إن الدين هو أحد السمات الرئيسية التي ميزت الإنسان عن غيره من الكائنات، إذ دلت بحوث علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا أن الدين وجد بوجود الإنسان، ولم يخلُ مجتمع بشري من دين، مهما انحط وكان ضاربا في البدائية، وهذا ما يؤكده المؤرخ الإغريقي بلوتارك بقوله:
ومعلوم أن “الدين” لفظ لا يطلق على الديانات السماوية فحسب، بل أيضا على عقائد وأديان العصور الحجرية بكافة مراحلها (السحيقة، المعدنية، القديمة، الوسيطة، الحديثة)، والعصور الموالية لها، أي على ديانات أخرى كالديانة الطبيعية التي تستند إلى العقل فقط، والديانات الخرافية التي تستند إلى الخيالات والأوهام، والديانات الوثنية التي تتخذ من التماثيل آلهة. يصوغ الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم التعريف التالي:
والموضوعات المقدسة التي يشير إليها تعريف دوركهايم لا تقتصر على المجردات والغيبيات، لأن مفهوم القدسي يمكن أن يشتمل على الموضوعات المادية والمعنوية في آن معا. فما يميز المقدس هو تغايره المطلق عن الدنيوي.
ولقد أثرت أفكار دوركهايم في مؤرخ الأديان ميرسيا إلياد حيث يرى أن الإنسان يأخذ علمه عن المقدس لأن هذا يظهر، ويبدو كشيء مخالف تماما للدنيوي. فالمقدس له تجلياته في كثير من أشكال حياتنا وفيما نضيفه من معنى وقوة وخصوبة على خبراتنا الإنسانية كالطقوس والأساطير والمعتقدات.
ويرى إلياد أن تاريخ الأديان، من أكثرها بدائية إلى أحسنها إعدادا، إنما هو مشكَّل بتراكم مقدسات، وبمظاهر وقائع مقدسة. ومن أكثر المظاهر بدائية على سبيل المثال، إظهار المقدس في موضوع ما، حجر أو شجرة حتى التجلي الأعلى الذي هو بالنسبة للمسيحي، تجسد الإله في يسوع المسيح، إذ يقول في كتابه تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية:
ويظهر الإنسان الحديث غير المتدين بعض عدم الارتياح والضيق تجاه بعض أشكال المقدس. فمن الصعب عليه القبول، أنه بالنسبة لبعض الكائنات البشرية، يمكن للمقدس أن يظهر نفسه في أحجار أو أشجار. لكن الأمر لا يتعلق بتمجيد الحجر أو الشجر بذاتهما. فالحجر المقدس أو الشجرة المقدسة لم يُعبدا على أنهما حجر أو شجرة، بل إنهما موضع عبادة لأن القداسة تتجلى فيهما. فحجر مقدس يبقى حجرا حسب ظاهره (من وجهة نظر دنيوية) لا يميزه شيء عن الحجارة الأخرى، لكن بالنسبة لأولئك الذين يتكشف لهم حجر على أنه مقدس، تتحول حقيقته مباشرة على العكس لحقيقة ما فوق طبيعية.
وبعبارة أخرى بالنسبة لمن لديهم تجربة دينية، تبدو الطبيعة برمتها قابلة للتكشف على أنها تحمل صفةَ قداسةٍ كونية. فالكون في كليته يمكن له أن يصبح تجليا قدسيا. وبسبب ميل إنسان المجتمعات القديمة للعيش في إطار القداسة، فالمقدس بالنسبة للإنسان التقليدي هو القوة وهو الحقيقة وغير المقدس هو الزيف. وهكذا يسعى إلى أن يضفي على حياته القداسة أو يربط كل أفعاله بالعالم القدسي، العالم الحقيقي بالنسبة له مقدس؛ وكل ما عداه عدم وعماء.
وهكذا فكل فعل يجب أن يُكرَّس حتى يكون تكرارا للخلق الإلهي البدئي، فتعمير مكان جديد لا بد له من طقوس، تنقله من العدم إلى الوجود الفعلي الحقيقي، والزواج يرفق بالطقوس حتى يصبح الرباط مقدسا. بل وحتى تلك الأفعال التي لامست الجنون والدناءة والجريمة قام بها الإنسان التقليدي المتدين لأنه كان يعتقد ويريد بها أن يحتذي حذو آلهته، أو أن يتقرب منها على أقل تقدير.
المراجع:
– “دراسات في الأديان الوثنية القديمة” لـأحمد علي عجيبة.
– “تاريخ الأديان مقارية قرآنية” لـمحمد فوزي المهاجر.
– “دين الإنسان” لـفراس السواح.
– “تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية ج1” لـميرسيا إلياد.
– “المقدس والمدنس” لــميرسيا إلياد.
إعداد: محمد الأمين ملاخ
تدقيق لغوي: منال بوخزنة.
رأي الكاتب لا يعبر بالضرورة عن سياسة النقطة الزرقاء