– كيف أرست الإنسانيّة قواعدها الأخلاقية؟ –
ينتهجُ فريديرتش نيتشه، الفيلسُوف الألمانيّ والباحث في اللّغويّات ( 1884-1900 )، في وصفه للمنظومات الأخلاقيّة نهجًا يجمع بين تطوّرات الفكر التّاريخية والنّفسية. وهو إلى ذلك يرفض نظريّات وصف الأخلاق السّائدة، والتي عمل على تطويرها علماء النّفس الإنجليز في إطار منهجهم النّفسيّ الخاصّ. وذلك رغم إشادته بمحاولاتهم الدّؤوبة والجريئة. لقد قدّم نيتشه وصفًا دقيقًا مدعّما بتشبيهات رمزيّة لمنظومته الخاصّة لوصف الأخلاق القائمة على التمييز بين نمطين أصليّين.
«إنّني، وأثناء تجوالي بين أنماط الأخلاق العديدة، الرهيفة منها والغليظة، التي سادت العالم حتى الآن، والتي لا تزال تسوده، عثرتُ على بعض السّمات التي اقترنت بعضًا ببعض وتردّدت بصورة منتظمة، إلى أن تكشّف لي في النهاية، نمطان رئيسيّان انبرى بينهما فارق أساسي. هناك أخلاقٌ للسّادة وأخلاق للعبيد. وتتولّد الفروقات القيمية في المجال الأخلاقي إمّا من صلب الفئة الغالبة التي استمتعت بتميّزها عن فئة مغلوبة، أو من صلب هؤلاء المغلوبين، العبيد والأتباع على اختلاف درجاتهم.»
في هذه الفقرة (260) من كتابه ما وراء الخير والشّر (1886) يضعُ نيتشه أولَى الفُروقات التّمييزية بين النمطين، ليخصّص لنظريّته فصلًا كاملًا في كتابه، الذي صدر بعد سنةٍ واحدة، جنيالوجيا الأخلاق (1887).
«يبدو لي واضحًا أن مثل هذه النّظرية تشوّش على بؤرة تكون مفهوم “الحسن” الصحيحة: إن حكمنا على شيء ما بأنه “حسن” لا يتأتّى من جهة الذين نُبدي لهم “حُسنًا” بل إن “الأخيار” أنفسهم، وذلك يعني النبلاء وأصحاب المقدرة والمكانة الرفيعة والهمة العالية، هم الذي أحسوا واعتبروا أنفسهم وأعمالهم خيّرة وحسنة، أي من الدرجة الأولى، بعين الضّد من كل ما هو دنيء ووضيع الهمة وعامّي ومن الرّعاع. وانطلاقًا من قمة هذا الشعور بالمسافة، كان هؤلاء هم الأوائل الذين استباحوا لأنفسهم الحق في أن يخلقوا القيم وأن يسكّوا لها أسماءً، فما شأنهم بالمنفعة العامّة في نهاية الأمر؟
إنّ الشّعور بالنّبل والمسافة، وذلك الإحساس العميق والكامل، الدائم والمسيطر، لدى نوع أعلى سائد في علاقته بنوع أدنى، بنوع سفليّ إنما هو أصل التّضاد بين “الحسن” و”الرّديء”. إن حقّ الأسياد في إعطاء الأسماء يتّسع إلى حد يجعلهم يعيّنون أصل اللّغة ذاتها بوصفه تجلّيًا لقدرتهم، وكونهم أصحابًا للسّيادة؛ فهم يقولون: هو كذا وليس كذلك، ويختمون بذلك على كلّ شيء وعلى كلّ حدثٍ بنبرة ما ويأخذونه إلى حوزتهم بوجهٍ ما.
وفي هذا الأصل، يكمن أن لفظة “حسن” في أوّل الأمر لا تتعلّق ضرورة بالأفعال غير الأنانيّة كما توحي بذلك خرافات جنيالوجيّ الأخلاق هؤلاء. وعلى الأرجح فإنه عند تدهور أحكام القيمة الأرستقراطية فحسب إنما يحدث أن يفرض هذا التّضاد التام بين الأنانيّ /غير الأنانيّ نفسه شيئًا فشيئًا على الضّمير الإنسانيّ.» (الفقرة 2)
«إنّ العبارات التي وضعتها مُختلف اللغات، ومن وجهة نظرٍ لغويّة بحتة، تعود جميعها إلى نفس التّحول المفهومي، أن الشريف والنبيل في معنى مرتبته من القوم هو، في كل مكان، المفهوم الأساسي الذي منه بالضرورة ينشأ الإنسان الخيّر في معنى شريف النفس والإنسان النّبيل في معنى عالي النفس والمفضّل: نشوء يجري دوما في تواز مع ذلك النشوء الآخر الذي يقوم في آخر المطاف بنقل العامّي والوضيع إلى مفهوم الشّر والدّناءة.» (الفقرة 4)
________________________________
من أجل إيضاح مفهوم ثنائية النّبيل والوضيع وعلاقتها بثنائية الخير والشّر عند نيتشه، لا بدّ من الرّجوع إلى الوراء قليلًا، حيث قام بنفسه بنبش أولى تجلّيات هاتين القيمتين الأخلاقيتين داخل التّجمعات الإنسانية. فقد كان الإغريق القدامى يعبّرون عن القيمة الأخلاقية العليا بـكلمة “arété”، والتي ترجمها الرّومان بـ “virtus” وتعني “الفضيلة”. فإذا سألنا هؤلاء عن السّبيل الأخلاقيّ الذي ينبغي للمرء أن يسلكه فإنهم سيحدثوننا عن “الفضيلة” عوضًا عن “الخير”. لكن لا ينبغي بأيّ حالٍ أن نحملَ معنى الفضيلة لديهم على ما توحي به هذه الكلمة لدينا من معاني العفّة والصّلاح.
إن كلمة “فضيلة – virtus ” عند الرّومان تستمدّ معناها من جذرها اللّغوي الأصليّ “vir” بمعنى الإنسان الذّكر، وهو معنى يوحي بالقوّة والشّجاعة: إنّ الفضيلة عند الرّومان هي قيمةٌ أخلاقية للمحاربين الأبطال، وهو إيحاءٌ بعيد عمّا نقصده بالفضيلة في أيّامنا.
أمّا في الثّقافة الإغريقيّة، فالفضيلة تُوحي بالجودة والإتقان. إلّا أنّ نسبية هذا المعنى يفرضُ تحديد وظيفةً مسبقة ينبغي إتقانها. إنّ افتراضنا لسكّين متقن الصّنع، يعني أنه يقطعُ بشكلٍ جيد ومتقن. وعلى هذا الأساس، يعمّم الإغريق مفهوم الفضيلة/الجودة على كلّ شيء آخر ينبغي أن يقوم بوظيفته المسندة إليه. أي أن كلّ شيءٍ إنّما وجد من أجل وظيفة محدّدة (العين للرّؤية، الحصان لحمل الفارس) وأنّ الفضيلة هي تحقيق هذه الوظيفة النّهائية، فإن وُجدت عينٌ ما لم تحقّق وظيفة الرّؤية فهي عين ذات عيب، عينٌ ناقصة ورديئة. وتطبيق هذا المفهوم على الأحكام الأخلاقيّة يجعلنا نخلُص إلى أنّ للإنسان وظيفته ومهمّته، وأن فضيلته لا تكمن إلّا في حسن أدائه لهذه المهمّة، بغضّ النظر عن أيّ تحديد تبنّاه الإغريق لهذه الوظيفة.
وبعيدًا عن مزيدٍ من الاسترسال اللّغوي، يمكن لهذا العرض التّاريخي أن يلخّص أوّل نمطٍ أخلاقيّ لمنظومة نيتشه: ” أخلاق السّادة “. إنّ الأخيار من النّاس هم النّبلاء، الأقوياء، الفضلاء الذين يقومون بمهامّهم كما ينبغي، وهم الذين يحدّدون معنَى “الخير”. أمّا غيرهم الضّعفاء فهم يمثّلون “الشّرّ”، ليس بمعنى العدوان والظّلم، وإنما بمعنى الرّداءة والحقارة.
وفي جهةٍ مقابلة، يظهرُ النمط الثّاني ” أخلاق العبيد ” كردٍّ فعل من الفئة المستضعفة لتعزيز شعورها بالخيريّة والأفضليّة رغم تبعيّتها للأسياد. وسيأتي المقال الثّاني كاستكمالٍ لعرض اقتباسات نيتشه وشروحاته حول هذا الجزء الثّاني من نظريّته الأخلاقية.
المراجع:
- جنيالوجيا الأخلاق، فريديرتش نيتشه، ترجمة فتحي المسكيني، المركز الوطني للترجمة، تونس (2010).
- ما وراء الخير والشّر: تباشير فلسفة للمستقبل، فريديرتش نيتشه. ترجمة جيزيلّا حجّار، دار الفارابي، بيروت، لبنان (2003).
- Nietzsche : « ‘‘Bon et méchant’’, ‘‘Bon et mauvais’’ »
تدقيق لغوي: قابة سليم.
مراجعة: بشرى بوخالفي