يقول سميح القاسم في تقديمه للجزء الأول من السيرة:
“ حين يكتب الآخرون عن الفنان، فإنهم يفتحون له بذلك نافذة على ذاته.. أما حين يكتب هو عن نفسه فإنه يفتح الأبواب جميعًا على مصراعيها. حين يكشف الإنسان عن ذاته فإنه يكتشف هذه الذات. الكتابة عن خفايا أنفسنا تساعدنا في فهم أنفسنا بكل ما تضمره من خير وشر وعلّة وعافية، وفي الوقت نفسه تأخذ بأيدي الآخرين على طريق النور”.
فدوى طوقان (1917-2003). شاعرة فلسطينية، نالت مكانة مرموقة وحظيت بمركز متميز بين الأدباء والشعراء.
هي امرأة عصامية، قاومت المجتمع الذي أراد إخماد بريقها، وإسكات صوتها في بداية حياتها، وناضلت بقلمها وأدبِها للدفاع عن حقوقها وحقوق بلادها السليبة، ونيل حريتها. ولقبت بشاعرة فلسطين، حيث مثّل شعرها أساسًا قويًا للتجارب الأنثوية في الحب والثورة واحتجاج المرأة على المجتمع.
كرّست حياتها للشعر والأدب حيث أصدرت العديد من الدواوين، ومؤلفات نثرية هي: أخي إبراهيم، وسيرتها الذاتية، وشغلت عدة مناصب جامعية، وكانت محور الكثير من الدراسات الأدبية العربية، وحصلت على العديد من الأوسمة والجوائز.
تعرض الشاعرة قصة حياتها منذ ميلادها (الذي لم تعلمه تحديدًا، فقدرته بعد سنوات عديدة، من الشاهد المكتوب على قبر أحد الأقارب الذي استشهد وأمها حامل بها!)، وتمر بسنوات حياتها المتعاقبة تباعًا.
هي سيرة رغم شمولها لأحداث حياتها، ووصف حقيقة مشاعرها تجاه من حولها، وبوحها المنساب -بصدقٍ- فيها، إلا أنّها لم تذكر كلّ تفاصيل حياتها وآثرت كتمان بعضها، فتقول:
“لم أفتح خزانة حياتي كلها، فليس من الضروري أن ننبش كل الخصوصيات. هناك أشياء عزيزة ونفيسة نؤثر أن نبقيها كامنة في زوايا من أرواحنا بعيدة عن العيون المتطفلة، لابد من إبقاء الغلالة مسدلة على بعض جوانب هذه الروح؛ صونًا لنا من الابتذال”.
وتؤكد أن ما كشفت عنه هو “الجانب الكفاحي”، وكيف تخطت الصعاب وتحدت الظروف، وهزمت الواقع المفروض عليها بالإصرار والسعي نحو الأفضل والأحسن.
نُشرت السيرة في كتابين: الأول كان بعنوان “رحلة جبلية – رحلة صعبة“، وقد صدر عن دار الشروق بعمان عام 1985م، وتسرد فيه الشاعرة حياتها في الفترة (1917 – 1967)، بدءًا من ظروف ولادتها ثم طفولتها ومراهقتها القاسية، وخطوة بخطوة في مشوار حياتها، ودربها (الجبلي) الصعب الذي يتدرج بين الصعود والهبوط، حاملةً صخرة الحياة بمتاعبها، ومستعينة بإرادتها وآمالها وأحلامها.
بأسلوب سردي بسيط، ولغة شاعرية، وبوح صادق، وتساؤلات كثيرة تنتقد فيها مجتمعها، وقيوده والعراقيل التي لاقتها في مشوارها الأدبي ومسيرتها التعليمية والتي أجبرتها على ترك مدرستها ودراستها، في ظل النظرة المنقوصة التي كانت تلاحق المرأة في مجتمع ذكوري يتمسك بتقاليد صارمة.
وكيف كانت على شفا حفرة من الهلاك لولا مساعدة أخيها -الشاعر المعروف- إبراهيم طوقان الذي أنقذها من بؤسها وتعاستها كما تروي:
“في تلك الفترة القاسية من سني مراهقتي، كانت يد إبراهيم هي حبلُ السلامة الذي تدلّى، وانتشلني من بئر النفس الموحشة المكتنفة بالظلام”،
وتعزي إليه الفضل في الأخذ بيدها نحو الشعر ونحو الحياة الأدبية، فاحتلّت مكانة مرموقة في الشعر الحديث لاحقًا.
كما تحدثت عن صراعاتها الداخلية والخارجية، ورسمت الشخصيات التي تركت أثرها الذي لا يمحى على حياتها ثم غابت في طوايا الزمن ومتاهاته، ووصفت بدقة وصدق مشاعر الفقدان التي لاحقتها بعد رحيل وفراق الكثيرين -بشكل متتابع- من الأهل والأصدقاء والأحبة.
صوّرت الشاعرة الأحداث السياسية والاجتماعية، المحيطة بها وبوطنها ومدينتها، والتي امتدت منذ فترة الانتداب البريطاني عام 1917م، مرورًا بنكبة فلسطين عام 1948م، حتى النكسة المريرة عام 1967م، وبعد نكسة حزيران عام 1967، خرجت من عزلتها لتصطدم بالعالم، وتواجه الحياة العامة، فقامت بحضور المؤتمرات واللقاءات والندوات التي كان يعقدها الشعراء والأدباء الفلسطينيون البارزون، مثل: محمود درويش، وسميح القاسم، وإميل حبيببي وغيرهم.
وتصف بداية المواجهة بأنها متعِبة صعبة يعوزها التكافؤ.
إن الكتب لا تكفي كمصدر لمعرفة الحياة، وما في العلاقات البشرية من تعقيد وتصادم. علينا أن نحيا في الحياة ذاتها؛ فتجاربنا الخاصة تظل هي الينبوع الأصلي لتلك المعرفة.
وفي نهاية الكتاب يوجد فصل بعنوان “صفحات من مفكرة” تضمن بعض اليوميات والمذكرات، وهي النواة التي انبثق منها هذا الكتاب، إذ أنها كانت تنشر تلك اليوميات في مجلة “الجديد” باقتراح من الشاعر محمود درويش.
أما الجزء الثاني من السيرة الذاتية، فقد حمل عنوان “الرحلة الأصعب“:
وقد صدر عن دار الشروق بعمان أيضًا عام 1993م، وفيه تكمل الشاعرة قصة حياتها تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد نكسة حزيران عام 1967، وحتى الانتفاضة الأولى للشعب الفلسطيني عام 1987، وضمنته بعض القصائد والأبيات التي قالتها في مناسبات معينة، فقدمت للقرّاء فرصة لفهم قصائدها بتقديم الأسباب والدوافع لكتابتها، وشرح الظروف المحيطة بها وبمجتمعها.
كما تتحدث عن المجتمع، والتغيرات التي طرأت عليه وعليها؛ فتعطيك مرجعًا تاريخيًا لأهم الأحداث التي جرت في زمانها، مع وصف دقيق لأحوال الناس ومشاعرهم؛ فكان هذا الجزء أكثر توثيقًا للأحداث العامة، والشخصيات السياسية البارزة والكتّاب والشعراء المعاصرين لها، بخلاف سابقه الذي كان معظمه أحداثًا شخصية وأمورًا خاصة، فوصفت حال السكان والحركة الأدبية بعد حرب 1967:
” لقد كانت الأقلّيات العربية التي بقيت متجذرة في أرضها كشجرة الزيتون الفلسطيني، منقطعة انقطاعًا تامًا عن مواكبة الحركات الأدبية، والمعطيات الفكرية في البلاد العربية، فلم تكن المطبوعات العربية على مختلف أنواعها واتجاهاتها لتجد لها منفذًا تنفذ منه إلى أولئك الظامئين المتعطشين لها، فإذا أتيح لأحدهم الوقوع على كتاب عربي غمرهم الفرح، وأخذوا يتناوبون قراءته ونسخه واحدًا بعد الآخر، كأنما وقعوا على كنز”.
القارئ للكتابين ستصيبه الدهشة من التغيرات التي طرأت على شخصية الكاتبة، وكيف جعلت كل المصاعب التي واجهتها سلّمًا ترقى به نحو تحقيق ذاتها، وكيف صنعت من ذاتها المقهورة امرأة قوية لها كيانها الخاص، وكلمتها النافذة.
لكن رغم ذلك تجد أنّ الكاتبة لا تزال تحمل في داخلها العقد الطفولية ذاتها، وخوفها من المجتمع وانتقادته: فأخفت أسماء محبيها، ومن وربطتهم بها علاقة حب، واكتفت بالإشارة لأثر ذلك الحبّ في نفسها، ورأيها الذي كونته بشأنه، ومن أمثلة ذلك:
الحبّ يُحرّك الحياة، وإنّ ساعة واحدة يعبّ فيها القلب من ينابيع السعادة يمكن أن تشمل دهرًا من الغبطة والتفتح والفوحان. من الصعب توضيح هذا لمن يقيسون الوقت بالساعة في كل الحالات والمواقف، ولا يستطعون قياسه بالشعور والإحساس ودقّات القلب.
ما يعاب على الكتابين: الأخطاء اللغوية الواردة في الطبعتين.
في النهاية، ربما سيخالف القارئ الكاتبةَ في كثير من آرائها ومواقفها، لكنه سيجد نفسه متعاطفًا بصورة أو بأخرى مع قوتها وكفاحها، ولعل هذه السيرة تضيف خيطًا ينعكس أمام السارين في الدروب الصعبة، وتوصل لهم رسالة الشاعرة بأن “الكفاح من أجل تحقيق الذات يكفي لملء قلوبنا وإعطاء حياتنا معنى وقيمة”.
تدقيق لغوي: آية الشاعر