يُعد ميرسيا إلياد[1] من بين أهم المُؤسِسين لعِلم وتاريخ الأديان في القرنِ العشرين وأحد أبرز المُفسرين للرُّموز الدِّينية والأساطِير في العالم، من بين أهم الأفكار التي عُرف بها تتجلى في عبارة كررها في كتابين له؛ البَحث عن التَارِيخ والَمعنى في الدِين ترجمة سعود المولى -ص41- “فإذا عدنا إلى أقدم مستويات الثقافة نجد أن العيش ككائن بشري هو بحد ذاته فعل ديني. إذ إنَّ الغذاء والحياة الجنسية والعمل، لها قدسية. بتعبير آخر، لأن نكون-أو بالأحرى لأن نصير بشراً – يعني إننا كائن “دِيني” “. وفي كتابه الثاني تَاريخ المُعتقدات والأفكار الدينية الجزء الأول ترجمة عبد الهادي عباس -ص9- “وعلى مستويات أكثر قِدما من الثقافة فإٍن العيش بصفة كائنٍ بشري هو في ذاته عَمل دِيني، لأن التّغذية والحياة الجنسية والعمل لها جميعها قيمة مرتبطة بالأسرار. بعِبارة أخرى أن تَكون- أو بالأحرى أن تُصبح – انسانا أن تكون “مُتديِنا” “، كما نلاحظ فأنَّ الترجمتين مُختلفتين قليلا لكن المعنى يتغير كليا عما يشير إليه ميرتشا، وعند العودة إلى الكتاب الأصلي باللغة الانجليزية نرى الترجمة الثانية للعبارة أصح إستنادا الى فكره .
تميَّزت بداية القَرن العِشرين [2] بظهور منهجية تاريخية-اجتماعية-إثنولوجية جديدة إضافة إلى مَناهج إختِزال الظواهر النفسية في مجال الأبحَاث المقدسَة والمدنسَة (الدنيوي) وسُلوك الانسان المُتدين، وهنا يأتي دور ميرتشا للخروج من مأزق الفِكر الأوروبي من أزمة المَعنى وغِياب المُتعالي. كان السبب الأساسي وراء هذه الأزمة هو التَدين وكان حلها دينيًا أيضًا كما يعتقد إلياده. ولهذا كانت دراسته لتاريخ الأديان بمنظور ثلاثي؛ تَاريخي ،تفسِيري وفِينومُيلوجي. أصَر على المنهج الفِينومُينولوجي [3] الذي يَدرس البنية والمعنى بعمق من خلال أنساق ثقافية، بحيث لا يقارن بين الأديان بل يشتق النسق العام للظاهرة من خلال أكبر عدد من الأديان (خزعل الماجدي:علم الأديان ص130). ومن خلال خلفيته الدينية المسيحية الارثُوذكسية وتأثره بالهندوسية (اليوغا والبوذية) عندما عاش في الهند. تتركز رؤيته للدين بمجموعة خصائص كالآتي: 1-المعارضة بين “المقدس” و “المدنس” كأساس للدين وميزة أساسية تنتشر في تاريخ الأديان ؛ 2-الرمزية باعتبارها الوسيلة الأساسية للتعبير الديني ؛ 3-عصور ما قبل التاريخ (العصر القديم) باعتبارها حقبة أساسية ، بل حقبة حاسمة في تاريخ الأديان حيث إنه يقف بشكل مباشر على جانب “القديم” ويعتقد أن “الحديث” هو طريق خاطئ ومصيري لفقدان المعنى ، وهو طريق يمكننا الهروب منه فقط من خلال العودة إلى القديم. (تم تعزيز هذا الموقف من خلال تجربة إلياده الخاصة في الهند )؛ 4-الافتراض القائل بأن الإنسان هو بطبيعته إنسان متدين (homo religiosus) وهذا ما يعتبر الشكل المثالي المزعوم للإنسانية. هذا الافتراض [4] الذي تقوم عليه نظريات ميرتشا إلياده عن سلوك البشر تجاه العالم الذي يعيشون فيه بأن لدى البشر رغبة أساسية في أن يكونوا ، وأن يعيشوا ككائن حي يقوم بالأعمال الفسيولوجية – الغذاء ، الحياة الجنسية ، البقاء على قيد الحياة ، وأن يعيشوا في عالم له معنى ويُعتبر مقدسًا. لا يقول إلياده أن هذه الخاصية الدينية لدى البشر هي النوعية الوحيدة للإنسان. البشر لهم خصائص أخرى كذلك كالإنسان عقلاني أو الحكيم (homo sapiens)، والانسان الصانع(homo faber) وغيرها من الخصائص لكنها تتوحد في الإنسان المتدين لتتحول إلى الإنسان الكلي (total person) .
في الأخير، يعد تراث ميرتشا إلياده الكبير 5 محل نقاش مُهم لدراسة الدين واحترام كل رموزه وأساطيره ورؤيته العميقة لسلوك الإنسان المتدين، بإعتبارأن الدِّين من أقوى الظواهر الطبيعية على كوكب الأرض، نحن بحاجة إلى فهمه بشكل أفضل إذا أردنا اتخاذ قرارات سياسية مستنيرة وعادلة. على الرغم من وجود مخاطر وإزعاج ، يجب علينا أن نستعد وأن نضع جانباً إحجامنا التقليدي عن التحقيق في الظواهر الدينية بطريقة علمية سطحية معادية أو عاطفية ، ومعرفة كيف يجب أن نتعامل مع الأديان جميعًا في القرن الحادي والعشرين.
الهوامش:
1-ميرسيا الياد من مواليد 9 مارس 1907 بوخارست رومانيا، توفي في 22 أبريل 1986 شيكاغو الولايات المتحدة الأمريكية ، كاتب ومؤرخ أديان وفيلسوف وروائي روماني، شغل كرسي أستاذ تاريخ الأديان في جامعة شيكاغو، وله مؤلفات في أدب الخيال وأدب الرحلات والسير الذاتية، وتاريخ الأديان وفلسفة الأديان
2- (Wikipedia). On the most archaic levels of culture, living as a human being is in itself a religious act, for alimentation, sexual life, and work have a sacramental value. In other words, to be—or, rather, to become—a man means to be “religious.” Mircea Eliade:The Quest: History and Meaning in Religion(1969) ,p6
3-Manolache, Stelian, Mircea Eliade’s Research Method in the Field of the History and Philosophy of Religion (October 16, 2017),Proceedings of the RAIS Conference: The Future of Ethics, Education and Research, 2017.
4-K. Rudolph(Translated by Gregory D . Alles), MIRCEA ELIADE AND THE `HISTORY OF RELIGIONS,religion (1989) 19, p101-127.
5-David Cave: Mircea Eliade’s Vision for a New Humanism, Oxford University Press, New York, 1993, p92-94
إعداد: حماد بن عيسى
تدقيق لغوي: نصرالدين بلبكري
رأي الكاتب لا يعبر بالضرورة عن سياسة النقطة الزرقاء