يمثل الغرب بالنسبة للعرب والمسلمين تحدياً حضارياً حقيقيًا، وواقعاً مفروضاً وملِّحاً بكل ملابساته الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، خصوصًا، في ظل المتغيرات التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة.
وفي الحقيقة، إن اتصال العرب والمسلمين بالفكر الغربي في القرن التاسع عشر لم يكن أول اتصال لهم بهذا الفكر، فقد سبق أن تعرّفوا على منابع الفكر الغربي في القرون الأربعة الأولى للهجرة؛ من خلال ترجمة الآثار اليونانية في العلم، والأدب، والفلسفة، وأحرزوا تقدماً عظيماً في ميادين الفكر المختلفة منحهم قصب السبق والتفوق على العالم بأسره، لكن تلك الصلة انقطعت مدة تسعة قرون أو أكثر لأسباب سياسية واقتصادية ودينية، ثم عادت من جديد تحت ظل الابتزاز الدولي والتدخل السياسي والعسكري في عصر التوسع الاستعماري الأوروبي، وكان الغربُ هذه المرة قد تجاوز العرب والمسلمين في مختلف مناحي الفكر واتجاهاته، بينما اقتصر نشاط أولئك على الاجترار والتقليد.
في هذا السياق ظهرت العديد من الإشكاليات التي أخذت طابع الثنائية في كثير من الأحيان، من قبيل: الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة، الأنا والأخر، الإسلام والغرب.
وكان الفكر الإسلامي المعاصر -في ظل هذا- مدعواً للنظر في هذه الإشكاليات والتعاطي معها بكل ما تحمله من اتّساع معرفي وثقل دلالي؛ ومن خلال ذلك ظهرت العديد من الكتابات التي تتناول علاقة الإسلام بالغرب، وأُقيمت الندوات والمؤتمرات للبحث في مقولات الحوار بين الأديان والتعايش السلمي بين الحضارات في مقابل أصوات أخرى تؤكد على حتمية صراع الحضارات والثقافات.
وقد أخذت هذه الإشكالية (الإسلام والغرب) في التوسع شيئاً فشيئاً؛ بفعل ملابسات دولية وإفرازات ثقافية، خصوصاً، في عصر العولمة والتقنية. “فمنذ نهاية الحرب الباردة أصبح من المألوف التكهن بأن الصراع الفكري (الأيديولوجي) القادم في العالم قد يكون بين “الإسلام” و”الغرب”، وقد استند هذا التكهن على الاعتقاد بأنه من الحتمي والضروري أن يكون هناك ند أو عدو جديد سوف يتحدى المجتمعات الغربية… وبطبيعة الحال فإن هيمنة الغرب على العالم من شأنها أن تولد نوعا من رد الفعل المعاكس”(1).
بمعنى أن غياب الاتحاد السوفياتي وانهيار أيديولوجيته الشيوعية وقيام النظام العالمي الجديد الذي تزعمته الولايات المتحدة الأمريكية خلق فراغاً في الساحة الدولية؛ ولذلك لم يكن من المستغرب قيام نوع من رد الفعل الأيديولوجي لإحداث نوع من التوازن الأيديولوجي، وملء الفراغ الذي أحدثه سقوط الشيوعية، وكان هذا الند الأيديولوجي الذي وقف في وجه الغرب -الذي سعى إلى عولمة كل شيء وفق نموذج غربي- هو الإسلام.
وفي الحقيقة، فإن الغرب لم يكن غافلاً عن الاهتمام والانشغال بالإسلام والعالم الاسلامي، ليس فقط على المستوى السياسي، والاقتصادي، والعسكري، وإنما أيضاً على المستوى الثقافي، والفكري، وقد تجلى ذلك من خلال الدراسات الاستشراقية؛ فمنذ منتصف القرن التاسع عشر تعاظم اهتمام الغرب بالإسلام ثقافة وفكراً وحضارة، “وكان الاستشراق أكثر جهدا وأعظم أثراً في التعرف على العالم الإسلامي من الداخل، وكان قد مرّ بمراحل متعددة تطورت فيها أدواته وأساليبه، تبعاً لتغير أهدافه، فهو بعد الحروب الصليبية غيره في مرحلة القرن الخامس عشر والسادس عشر، وهو غيره قبيل الحرب العالمية الأولى، كما هو غيره بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مرحلتنا المعاصرة اليوم”(2).
وما يمكن التأكيد عليه بهذا الخصوص هو أن استشراق اليوم حاضر -إيجاباً وسلباً- أكثر من أي وقت مضى، وهو ما يستدعي منا اليوم ضرورة الانتباه إلى هذه الحقيقة.
لكن إذا كان الغرب يهمّه الانشغال بالإسلام والعالم الإسلامي؛ باعتباره “الخطر الأخضر” الذي خلف “الخطر الأحمر” الشيوعي، أو باعتباره يشكل فضاءً حضارياً وجمالياً موازياً للغرب، فهل يهمنا نحن العرب والمسلمون أن ننشغل بالغرب؟
في الحقيقة، إن العلاقة بين الإسلام والغرب متبادلة، والعالم العربي والإسلامي لا يمكنه أن يتنصل من الاهتمام بالغرب بشكل كلي، ذلك أن تحقيق نهضتنا مرتبط بمعنى من المعاني بالغرب، فما دامت الشعوب العربية والإسلامية فاقدة للاستقلال الثقافي والمعرفي، ومتعلقة بالغرب في كثير من الجوانب الثقافية والاقتصادية والسياسية؛ فإن إمكانية تحقيق النهضة تبدو صعبة، باعتبار أن حامل النهضة كشرط ضروري –هو الأنا ابتداءً وليس الآخر.
وفي ظل ضعف العرب والمسلمين يقف الغرب بكل مقوماته الحضارية وترسانته الثقافية، وقوته العسكرية والسياسية نداً مقابلاً لطموح النهوض العربي والإسلامي. “باعتبار أن مناخ الثقافة الإسلامية بكل تجلياته الثقافية والروحية والمعرفية والفنية قد طرأ عليه طارئ الثقافة الغربية منذ أن ابتُليّ العالم بطموحات الإنسان الغربي الحديث والمعاصر الذي أراد أن يستحوذ على خيرات الأرض ويستعبد سكانها، وأن يمسخ ثقافات الشعوب كلها باسم الحضر والتنوير، ومهمة الرجل الأبيض القيادية”(3).
وكان العالم العربي والإسلامي في قلب هذه الأحداث باعتباره نداً أيديولوجياً ينازع الغرب البقاء!
بناءً على هذه الحقائق وهذا التفاعل الحتمي القائم بين الإسلام والغرب، فإن هذه الاشكالية (ثنائية الإسلام والغرب) تظل قائمة -ما لم يقدم الطرفين بدائل حقيقية للحوار والخروج من هذه الأزمة- لتصبح العلاقة علاقة تكامل حضاري وتفاعل إيجابي.
هوامش:
(1) حسني محمد نصر، مشكلات الجغرافيا السياسية بين الإسلام والغرب، مجلة إسلامية المعرفة، عدد9، لبنان، 1977، ص171.
(2) شلتاغ عبود، الثقافة الإسلامية بين التغريب والتأصيل، دار الهادي، لبنان، ط1، 2001، ص49.
(3) المرجع السابق نفسه، ص5.
تدقيق لغوي: آية الشاعر
تصميم: طارق ناصر.