حين يكون الفن قتيل العنف، تفوح دماءه بعطر زهر اللوز

الجزائر صيف 2021

كانت بدايات الصيف ورياحه الخانقة تحمل في طيات درجات حرارته المتزايدة، تلميحات قاسية على البلد، أزمة مياه، واستقبال حافل للموجة الرابعة للوباء. ارتفاع سريع لعدد الإصابات، وإغلاق الجامعات وتأجيل الامتحانات، وعودة الحجر الصحي مرة أخرى. 

كنا جميعا مشدودين نحو مواقع التواصل الاجتماعي، نتتبع الأخبار البائسة أولا بأول. في بداية الشهر السابع كانت قد تأججت نيران مفاجئة في جبال الأوراس لعدة أيام، لم تخمدها إلا محاولات المواطنين البدائية. وفي الأفق كانت تتطاير جُمل يتداولها الجميع عن ضرورة وجود فاعل وراء الحدث. كانت الجمل خافتة كتهامُس. 

في بدايات الشهر الثامن اندلعت سلسلة حرائق جديدة. طالت هذه المرة جبال حوض البحر المتوسط، تركيا واليونان. وسلسلة الأطلس التلي في الجزائر مابين شرق البلاد، ومنطقة القبائل التي كانت الأكثر تضررا، والتي شهدت وفيات بين السكان وحتى بين العسكريين الذين أرسلوا للإطفاء بالبنادق ودلاء المياه. وفي تلك الأثناء كانت الأصوات الهامسة تتعالى: “ثمة أفراد مسؤولون عن هذه الحرائق” [وقد دعم الإعلام هذا الرأي!]. وكان الغضب الشعبي يتزايد مع تزايد ألسنة اللهب ودرجات الحرارة. 

11.08.2021

لا أحد كان يتوقع أن الأمور قد تسوء أكثر.. على الأقل ليس إلى الحد الذي تطرفت إليه. كنت أتابع الأحداث كغيري من الذين خيمت فوقهم غيوم اليأس. كان تواتر الأحداث يسلبنا النوم ليلا في أحايين كثيرة، وربما كان ذلك أحد الأيام التي غفوت فيها مطولا بعد الظهيرة، لأستفيق لاحقا على أصوات غير مفهومة: “قتلوا البريء .. الشاب الذي قتل لا ذنب له.. أحرقوه..”. لم أتمكن في البداية وربما حتى الآن من استيعاب الحدث. 

في قرية الأربعاء ناث إيراثن بمنطقة القبائل الساحلية، وسط جموع السكان الذين اجتمعوا لمحاولة إخماد الحرائق، وقد كان وسطهم متطوعون من كل أنحاء الوطن، كرّسوا أوقاتهم وجهودهم وأموالهم لمد يد العون في ظل غياب أو تأخر الدعم الطارئ. 

وسط هذا الجمع كان ثلة من شباب القرية قد اشتبهوا بشاب في محاولة تأجيج وافتعال الحرائق، لينهالوا عليه ضربا، في الحين الذي تدخلت فيه عناصر الشرطة بسياراتها لاقتياده نحو المركز، بينما تبعته العصبة الغاضبة بأصوات منددة، جمعت حول السيارة جمهورا كبيرا من عشرات السكان الغاضبين والذين يعتقدون أن الشاب في سيارة الشرطة هو المتسبب في الحرائق.

ما حدث بعد ذلك كان أن العصابة قد اقتحمت سيارة الشرطة وقتلت الشاب ثم سحلته وسط الجموع الهائجة لساحة القرية وأحرقته على مرأى من الجميع الذين ساهموا بعد ذلك في التنكيل بجثته والتصوير أمامها، حتى هبط ليل ذلك اليوم المرعب. حدث كل ذلك ووُثق على مواقع التواصل الاجتماعي ويبدو أن الكثيرين أيضا كانوا يشجعون خلف الشاشات الانتقام للأرض والضحايا! إلى أن تبين أن الشاب القتيل بريء، كان ثمة حتى تلك اللحظة من يوافق على الجريمة خلف شاشته! 

أخبِرهم أنهم سيندمون، “ما سمعتوليش”

كان ذلك ما قاله جمال بن سماعين، الفنان الجزائري الذي فارق الحياة إثر الحادث البشع، في الثلاثينات من عمره، بينما كان قادما من مدينة مليانة إلى قرية الأربعاء جامعا تبرعات مالية، ليساعد أهله وإخوته في إطفاء الحرائق، كما عبر عن ذلك أمام الكاميرات ساعات قبل موته. 

الفن وجها لوجه مع العنف

تابعت  في حال من الصدمة، ظهور قصص عن جمال، وأعماله ومقاطع له، قال عنه والده: “وليدي ما عندوش مفاتح، عندو صبعو يعزف بيه الغيتار، ويدير بيه الستوب (يؤشر به لاستيقاف سيارات وحافلات النقل). 

“بلادي الجزاير مالغري ڨاع لي صاير”

كانت هذه كلمات الأغنية التي انتشرت عنه، مع صورة له وهو يلون لوحة شجرة اللوز لفان غوخ، ليهديها لأحد أصدقائه الأطفال. الذين أحبهم مع الطبيعة، وكان حسب ما يروى عنه يشبههما في عفويته وبساطته، كان بدوره طفلا كبيرا، محبا مندهشا بكل ما حوله، فنانا في قلبه قبل أن يكون كذلك بيده. 

ما حدث الصيف الفارط، صور لنا مواجهة بين ثنائيتين متعاكستين، كانتا: الأبيض والأسود والخير والشر، كان البون بينهما بذلك الوضوح، وكانت المسافة بذلك البعد، كان جمال يمثل الفن والسلام والجمال، ويمثل القتلة  العنف والكراهية والقبح. هول المشهد يضعنا دون خيار، أمام هذه المقارنة، ويجبرنا أيضا على تأملها، والتساؤل: 

هل كان الفن دوما هو العدو الأول للعنف؟ وكيف يعبر عن كليهما كائن واحد؟ الإنسان؟ 

إن الإنسان ذاته، ذاك الذي يحتضن الجمال بداخله، ويصوره في كلماته ونداءاته، هو أيضا الإنسان الذي يعتنق الكره ويصوره عنفا في تصرفاته. ألا يمكننا إذن أن ندرس الظاهرتين، لنواجه في المقابل العنف، ونوجه مجهوداتنا لمحوه ؟ أن نحاول الوصول بالإنسانية جامعة نحو نموذج الإنسان الحاضن للجمال والسلام؟  

لقد رحت أتساءل، عن العنف والفن، ومعنى كل منهما، وديناميكية العلاقة بينهما، وبحثت في بعض القراءات التي تساعدني على تشكيل صورة مقاربة.

ما العنف؟ 

لقد عثرت على تعريفات تقول بأن العنف في لسان العرب يعني الخُرق في الأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق، عَنُفَ به وعليه يُعْنف عُنفا وعنافة وأعنفه وعنّفه تعنيفا، وهو عنيف إذا لم يكن رفيقا في أمره، واعتنف الأمر، أخذه بعنف. وكلمة (violence) باللاتينية تعني “يؤذي أو ينتهك” مشتقة من الكلمة اللاتينية (Vis) أي القوة في شكلها الفيزيقي الملموس وتعني في اللغة الإنجليزية (Vitality) فيما تشير كلمة (Gewalt) في اللغة الألمانية إلى العنف والسلطة، إذ لا توجد سلطة دون عنف. 

ويبدو أن العنف لم يكن ظاهرة متجذرة في الإنسان منذ بداياته، بل هو ظاهرة حديثة نسبيا، تكاد تزامن ظهور اقتصاد الاستهلاك في المجتمعات بدل اقتصاد الافتراس الأول. ويبدو أن المجموعات والسلطة كانت المحرك للعنف كظاهرة جديدة على الإنسان البدائي. 

في حين يعتقد ابن خلدون أن العنف نزعة طبيعية، ومن أخلاق البشر التي تشمل الظلم والعدوان.. ويرى الغزالي أن سبب العنف هو “العصبية”، التي يرى ابن خلدون بدوره أنها عائدة إلى استعداد أولي طبيعي في الإنسان للدفاع عن قريبه في الدم، ولعلي أتساءل هنا إن كان ذلك يعود لرغبة المرء اللاواعية في حماية واستمرار عتاده الجيني الذي يتشارك نسبة منه مع أقاربه؟ أم إن كان رغبة منه في الحصول على جماعة توفر له الشعور بالأمان مقابل ولائه الفكري والجسدي لها؟ 

وعلى كل، كان لابد من المرور على بعض أشكال العنف، بعد الحديث عن شيء من أصوله، وقد عثرت على ما يعتبر أن العنف العرقي والديني والمذهبي يمكن أن يكونا من أبشع أشكال العنف، وهنا لا يمكنني أن أمنع نفسي من تذكر رأي يوسف زيدان على لسان شخصياته في رواية “حاكم” من أن مناقشة عقائد الناس جالبة للخلاف والفرقة. يبدو أن من السهل الانزلاق لفخ العنف حين يتعلق الأمر بالجماعات، دينية كانت أم سياسية سلطوية حاكمة. 

وفي المقابل، يذهب فرانز فانون لقول “أن العنف هو حجر الزاوية التي لابد منها لبناء صرح الحرية وهو السبيل الوحيد للتخلص من موروث الاستعباد واسترجاع الإنسان المستعبد لذاته وحريته.  فقد أصبح من الضروري ممارسة المغلوبين لعنف مضاد لعنف الغاضبين والمستعمرين”. هل نبرر العنف في هذه الحالة، لدافعه الذي يتمثل في حفظ الحرية ورد العدوان؟ ربما نحن في النهاية ننكر على العنف أصوله الكارهة وآفاقه الضيقة، فإن انتفت، هل يعود من حق البشر استعماله دون الوقوع في تهمة ما؟ هل يكون طريق الفن دوما هو الحل؟

عن الفن وعن المقاومة

نعلم أن مصطلح الفن اليوم بات يشمل فروعا مختلفة وعديدة، ولكنها قد تشترك جميعا في تعبيرها عن صاحبها وحالته النفسية وأفكاره وربما معتقداته. ويبدو أن البشرية قد بدأت بالتعبير عن نفسها منذ وقت مبكر، وتظهر فيها بعض من مظاهر العنف، قد لا يكون البشري الذي نتحدث عنه،  الواقع من الإنسان على الإنسان، ولكنه قد يكون عنفا متخيلا في أساطير تجسد رغبته في القوة والهيمنة، وردات فعله نحو عنف الطبيعة وتحدياتها.  ولعل أشكال الفنون الكلاسيكية أخذت نمطا جماليا تعبيريا، يعكس الجمال الموضوعية ومظاهره ويصوره سواء كان نحتا أم رسما تشكيليا. غير أن للحربين العالميتين يد في تغيير منحى الأمور، والسعي نحو تقبل القبح كمشاهد جمالية أو كما أسماها الفيلسوف الألماني كارل روزينكرانز ب”جمالية القبح”. قد يعود ذلك نحو الشعور الملح بالحاجة للتعبير عن الذات بشكل أصلي وأصيل، إذ كيف يمكن أن يعبر جندي قتل مئات في معركة؟ أو من فقد عشرات من أهله وأصحابه في حرب؟ 

قد يبدو ذلك في النهاية وسيلة للرفض، أو لنبذ الواقع أو لمحاولة تجاوزه بتصويره. كما تعبر لوحة الغارنيكا الشهيرة لبابلو بيكاسو 1937 المستوحاة من خراب القصف الذي سببته الطائرات الألمانية والإيطالية على مدينة غارنيكا الإسبانية. وقد صارت اللوحة رمزا للسلام ورفض الحرب.

وإذا اقتربنا بالزمن قليلا، سيمكننا أن نلمح من الحروب القريبة ظهور فنانين ولوحات تعبر عن الحرب في الألفية، كمثال الحرب السورية، التي تشرب فنانوها التشكيليون مأساة فاجعتها وانقلابتها المفاجئة، وأفرجوا عن واقع فني، يمثل العنف في القصص التي يرويها، كأنه ما عاد من واقع غيره، وكأن الفنان مرآة تعكس محيطه. 

فثمة أعمال الفنان ياسر الصافي التي تحتفظ بعناصر بارزة يعرفها السوريون الذين عايشوها:

وأعمال الفنان عمران يونس،  النابضة بالحياة، حتى تكاد تصور الموت حيا، فهو يصور كلما يبتعد عن مظاهر الحياة التي نعرفها، ويقترب من الموت الذي قد يكون أقرب من الحياة في حالات الحرب. حتى تلك المعاني الرمادية، كان بإمكانه إكسابها شيئا من النبض، لتصرخ صاخبة، عنيفة، تقاتل العنف. 

بعدما شاهدت اللوحات، فكرت في الانتقال للمتحف من أجل قراءة جديدة، بحثا عن مظاهر العنف في اللوحات التشكيلية. يوم الخميس قبل ثلاثة أيام من الفاتح من نوفمبر، كنت أقف صباحا أمام مبنى مقام الشهيد الذي يقبع تحته تماما متحف المجاهد. تصورت أنني على الأرجح قد أجد ما أبحث عنه في مكان مماثل، غير أنه تصادف أن اليوم لم يكن أيام عمل المتحف، قيل لي أنه يفتح أبوابه حتى أول نوفمبر. قصدت بعد ذلك متحف الفنون الجميلة، والذي يقع أسفل المنطقة، ويمكن التنقل إليه بالمصعد الهوائي. تماما أمام حديقة التجارب. 

حين وصلت كانت هناك اقتناءات جديدة عدة، لم تكن موجودة في آخر زيارة لي للمكان [حتى أنه لم يكن قد عُلق بعد الوصف والملاحظات المكتوبة أمام الأعمال]، وكانت أغلبها مما التقطت صوره في الزيارة، وكان من بينها اللوحات القلائل اللاتي  جعلنني أفكر في العنف.  فكرت في نهاية المطاف أن أطلق  عنوانا خاصا على بعض اللوحات، يمثل رؤية مشاهد سطحية، مما أوحت به الأعمال.

لحظات الاحتماء والتشابك والعجلة، توحي بصوت مدافع أو إطلاقات نارية قادمة وقريبة، وخوف مصحوب بشجاعة الاستعداد. 
قد أسميها: “احتماء”. 
ظلام ورمادية الصورة، مع الضوء الذي يشبه إضاءات القنابل وألوان الغازات الكثيفة، التي تكاد تمحو مركز المشهد، والذي يبدو كما لو أنه يخفي بقايا الطائرات المحطمة والمتهاوية،  توزيع اللون المظلم مع الرمادي يوحي بالاختناق وسلاسة تحرك اللون بين طرفي الصورة  تزيد من الشعور به. في نظرة أخرى يبدو المشهد معبرا عن كارثة مناخية.  قد أفكر بتسميتها: “حطام الطائرات الخانق”. 

لقد انتهت الرحلة، بينما أفكر، أن الفن بكل مظاهره قد يكون واحدة من الطرق المثلى للتصدي لمظاهر العنف، ولمواجهة أسبابها وعلاجها، فهل يعقل أن تستفحل الكراهية في باطن من يحب التنوع ويتقبله، وهل يمكن لمن يحب الفن إلا أن يحب التنوع والاختلاف؟ 

بعد حادثة جمال، عبر الكثيرون عن مشاعرهم المتخلطة، بطرق جمالية تليق بالرمز الفني، وبدا كما لو أنهم تمكنوا من النظر إلى القصة كرمزيات، اختاروا سريعا جانبها الأبيض الذي فهموا أنه بدوره يفرض عليهم الرد بطريقته البيضاء السلمية. 

أغنيات وألحان، ولوحات وتمثيليات، ظهرت كموكب توديعي لجمال، كأن الفن والجمال لابد أن يخرج من المعركة إنسانيا أنيقا، حتى لو خرج منها مقتولا. 

المصادر: 

  • العنف البصري في الفن، قراءة في المشهد التشكيلي السوري المعاصر، نور عسيلة.
  • العنف من الواقع المعيش إلى الواقع التّشكيلي، قراءة في بعض أعمال الفنّان السّوري عمران يونس، عاطف عبد الستار.
  • The origins of violence, UNESCO.

كاتب

الصورة الافتراضية
Nadjiba Ameur
المقالات: 0

اترك ردّاً