر لديها وفقط.

وهاهو ذا الآن الصالون الدولي للكتاب بالجزائر يفتح أبوابه يوم 24 مارس 2022، دخلته وكلّي آمال أن أجده ساحة جادة في محتواها، مهيبة بحضورها، عكس سابقاتها، خاصة حينما لمحت هذه المرة تخصيصهم قاعتين للمحاضرات، إلى جانب التعدد والتنوع الثقافي الواضح من خلال الضيوف المدعوين إليه، لكن وسط كل هؤلاء كانت بثينة العيسى هي من سرق الأضواء عن الجميع وصارت هي الضيف الأبرز لهذه الطبعة وضيف الشرف لهذه السنة. فرح الجميع بقدومها وتزاحم الناس للحصول على توقيع منها أو التقاط صورة معها، لكن المناقشة التي أُقيمت لها هي من عرّت واقعنا الثقافي هذه المرة، ولم يكن هذا وليد الصدفة بطبيعة الحال، بل كان نتاجا للأحداث المذكورة سابقا، لأنّ المُحاور الذي أقدم على توجيه أسئلة لا تليق بفخامة الحدث ولا بأهمية الزائرة ومسيرتها الأدبية الحافلة هو كاتب خرّيج دور النشر التي تصدّى لها القرّاء سابقا، وهذا هو الحال الذي خاف أن يصله أدبنا وثقافتنا من عارضوا كلّ دار نشر تعمل دون مبادئ، وكل كتاب ينقصه الكثير ليكتمل نضجه، لأنّ تلك الفئة التي حُوربَت وانتصرت أصبحت هي الممثل الشرعي لأدباء وقرّاء الجزائر الآن.

وكما ذكرت في البداية أنّ المعرض قد أُقيم في ظروف استثنائية، زيادة عليها عرف معرض هذه السنّة ارتفاعا نسبيًّا في سعر الكتاب بسبب زيادة أسعار الورق، وارتفاع سعر صرف الدولار، وكذلك تكاليف الطبع فمثلا سلسلة مدن الملح كان سعرها سنة 2019 يُقارب 5000 دينار جزائري، أمّا هذه السنة أصبحت لا تقل عن 8000 دينار جزائري، لكن من المفارقات العجيبة لهذه الطبعة نجد في مقابل هذا الغلاء دار نشر جزائرية تُقيم عروضا خاصّة وتخفيضات على مجموعة من إصداراتها تحت مسمى ” طاولة السعادة ” سعر الكتاب الواحد 100 دينار جزائري، وعند شرائك كتابين ستأخذ الثالث مجانا، أمّا عند شراء خمسة كتب ستتحصل على عشرين “بوك مارك” هدية من طرف المشرفين على الدار، ومع وصول المعرض إلى آخر أيّامه تحوّلت طاولة السّعادة إلى طاولة البهجة والسرور وأصبح سعر الكتاب 50 دينار جزائري.

إنّ ما يمثل مشكلة حقيقية للثقافة في الجزائر الآن ليس الكاتب الجديد، ولا دار النشر التي همّها الوحيد هو الربح المادي؛ بل المشكلة هي المسؤول الأول عن كل هذا والذي سمح بهذه التجاوزات، لأنّ إدارة المعرض لو كانت تُبالي قليلا بالعار الذي سيُطبع على جبين ثقافتنا وأدبنا الجزائري لكانت قد أرهقت نفسها قليلا وبحثت عن ممثل أفضل ليستضيف هؤلاء الأدباء ويحاورهم ويناقشهم بالجدية التي توقعوها، ولكانت قد أوقفت طبع الكتب ونشرها دون رقابة ولِجان تشرف عليها ضمانا لجودة المنتوج الأدبي الذي سيحتكر رفوفا في المعرض الدولي ومكتبات الوطن.


لذا المطلوب الآن من محافظ المعرض أن يتوقف عن تعداد زوار المعرض والاحتفاء بهم مثل كل سنة، والبدء في تعداد الأخطاء والأحداث الكارثية لتفاديها.

كاتب

الصورة الافتراضية
NEZLI Rami
المقالات: 0

2 تعليقات

  1. حينما يصبح عبد الزراق طواهرية صورة للأدب والثقافة في الجزائر ويُروج على أنه كاتب فذ ويمنع القارئ والمفكر الحر من الكتب التي تفتح آفاقا ومداركا جديدة في عقله وروحه، تسعير الكتب كما سلف وذكرت لا يساعد لا القارئ ولادور النشر العربية و العالمية التي تنتظر من مجاميع الحشود التي يتم تصويرها كل مرة، اقتناء أعمالها ومنتجاتها فذلك ما هي قائمة عليه وذلك هو نشاطها التجاري.
    الشعب الجزائري والعربي يقرأ ويحب الكتب والثقافة ولكن الساحة غريبة غرابة مكتبة هاروكي موراكامي
    أحب مطالعة مقالات النقطة الزرقاء وسرني مقالك وطرحك الصريح أستاذ خليل
    هل من مؤلفات لك؟ مدونة شخصية خاصة بك؟

  2. مقال رائع يعرّي كل حرف فيه واقع القراءة والقرّاء المتهالك في الجزائر. لا عجب أن تُرى مثل تلك المظاهر التي ذكرتها إذا كان أغلب القراء مراهقين يلهفون وراء تفاهات من يسمون أنفسهم بالكتّاب الشباب. سوق الكتاب أيضا كاسد ومليء بالعناوين الرديئة والمضروبة فكيف لنا بحق السماء أن نرقى لمصاف معارض القاهرة، جدة، والشارقة ؟

اترك ردّاً