في كثير من الحالات يكون الفن سياسيا بإمتياز بما يحمله من دلالات وتيمات، تَنتج اعتبارا للسياقات السياسيّة والاجتماعيّة التي ينشأ فيها، وأحيانا أخرى لا يكتفي بكونه كذلك إنّما يُعرب عن نفسه صراحة بوصفه أداة للنضال السياسي والإجتماعي، ويمكن أن نعثر على هذا النوع من الفنون في محطات كثيرة من تاريخ الشعوب، ففي القرن التاسع عشر مثلا شكَّلت موسيقى الجاز الأمريكية وهي إرث للزنوج الذين كانوا يشتغلون عبيدا عند البيض في أمريكا، شكلا فاعلا من أشكال المقاومة ضد الاضطهاد والقهر السياسي والاجتماعي، وكثيرا ما تحولت هذه الموسيقى وغيرها من الفنون، من الرقة التي تصف الحب والجمال الى فن سياسي يَتَّصف بالخشونة التي تقف في وجه القهر السياسي والظلم الاجتماعي.
إننا يمكن أن نعثر على عديد التجارب الإنسانية والتاريخية التي يتداخل فيها الفنِّي مع السياسي، ومع الإجتماعي السياسي أيضا، ولأهمية الفن والتجربة الجمالية في تحديد مسار الإنسان، كثيرا ما عبر بعض المفكرين والدارسين عن الأهمية التي يكتسيها الفن بوصفه حقيقة من حقائق التاريخ الإنساني والحضاري، فجورج هانز غادمير يَعتبِر أنَّ الحقيقة الفنيَّة هي الأكثر أصالة والأطول عمرا من الحقائق الأخرى، على اعتبار أنَّ الفن يُلامس أعماق الإنسان ودواخله، ويجسِّد هواجسه ويستبطن ما خفي داخل دهاليز النفس الإنسانية.
بهذا الاعتبار نتساءل: كيف يُمكن أن نصف موقع الفن الجزائري في ظل الحَراك الشعبي الحاصل اليوم، وهو حَراك أساسه الأول سياسيٌّ بامتياز؟ أي دور يجب أن يلعبه الفن لكي يكون مرافقا إيجابيا للحَراك الشعبي في الجزائر؟
1 ــ موقع الفن الجزائري في الحراك الشعبي:
خلال الجمعة الرابعة من الحَراك الشعبي الذي تشهده الجزائر، رفع كثير من الجزائريين، وفي مختلف مناطق الوطن، صورة شاب كان قد أطلق عبارة، تلقتها وسائل التواصل الاجتماعي كما يتلقى الهشيم ألسنة من النار، “يتنحاو قع” كانت عبارة الشاب ياسين التي أطلقها على المباشر أمام مراسلة قناة إخبارية عربية، مُفنِّدًا ما كانت تقوله مذيعة القناة الإخبارية التي قالت إن الجزائريين يعبرون عن فرحهم بقرارات الرئيس بالتراجع عن ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية، لتصبح هذه العبارة، “يتنحاو قع” هشتاغ وتِيمة فنيَّة ذات بعد سياسي تم تداولها على نطاق واسع كونها تعبير صادق عن المطلب الأساسي الذي يريده الحَراك الشعبي في الجزائر، وما زاد من قيمتها الدلالية، النفسية والروحية هي أنها جاءت باللهجة الدارجة الجزائرية، وكونها عبارة تلقََّاها المتظاهرون بالترحيب الكبير، فهذا يعني تمسُّك الجزائريين بهويتهم، واللهجة الدارجة إحدى الصور المكوِِّنة لها، وهي في النهاية شكل من الأشكال التعبيرية والفنية.
وقد تفنن مجموعة من الشباب في رسم صورة الشاب الثائر، ومعه العبارة التي صارت سرديَّة محوريَّة من سرديات الحَراك الشعبي، فعلوا ذلك بطرق فنية متنوعة، سواء من خلال الاستثمار في ما تتيحه التكنولوجيا من آليات للرسم التقني، أو من خلال الرسم العادي، ليبدو مشهد هذه الجزئية الفنية والسياسية في الآن نفسه، فريدا من نوعه خلال المظاهرات الأخيرة، أعطاها بعدا جماليا، ودافعا نضاليا أيضا.
هذه المرافقة الفنية للحَراك الشعبي لم تقتصر فقط على إبداع الصورة، واللفظ، فقط، بل تعداهما إلى مشاركة بعض الفنانين، المعروفين منهم أو المغمورين، إلى المشاركة في الحَراك الشعبي ودعمه من خلال فيديوهات انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، في اليوتيوب والفيس بوك، وقد لاقت كمًّا هائلا من المشاهدات والتفاعلات.
ومن بين تلك الأغاني الفنية التي عبرت عن تلاحمها ومساندتها للحراك الشعبي في الجزائر يمكن أن نذكر على سبيل المثال بعض الأعمال الفنية وهي:
أغنية: ألو سيستام، للمغنية رجاء مزيان.
أغنية: la liberté للمغني سولكينغ.
أغنية:algerie mi amor للمغني l’lalgerino
أغنية: لازم يطيروا، للمغني لطفى دوبل كانون.
يمكن أن نشير الى ميادين فنية أخرى غير الأغاني الموسيقية التي كانت مرافقة للحَراك الشعبي، ومن ذلك القصائد الشعريَّة على غرار قصيدة شعرية تم تداولها بشكل ملفت في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد جاء في مطلعها:
الشعب قالها جازما اليوم نأخذ ما اغتُصِب
عُمرُ الفساد قد انقضى وانتهى وقت اللعبِ.
إضافة الى ذلك عمل الناشط “أنس تينا” الى وضع فيديو قصير (رابط الفيديو) معبرا عن الحَراك ومساندا له بعنوان “لا.. أنت لا تستطيع”، وهو عمل فني مليء بالدلالات والايحاءات السياسية الصريحة توجه بها الشاب أنس الى رئيس الجمهورية معبرا له عن رفض الجزائريين لترشحه لعهدة رئاسية خامسة.
كما لا يمكن تجاهل القيمة الفنية لأغاني مدرجات ملاعب كرة القدم الجزائرية التي أضافتها للحَراك الشعبي في الجزائر، فقد ترددت خلال المظاهرات كثير من الأغاني والأهازيج التي تحمل بعدا سياسيا، والتي في أصلها خرجت من رحم مدرجات ملاعب كرة القدم الجزائرية.
هذه الأعمال الفنية كلها حملت في طياتها هدفا مشتركا وهو البحث عن الحرية والديمقراطية والكرامة للجزائريين.
2 ــــ أهمية ودور الفن الجزائري في سياق اللحظة الراهنة:
إنَّ هذه الأغاني والأعمال الفنية التي رافقت هذا الحَراك من شأنها أن تعزِّز من تلاحم الجزائريين بعضهم ببعض، وأن تزرع عندهم الأمل بمستقبل أفضل، ويمكن أن نعود قليلا إلى الوراء لنلاحظ أنَّ هذا النوع من الفيديوهات والأغاني، كان قد رافق إنجازات المنتخب الوطني لكرة القدم مثلا، خصوصاً في مونديال 2010، ومونديال 2014.
هذه الفيديوهات والأغاني بلا شك لها تأثير كبير في هندسة مشاعر الجزائريين اتجاه بعضهم بعضاً من جهة، واتجاه النظام السياسي القائم في البلاد من جهة ثانية.
إذا كانت تجربة التسعينيات في الجزائر افتقرت إلى المرافقة الفنية والأدبية، على اعتبار أنَّ القاء نظرة على الانتاج الأدبي والفني التي جسدت تلك الفترة قليل جدا، بالنظر الى أهمية المرحلة التاريخية، فإنَّه ونحن نعيش تحولا سياسيا واجتماعيا وشعبيا جديدا هذه الأيام، يجب أن لا نكرر أخطاء الماضي، وأن يكون الفن حاضرا وفاعلا كما يجب له أن يكون.
إن تجربة الحَراك الشعبي اليوم في الجزائر تحتاج إلى شحذ همَّة النخب الفنية والأدبية في الجزائر لمرافقة هذه التطورات التاريخية الحاسمة، والخروج بالوطن والإنسان الى برالأمان، فما حاجتنا إلى الفن في هذا الظرف ما لم يكن، هذا الفن نفسه، مساعدا للإنسان على فهم نفسه وفهم اللحظة التاريخية الراهنة، ومساعدا له على الخروج من هذا التحدي في ثوب المنتصر.
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي
تعديل الصورة: عمر دريوش. ( كل حقوق الصور محفوظة لمالكها)
رأي الكاتب لا يعبر بالضرورة عن آراء النقطة الزرقاء.