بطاقة فنيِّة عن الكتاب:
اسم الكتاب: الإصبع الصغيرة. Poussette Petite
اسم الكاتب: ميشال سير. Michel Serres
فهرس الكتاب: 1/الإصبع الصغيرة، 2/المدرسة، 3/المجتمع.
الصنف: فلسفة ما بعد الحداثة.
اسم المترجم إلى العربية: عبد الرحمن بوعلي.
عدد الصفحات: 75 صفحة.
الناشر: وزارة الثقافة والفنون والتراث بدولة قطر.
سنة النشر: 2012 بالنسبة للنسخة الفرنسية، و2014 بالنسبة للنسخة العربية.
عن الكاتب:
ميشال سير من مواليد 1 سبتمبر 1930 في إقليم: لوت إي غارون Lot-et-Garonne، الواقع في جنوب غرب فرنسا، فيلسوف وأديب، ومفكر موسوعي غزير الإنتاج، ومتعدد الاهتمامات، وأحد أبرز الوجوه في المشهد الثقافي الفرنسي المعاصر، تتوزع كتاباته حول: الفلسفة، تاريخ العلوم، الاتصالات، التقنية، الرياضيات، الفيزياء، الأدب، الموسيقى.
حاز وسام الشرف الفرنسي 1985، وتحصل على العديد من الجوائز والأوسمة في فرنسا وخارجها نظير إسهاماته المعرفية والفكرية.
من بين أعماله:
“نظام ليبنتر ونماذجه الرياضية” (1968) “أوغست كونت: دروس في الفلسفة الإيجابية” (1975)، “هرمس” (1977)، “العقد الطبيعي” (1991)، “المناظر الطبيعية للعلوم” (2000)، ” اختلافات في الجسد” (2002)، “العلوم والرجل المعاصر” (2003)، “روايات صغيرة لمساء يوم الأحد” (2006)، “قصص عن الإنسانية” (2006)، “الإصبع الصغيرة” (2012).
ميشال سير – على أهميته- ليس معروفاً لدى القارئ العربي بالشكل الكافي، على اعتبار أن جلّ مؤلفاته التي تزيد على الثلاثين لم يتم ترجمتها إلى العربية، باستثناء كتاب “الإصبع الصغيرة”، ولذلك فإن تقديم أفكار سير للقارئ العربي تبدو اليوم حاجة ملحة، سواء من خلال الاشتغال بترجمة مؤلفاته أو الاهتمام به على المستوى الجامعي والأكاديمي، باعتبار أن أفكاره ومولفاته تغطي مياديناً معرفيةً واسعة وتهم الباحث العربي أياً كان تخصصه.
حول مضمون الكتاب:
“ومن دون أن نلاحظ نحن أي شيء، فقد وُلِد الانسان الجديد” ص13.
أصدر ميشال سير كتابه الإصبع الصغيرة ليُعبِّر به عن حقيقة مدهشة، تَجلَّت خِلال العُقود القليلة الماضية، وهي أنَّ التَّاريخ البشري ولأول مرة يَشهد أحد أكبر التحولات العنيفة على الإطلاق والمتمثل في ظهور “إنسانٍ جديد” يختلف كليةً عن الانسان الذي نعرفه من خلال الآثار التاريخية، يقول سير موضحاً ذلك: “ولا شك أننا يجب أن نرى هنا واحدا من أضخم التمزقات في التاريخ منذ العصر الحجري الحديث” ص8، ويبدو أنَّ درجة الاختلاف هذه المرة لا يمكن أن تضاهيها كل الاختلافات التي يمكن أن نجدها بين انسان الحضارات الشرقية القديمة وإنسان الحضارة اليونانية والرومانية مثلاً، أو بين انسان العصور الوسطى والانسان الحديث خلال عصر النهضة والأنوار.
إنَّ الاصبع الصغيرة التي تشير الى الانسان الجديد الذي أَفرَزَتهُ الحياة المُعاصِرة، خلال العقود القليلة الماضية هي الاصبع التي تتجلى في تعاملها المستمر مع شاشة الهاتف والألواح الذكيَّة وجهاز التحكم في التلفزيون والمكيف الهوائي ولوحة المفاتيح على جهاز الكومبيوتر وألعاب الفيديو…
إنَّنا نشهد اليوم بروزَ جيلٍ جديد يعيش في عالم مختلف بشكل جذري عن العالم الذي عاشه أسلافُنا، وهو ما يشكِّل انقلاباً في نمط التفكير الى جانب الانقلاب في نمط الحياة وأساليب العيش، وبالتالي فإنَّ ثمة رؤية جديدة تحكم الانسان المعاصر تجاه الكون وتجاه نفسه وكل الأشياء التي تحيط به، ذلك الانقلاب يتجلى ــ على سبيل المثال ــ بشكل بارز في التطور العمراني و”النمو الديمغرافي الذي قفز بشكل مذهل خلال العقود الأخيرة” ص9، على اعتبار أن عدد سكان العالم سنة 1900م كان أقل من ملياري نسمة، في حين يبلغ التعداد حالياً سبعة ملايير نسمة!، كما أن حصة الزراعة من النشاط العام قد تقلَّصت أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، اضافة الى ارتفاع معدل حياة الانسان بفضل التقدم الكبير في الطب وتقلص الحروب والمجاعة.
لقد أصبح الانسان الجديد أكثر انفتاحا على العالم بفضل تطور وسائل الاتصال والاعلام، فنحن اليوم نستخدم الفيسبوك والتويتر وغيرهما من وسائط التواصل الاجتماعي وهو ما أتاح لنا ولأول مرة في التاريخ ــ حسب تعبير سير ــ أن نسمع صوت الجميع! ولكنَّ هذه الوسائل كانت لها تداعيات سلبية أيضا، فقد فتحت الباب على مصرعيه للهرج والمرج، و”الفوضى صارت تنبعث من الأصابع الصغيرة وتملأ كل الفضاء” ص50، بفضل الأنترنت والتفلزيون والفيسبوك و”SMS”… و”الشبكات الاجتماعية التي يبلغ عددها الذي لا يحصى أعداداً مماثلة لسكان ها الكوكب وللمرة الأولى في التاريخ يمكننا سماع صوت الجميع” ص51، كما أن ذلك جعل الانسان الجديد منعزلاً أمام شاشته وبعيداً عن جماليات الطبيعة ومغتربا عنها “بحيث لم يعد يرى الطبيعة إلا في لحظات العطل والترفيه والسياحة الخيالية” ص8.
سير متفائل بالإنسان الجديد:
بالرغم من هذه الميزة وغيرها من السلبيات التي تعج بها الحياة المعاصرة فإن ميشال سير وعلى خلاف كثير من فلاسفة ما بعد الحداثة الذين يطبعهم التشاؤم حول واقع ومستقبل الانسان أمثال بيار بورديو وفرانسوا ليوتار، يبدو ـــ سير ـــ أكثر تفاؤلاً لاعتبارات عديدة يطرحها في هذا الكتاب وفي مؤلفاته الأخرى، فهو يمتدح تقدير الناس لبعضهم البعض (أنظر: ص44)، في الفضاءات المختلفة من خلال تقديم الجوائز والاوسمة والاستحقاقات وما الى ذلك وهذا يحيلنا الى الفيلسوف الالماني المعاصر “أكسيل هونيث” أحد أعمدة مدرسة فرانكفورت النقدية في جيلها الثالث والذي يشتغل حول اطروحة غاية في الجدّة والطرافة وهي التي تتعلق بفلسفة الاعتراف.
كما يمتدح سير ما أتاحته التكنولوجيا المعاصرة من تسهيلات لتنقل الانسان والسفر واكتشاف العالم، بفضل القطارات والطائرات “ص54” حيث تضاعفت الأسفار لدرجة أن تصوُّرنا ووعينا بالسكن قد تغيّر وهذا ما من شأنه أن يطرح سؤالاً هاماً بخصوص المكان الذي يعيش فيه الانسان الجديد؟، فبلد مثل فرنسا سرعان ما أصبح مدينة تقطعها القطارات ذات السرعة الفائقة TGV مثل ميترو أنفاق، وتقطعها الطرق السريعة مثل الأزقة، ليصاحب هذه التغيرات وعي جديد بخصوص انتماء الانسان الجديد يمكن أن نطلق عليه “الانتماء المتذبذب”، ففي المدينة الواحدة مثل باريس يمكن أن تعثر على أناس من شتى أصقاع المعمورة، سترى أشخاصاً مختلفين ويتحدثون بلغات متعددة وهو ما يفتح الباب أمام التعددية الثقافية التي يشجع عليها ميشال سير كثيرا.
الى جانب ذلك يؤكد سير على أن الحياة الجديدة ــ برغم العثرات ــ تسير نحو الأفضل أحسن بكثير من الحياة التي كان يحياها اسلافنا على أصعدة عديدة، فالمستقبل يمثل الحلم دائما في حين أن الماضي يبدو كابوسا بالقياس الى ما نحن عليه اليوم، ومها كانت اللحظة الحالية تبدو قاتمة فإن الاحصائيات والأرقام تؤكد على حقيقة أن الانسان الجديد أفضل من انسان الأمس، باعتبار أنه حتى عام 1820م كان 94% من سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر، أما اليوم وبرغم الحروب والكوارث فإن فقراء العالم يشكلون 20% فقط من التعداد الكلي، اضافة الى تحسن الصحة والتعليم، والحريات العامة، نجد كذلك أنه وحتى عام 1973م لم يكن عدد الدول الديمقراطية يتجاوز 65 دولة، أما اليوم فقد صار لدينا أكثر من 120 ديمقراطية كاملة او جزئية او هجينة، وقد كانت السيارة والتلفون والتلفزيون في وقت مضى حكرا على الأغنياء، ثم صارت متاحة لمتوسطي الدخل والفقراء أيضاً، اضافة الى كل هذا ثمة الكثير من الاحصائيات والأرقام التي تشير الى أن حياة البشرية اليوم صارت أفضل.
كتاب الإصبع الصغيرة لميشال سير ــ على صغر حجمه ــ فهو يضم بين دفتيه حقائق معرفية غاية في الجدة والطرافة، ويتمز بثقل دلالي ومعرفي يؤكد على قيمة كاتبه وقدرته على التحليل والنفاذ الى واقع الناس واهتماماتهم، إن سير يراقب مختلف تفاصيل الحياة اليومية للإنسان المعاصر ويحاول باستمرار أن يسجل ملاحظاته بشأن التطورات الحاصلة، وكثيرا ما نجده ــ وهو فيلسوف تاريخ العلم والموسوعي الفّذ ــ يستدعي بشكل رمزي أو جلِّي أهم المعارف والانجازات التاريخية ليعقد معها وبها مقارنات مع الواقع كما هو اليوم.
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي