يقول ميرسيا:
وهذا ما يضعنا أمام سؤال مهم، ما الذي يقصده ميرسيا بالكائن الديني هنا؟! فهو يجمع بذلك مصطلحين (الكينونة والدين) من أكثر المصطلحات الفلسفية قدما، وأكثرها غموضا، لأنهما أكثر عموما وشمولا، فمصطلح الكائن يشمل كل أشكال الحضور والتجسد اِبتداءً من المستوى الأرضي والمعدني إلى المستوى النباتي والحيواني، إلى مستوى الإنسان، ثم إلى مستوى الأفكار والمثل.
هذا بالإضافة إلى أن مسألة الكينونة والوجود هي من أكثر القضايا بداهة ومثولا، لدرجة أن نيتشه عدها بمثابة الطفيلي الحاضر دوما دون أن يكون مدعوا، فمفهوم الكينونة الذي أصبح نسيا منسيا شهد عبر تاريخ الفلسفة عدة فهوم وتأويلات: فهل يقصد ميريسيا بالكائن ذاك الكيان؟ أم المادة الجوهرية والحضور الدائم الذي تكلم عنه بارمنديس؟، أم يقصد فكرة أفلاطون الذي يليه حضور دائم، أو كما وضحها أرسطو بـ”الصورة الفعالة”، وهي نفسها التي قال عنها -الكينونة- ديكارت أنها “الأنا المفكر” ، وعند كانط هي “الذات المتعالية” ، وعند هيجل “الروح المطلقة”، وعند نيتشه “إرادة القوة”.
بمعنى أن الكينونة ظلت تُفهم على أنها حضور جوهري أو كياني مستمر، وكأساس دائم لكل ظاهرة، أو لكل تجربة ممكنة! أما إذا نظرنا للدين من منظور إميل دوركايم،، الذي يرى أنه يشمل كل المعتقدات الروحية البسيطة أو المركبة التي تميز بين المقدس والمدنس، المتعالي والدنيوي، الآلهة والبشر.. فهو يتصور “المعتقدات الدينية على أنها تمثلات تعبر عن طبيعة الظواهر المقدسة، أو عن العلاقات التي تقوم فيما بينها، أو العلاقات التي تقيمها مع الموضوعات الدنيوية “.
لذلك سنحاول قدر المستطاع، أن نفهم بعض القضايا التي قد تطرحها مقولة ميرسيا أعلاه، سنحاول اِستحضار بعض المشاهد من التاريخ وإن تعذر علينا الوقوف على كل شيئ لقلة الحيلة، مشاهد عن المراحل الاِنتقالية التي مر بها الدين، ففي البدء كانت مجردُ ممارسة تعبدية تصل المؤمن بالمطلق عبر ممارسات وطقوس خاصة، كما وصفها شيشرون بأنها:
ومنذ أن امتلك الإنسان الوعي، أخذ هاجس المعرفة يلح عليه، ولم يقتصر هذا الهاجس على تدبير شئون معيشته، والدفاع عن بقائه، بل اِمتد شيئا فشيئا إلى التأمل في الطبيعة، واكتشافها، وإذا انفلتت قوى الطبيعة من عقالها، في البراكين والزلازل والعواصف والأوبئة..إلخ اِنقلب التأمل إلى رعب تنخلع من هوله القلوب. وكان على الإنسان أن يبحث عما يهدئ روعه، ويمنحه القوة في مواجهة عنفوان الطبيعة، ويعضده في صراعه من أجل البقاء.
ولعل هذه المخاوف والنوازع قد هيأت لظهور أشياء أولية من المعتقدات الميثولوجية، بدأت بإضفاء الروح الحية على قوى الطبيعة، ثم تأليهها، وإلى ذلك يذهب الفيلسوف الإغريقي ديمقريطس الذي زعم “أن فكرة الآلهة قد نشأت من الخوف من الظواهر التي تحدث في الأرض حينا، وفي السماء حينا” فالخوف هو الشرارة الأولى للدين! الخوف قد يبرر جميع تصرفات البشر، العالم هو الخوف الذي يسكن كل قلب من قلوب البشر، فهناك من يخاف من الارتفاعات وهناك من يخاف من الظلام، وغيره يخاف من الأماكن الضيقة..إلخ.
فرأى البشر في الحجارة نوعا من السحر إذ أن النار تحرق كل شيء إلا الحجر، فالبرق مثلا ظاهرة مستغلقة بالنسبة لوعيه الجنيني، فاعتقد أن هناك إله يسبب هذا الوميض المفاجئ في الأعالي. فالخوف من الرعد أوجد عنده إله الرعد، وعدم فهمه لكيفية سقوط المطر، أوجد عنده إله المطر، وعدم فهمه للشمس وقوتها الضوئية، أوجد في تفكيره ووعيه إله الشمس، وكذلك إله للقمر والكواكب الأخرى مثل الزهرة والمريخ. وكذلك أوجد آلهة للكثير من المظاهر والأشياء الطبيعية، كالفيضان والحيوانات القوية.
ولما كانت الكثير من مظاهر الطبيعة علوية، أي تحدث في الأعالي، السماء. اِعتقد الإنسان البدائي أن السماء هي مسكن الآلهة من كل الأنواع فعبدو الشمس والقمر والمطر من آلهة الخير، كما عبدو الرعد والنار والظلام من آلهة الشر، فعبدو الأولى لخيرها وعبدو الثانية اتقاءً لشرها.فالإنسان حينما تفارق مع مرحلة الوحشية وبدأت عنده مظاهر الوعي، مثل مشاعر الخوف والفرح، والسلوك المعبر عن هذه المشاعر، وتطورت أعضاءه فملك القدرة على نطق الكلمات، أي تكونت لديه أوليات المسميات للأشياء والظواهر التي يتعامل معها في حياته، أدرك أن وجوده على هذا الكوكب محدود، فحاول مع الوقت تفسير الخلق وأصول الدين والأخلاق و الحاجات الاجتماعية، لتنتهي محاولاته بثلاثة أسئلة رئيسية وأبدية تدخل نطاق المجهول: “الله والخلود والحرية”.
فتجده يرفض فكرة الموت ويسعى للخلود، الحرية من سلسلة القدر وبالتالي اعتلاء مرتبة الآلهة ليتخطى مرحلة البشر، لهذا وجدت الأساطير، تراديجيا إنسانية أزلية متكررة، البشر بسبب خوفهم من المجهول سيكررون نفس الكلام مجددا، سيبتكرون لأنفسهم تقاليد وأساطير وأديان جديدة، ستظهر أساطير جديدة ووحوش دينية أسطورية جديدة، بسبب خوفهم من المجهول سيشكون في الكلام الذي لا يفهمونه، سيشكون في أخطائهم ليرتكبو أخطاء جديدة، آلهة جديدة، أفكار جديدة، سيعيدون نفس أخطائهم.
في وقتنا هذا أخذت الآلهة بعدا آخر، ربما لم يعد للآلهة وجود، الآلهة كفكرة تحتضر، لطالما كانت الآلهة انعكاسا خاطئا لخوف البشر من المجهول، فكل ما يحتاجه الانسان هو سند روحي يستمد العون منه، فيما يقاسيه من شقاء العيش، ومخاطر الحياة، وإذا ساوره القلق على مصيره لجأ إلى الوجود المطلق، ينشد منه الطمأنينة واليقين، فإنه متى فقد شعوره بالإيمان وقع فورا في مستنقع العدمية.
بسبب هذا المجهول اخترع البشر الفروقات بينهم، فاستعبد الإنسان الكادح، وهضمت حقوقه وسلبت حريته. لهذا رأى المظلومون المذلون في المطلق المجهول أملا في إنقاذهم من القهر والاستغلال وطغيان الأسياد، بهذا المعنى يحدد نيتشه العدمية بأنها حالة العالم والوعي عقب تبدد وعود الخلاص الديني والرعاية الإلهية، وهكذا فإن اِهتمام السوسيولوجيا بالدين يأتي في سياق اِهتمامها بالتحولات الجذرية التي خلعت عن الأزمنة الحديثة كل ملمح سحري، ونزعت عنه كل حضور للمطلق، ففي المقاربة الماركسية، يعد الدين منتوجا غير مادي، يترجم علاقات القوة في مجتمع ما، ويعد من هذا المنظور “أفيون الشعوب” أو بمثابة “التحقيق الوهمي للكينونة البشرية”. يقول كارل ماركس:
فالإنسان حينما تفارق مع مرحلة الوحشية وبدأت عنده مظاهر الوعي، مثل مشاعر الخوف والفرح، والسلوك المعبر عن هذه المشاعر، وتطورت أعضاءه فملك القدرة على نطق الكلمات، أي تكونت لديه أوليات المسميات للأشياء والظواهر التي يتعامل معها في حياته، أدرك أن وجوده على هذا الكوكب محدود، فحاول مع الوقت تفسير الخلق وأصول الدين والأخلاق و الحاجات الاجتماعية، لتنتهي محاولاته بثلاثة أسئلة رئيسية وأبدية تدخل نطاق المجهول: “الله والخلود والحرية”.
فتجده يرفض فكرة الموت ويسعى للخلود، الحرية من سلسلة القدر وبالتالي اعتلاء مرتبة الآلهة ليتخطى مرحلة البشر، لهذا وجدت الأساطير، تراديجيا إنسانية أزلية متكررة، البشر بسبب خوفهم من المجهول سيكررون نفس الكلام مجددا، سيبتكرون لأنفسهم تقاليد وأساطير وأديان جديدة، ستظهر أساطير جديدة ووحوش دينية أسطورية جديدة، بسبب خوفهم من المجهول سيشكون في الكلام الذي لا يفهمونه، سيشكون في أخطائهم ليرتكبو أخطاء جديدة، آلهة جديدة، أفكار جديدة، سيعيدون نفس أخطائهم.
في وقتنا هذا أخذت الآلهة بعدا آخر، ربما لم يعد للآلهة وجود، الآلهة كفكرة تحتضر، لطالما كانت الآلهة انعكاسا خاطئا لخوف البشر من المجهول، فكل ما يحتاجه الانسان هو سند روحي يستمد العون منه، فيما يقاسيه من شقاء العيش، ومخاطر الحياة، وإذا ساوره القلق على مصيره لجأ إلى الوجود المطلق، ينشد منه الطمأنينة واليقين، فإنه متى فقد شعوره بالإيمان وقع فورا في مستنقع العدمية.
بسبب هذا المجهول اخترع البشر الفروقات بينهم، فاستعبد الإنسان الكادح، وهضمت حقوقه وسلبت حريته. لهذا رأى المظلومون المذلون في المطلق المجهول أملا في إنقاذهم من القهر والاستغلال وطغيان الأسياد، بهذا المعنى يحدد نيتشه العدمية بأنها حالة العالم والوعي عقب تبدد وعود الخلاص الديني والرعاية الإلهية، وهكذا فإن اِهتمام السوسيولوجيا بالدين يأتي في سياق اِهتمامها بالتحولات الجذرية التي خلعت عن الأزمنة الحديثة كل ملمح سحري، ونزعت عنه كل حضور للمطلق، ففي المقاربة الماركسية، يعد الدين منتوجا غير مادي، يترجم علاقات القوة في مجتمع ما، ويعد من هذا المنظور “أفيون الشعوب” أو بمثابة “التحقيق الوهمي للكينونة البشرية”. يقول كارل ماركس:
وهكذا اِنتقلت وعود الخلاص الديني إلى مجال التاريخ، لا سيما مع هيغل وماركس، هذا الأخير الذي أعاد توجيه أحلام الخلاص نحو المجتمع الشيوعي (كل حسب إمكاناته ولكل حسب حاجاته) واِنتقلت الرعاية الاِجتماعية إلى مجال الدولة، فأذنت بظهور ما اصطلح عليه بـ“دولة الرعاية الاِجتماعية” وهكذا شهدت البشرية أعظم إنجازات القرن العشرين، وباِنهيار المعسكر الشيوعي واِنبثاق العولمة الرأسمالية دخلنا في مرحلة الاِنهيار الثاني، وربما الفعلي والأخير، لمبدأي الخلاص والرعاية! وقد بلغنا في الأخير ما سبق وتنبأ به نيتشه حين ارتأى بأن “موت الإله” قد يؤدي إلى كارثة، ولئن يكن الخلاص الشيوعي والرعاية الاجتماعية الليبيرالية قد ساهمتا في التخفيف من حدة اِنهيار الخلاص الديني والرعاية الإلهية، فإن انهيارهما قد أعاد تحذير نيتشه إلى الواجهة.
وقد عملت الحداثة في نظر ماكس فيبر والعديد من الفلاسفة على الدنيوية ونزع سحر العالم وفتنته وعلى إزاحة الدين عن المجال العمومي وشخصتنه وعلمنته، وبالتالي العدمية، والبديل الحالي للعدمية يتمثل في العودة للأصل، مع إعادة النظر فيه.
وأختم المقال بالوسطية المذهلة التي تجدها عند جان جاك روسو واسبينوزا فمن منظور سسيولوجي فالإله لم يمت بعد ،لكنه من منظور وضعي فهو ليس نفس الإله الذي يصورونه، فهذا هو ما اجتهد في سبيله هذان الاثنان لإيصال هذه الفكرة، فتجد جان جاك روسو يقول:
بالإضافة لـسبينوزا الذي قضى حياته قارئا للكتب المقدسة وللفلسفة، فقد كتب:
وكخاتمة للخاتمة، الفعل العفوي يتجاوز كل البنى المتصلبة، فعل يمتاز بالسيلانية الفائقة، إذ يفلت من سطوة المنع وتركيز الرقابة، وهو برغم سيالنيته العالية، يتحول مع تكراره إلى فعل مشروع ويدخل في حيّز البديهيات، أي أنه يصبح جزءا من البنى المتصلبة التي كان يفلت منها، وإن كان هذا يعبر عن أمر فهو يعبر عن نمو تلك البُنى و تحوّلها. في مقابل الفعل العفوي و سيالنيته، دائما ما نجد ردود فعل عنيفة وأفعال وخطابات عدائية، فتصطدم البنى المتصلبة مع بنىً متصلّبة أخرى -حداثوية غربية أو أصولية- صداما يتسبب بتهشم الواقع الثقافي وتشوه سيرورة التحضر بسبب محاولة فرض خطوات أو عناصر سيرورات تحضر أجنبية لا تنتمي إليها. هكذا هو الفعل الحاد العدائي، يغذّي حالة الصدام بين الثقافات والحضارات، بينما تخلق الأفعال العفوية مساحة رحبة لحوار الحضارات، وتلاحقاتها السلسة.
المراجع التي اعتمدتها لكتابة هذا المقال:
“موجز تاريخ العالم”
“موسوعة الفلسفة” – عبد الرحمن بدوي.
“دين الفطرة”- جان جاك روسو.
“Les Formes élémentaires de la vie religieuse”- إيميل دوركهايم.
كارل ماكس : حول الأديان
شيشرون : DE L’INTETION ORATOIR
إعداد: Taibouni Arbi Chrif
تدقيق لغوي: منال بوخزنة
رأي الكاتب لا يعبر بالضرورة عن سياسة النقطة الزرقاء