شهد العالم الكثير من الثورات، شعوب تقف بعكاز وعيها ضد دكتاتوريات عاثت فسادًا، وبمستقبل أمم وشعوب، طالما حلمت بمعيشة هنيئة في كنف السّلم، فوضعوا أحلامها في كفن، ورموها خارج مجرة درب التبانة؛ وهذا ما يجعل شعبًا يحترق تحت حكم طغاة لسنوات، إلى أن يقول “كفى” لنظام ذبحهم وذبح أطفاله.
لنسلط الضوء ولو باختصار حول الثورة، لا أريد التعريج حول مفهومها، فهي تتغير حسب كل ثقافة والخصائص الإجتماعية لكل فئة، ومن حضارة لأخرى، لكن مبادئها تشترك في نقطة مركزية ألا وهي “التغيير/التحول” نحو مبادئ جديدة اِجتماعية بالدرجة الأولى، واِقتصادية ثانيًا.
لعل أبرز المنظرين وأشهرهم “كارل ماركس” بمنهجه وفكره الاشتراكي، الذي لطالما نادى به؛ خدمة للبروليتاريا والطبقات الكادحة، التي دافع عنها باسْتِماتة، بغية الوصول إلى ما يصبو إليه، وهو: تحرير الشعوب ومنحهم حياة كريمة، وسلم “عالمي” يستحقه الإنسان.
يرى “كارل ماركس” أن الثورات السابقة، ومن أبرزها الثورة الفرنسية، هي ثورات محدودة في التاريخ، لم تتمكن من تحقيق إلاّ بعض المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مثل تغيير ملكية وسائل الإنتاج من فئة قليلة إلى فئة أوسع وأكثر عدداً، ولكن علاقات الإنتاج بقيت دون ذلك وبقيت الأكثرية مسحوقة مضطهدة؛ لذلك ترى الماركسية هذه الثورات مجرد ثورات جزئية، أو ثورات سياسية، لا يتحرر من خلالها إلاّ القلة القليلة من الأفراد والجماعات، ووصول فئات فقط محددة، تدّعي بعد ذلك أنها تمثل مصالح المجتمع بكامل أطيافه. فالثورة الفرنسية لم تستطع أن تحرر كلّ الناس من ربقة الاستعباد، إلاّ إذا أفترضنا أن كل الفرنسيين ينتمون إلى الطبقة البرجوازية، وهذا هو المستحيل بعينه، والثورة حتى تكون ثورة يجب أن تحرر المجتمع بأسره، لا أن تقتصر على فئة دون أخرى. ويؤكد ذلك “كارل ماركس” بقوله:
”إن الطبقة الثورية تمثل منذ البداية المجتمع بأسره، فهي الكتلة الكاملة للمجتمع في مواجهة الطبقة السائدة“(1)، والطبقة الثورية المقصودة هي الطبقة البروليتارية التي ستدشن عصر الثورات الحقيقي، عندما تعي الطبقة العاملة أهدافها يستحيل إزاحتها عن أهدافها، ويقول “كارل ماركس” منظراً لذلك اليوم: ”إنّ الملايين من البروليتاريين يرون رأياً مخالفًا في هذه المسألة، وسوف يثبتون ذلك في الوقت المناسب عندما يجعلون وجودهم متناغماً مع ماهيتهم، بطريقة عملية بواسطة الثورة“. (2)
إنّ الاستنتاج الذي يقودنا لفهم المنظور الماركسي هو أن الثورة ظاهرة اجتماعية أساسية في حياة الناس، لذلك فهي ترتبط بحركة البنية الاقتصادية في المجتمعات، ويترسخ الوعي بضرورتها، و”تُعقلن” للتناقض بين القوى الجديدة للإنتاج وسابقتها من القوى، فتصادمهما ينشئ مرحلة من الثورة الاجتماعية والتي تكون حتمية ضرورية.
إنّ الثورة من المنظور الماركسي تنبني على شروط تاريخية محددة، ومقدمات موضوعية وذاتية، ويسمى بالوضع الثوري، الذي يظهر نتيجة حالة من التململ، تفضي إلى عدم قدرة الطبقات الحاكمة على أن تواصل حكمها وفق المنوال القديم؛ نظرًا لتذمر الطبقات المضطهدة وتفاقم البؤس والفقر، وتتحرك الجماهير بعدها لتكون ثورة.
وتفرق الماركسية بين الثورة البورجوازية والثورة البروليتارية، فالأولى تريد السيطرة على السلطة على السلطة والهيمنة على مقاليد الحكم، لذلك فهي ثورة سياسية، أما الثورة البروليتارية، فهي الثورة القادرة على إقامة مجتمع اشتراكي يستطيع الإطاحة بالمنظومة الرأسمالية المهيمنة على الدول؛ ولذلك يجدر بنا أن نقول: أن الثورة الاشتراكية قوة فعّالة في التاريخ، بحيث هي قادرة على محو الفوارق الاجتماعية بقيادة البروليتاريا، ومساهمة الفلاحين، إذ تتوحّد حولها الفئات الواسعة من العمال والقوى الديمقراطية المختلفة؛ للنضال ضد الرأسمالية ومن أجل اشتراكية عادلة.
ويذهب الفكر الماركسي بعيداً، بحيث يعتبر الثورة مرحلة حتمية، تحدث نتيجة ضرورات اقتصادية تدخل من خلالها وسائل الإنتاج في صراعات مع علاقات الإنتاج ومع السلطة السياسية القائمة لإحداث أزمة، تنطلق من خلالها حقبة الثورات الاجتماعية، والثورة الاجتماعية ما هي إلا انقلاب، نوعي وجوهري، في مجموع نظام العلاقات الاجتماعية يشمل البنية التحتية، والبنية الفوقية؛ لتفكيك المجتمع القديم وتحطيم أشكاله القديمة وسلطانها، ليسمح بإقامة دولة البروليتاريا، التي ستتحمل العبء الكبير في بناء المجتمع الاشتراكي الجديد.
وفق كل هذا، يجب ذكر أهم نقطة طالب بها “كارل ماركس”، وهي بأن تكون الثورة دائمة لا تتوقف بمجرد تحقيق نتائج إيجابية في زمنها فقط، وأن تكون ثورة عالميّة مستمرة لا انقطاع فيها، لأن انقطاع الثورة هو بمثابة ”موت“ لجهود النضال.
المراجع:
(1). كارل ماركس وفريدريك إنجلز: الإيديولوجيا الألمانية، ترجمة: فؤاد أيوب، سوريا، دار دمشق للطباعة والنشر، 1976، ص57
(2). نفس المصدر السابق، ص54.
تدقيق لغوي: آية الشاعر
تعديل الصورة: طارق ناصر