إن التّاريخ البشريّ هو السّجل الأمين لكلّ التّحوّلات الّتي شهدتها البشرية، فمن خلاله يظهر لنا جليّا أنّ الدّين ثابث من ثوابث شخصيّة البشر وماهيتهم الجوهرية، بداية من الإنسان البدائيّ الّذي جعل المشاهد الكونيّة مادّة دسمة لتفكيره؛ ما جعله يطرح أسئلة تدور في معظمها حول تواجده في هذا العالم، مدركًا بذلك حقيقة الوجود، وأنّ هناك قوًى أكبر منه تسيّر حياته؛ هذا ما ولّد شعوره بالعالم الحقيقيّ الّذي صار مرتبطًا باكتشافه للمُقَدّس، وهذا ما ذهب إليه المؤرّخ التّاريخيّ والفيلسوف “ميرسيا إلياد” في مقدّمة كتابه: “تاريخ المعتقدات والأفكار الدّينيّة، الجزء الأوّل”، حين قال:
“إنّنا إذا عدنا إلى أقدم مستويات الثّقافة، نجد أنّ العيش ككائن بشريّ هو بحدّ ذاته فعل ديني، إذ أنّ الغذاء والحياة الجنسيّة والعمل لهم قيمة قدسيّة، وبتعبير آخر لَأَن نكون بشرًا، يعني ذلك أنّنا كائن دينيّ”؛
فالإنسان بطبعه يميل إلى حفظ نوعه بالغداء والزّواج، وهذه وإن كانت غريزة فطريّة فيه، فهي أفعال دينيّة، ومن هنا فإن تحدّثنا عن ماهية الإنسان، كان لزامًا علينا أن نربطها بالدّين؛ فهما اختلفت الأفكار والمعتقدات الدّينيّة – سماويّة كانت أو وضعيّة – فالفكرة الدّينيّة شائعة بين المجتمعات والأقوام البدائيّة والمتحضّرة. هنا نتساءل، هل الدّين فعلًا ملازمٌ للإنسان؟ ما مدى صحّة قول “ميرسيا” بأنّ العيش ككائن بشري هو فعل ديني؟ وهل كلّ فعل بشريّ هو بالضّرورة فعل ديني؟
كلّما توغّل المرء في التّاريخ الإنسانيّ، من المراحل البدائيّة إلى الأحقاب المزدهرة لحضارته، وجد الفكرة الدّينيّة متأصّلة فيه فلا تكاد تخلو جماعة أو قوم من ذلك. إذ يقول “مالك بن نبي” في هذا الصّدد:
“يبدو الدّين ظاهرة كونيّة تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذبيّةُ المادّة، وتتحكّم في تطوّرها؛ والدّين على هذا يبدو وكأنّه مطبوع في النّظام الكوني، قانونًا خاصًّا بالفكر الّذي يطوف في مدارات مختلفة، من الإسلام الموحِّد إلى أحطّ الوثنيات البدائيّة”[1].
حيث نجد أنّ الإنسان البدائيّ قد جعل خياله يجسّد له الحوادث الطّبيعيّة غير المرئيّة المستقلّة عن إرادته على شكل آلهة يخضع لها خضوعا تامًّا، ومع مرور الوقت بدأت الدّيانات السّماوية في الظّهور، والّتي تصبّ في مجملها في رسالة واحدة ألا وهي وحدانية اللّه، ومن هنا نقول أنّ الدّين فطريّ غريزيّ في الإنسان، متأصّل فيه لا يزول ولا يتلاشى، آخذ في النّموِّ والتّطوّر حسب الظّروف والأحداث المحيطة واتِّساع المدارك الفكريّة والمعارف، وأشار “إلياد مرسيا” إلى هذا حين قال: “إنّ الدّين قد لازَم نشأة الحضارة، وبدا على أنّه خصلة من الخصال التي تميّز الفكر الإنساني، حتى أنّه من العسير أن نفترض وجود مجتمع غابر خلا من التّديّن، إلّا إذا اعتبرناه مُتّسمًا بالبلاهة أو العجز”[2] فـ”حيثما يوجد النّاس يسكن الدّين”[3]. وشاركه في هذا “ويل ديورَانت” وهو فيلسوف ومؤرّخ أمريكي حين قال: “ولا يزال الاعتقاد القديم بأن الدّين ظاهرة تعمّ البشر جميعًا اعتقادًا سليمًا”[4]؛ وهذه في رأيه حقيقة من الحقائق التّاريخية، فقد كان مظهرًا أساسيًّا من مظاهر الكينونة الإنسانيّة وكان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا به، متحكّمًا في تطوّره الفكري خلال مختلف المراحل الحياتيّة للإنسان، فرغم ما توصّل إليه البشر من تطوّر فكريّ على مراحل مختلفة، إلّا أنّه ظلّ يعاني قصورًا يمنعه من وضع قوانين شاملة تنظم حياته؛ من هنا كانت حاجته إلى الدّين.
ورغم اختلاف الدّيانات والاعتقادات الّتي مرّت على الإنسان منذ الأزل إلى يومنا هذا، إلّا أنّها اشتركت في عديدٍ من الممارسات الإنسانية، فالإنسان أيًّا كان، بدائيًّا أو متحضّرًا فهو ميَّالٌ إلى حفظ ذاته بالغداء وحفظ نوعه بالزّواج، والزّواج في مختلف الدّيانات هو رابطة مقدّسة تكفل استمرار النّسل البشريّ من الزّوال، وهذا ماجاء في مختلف الدّيانات السّماويّة، الّتي من بينها الإسلام، فقد قال الرّسول -صلّى اللّٰه عليه وسلم- في حديثه: “إذا تزوّج العبد فقد كمل نصف الدّين، فليتّق اللّٰه في النّصف الآخر”[5]؛ وإذا عدنا إلى الإنسان منذ الأزل، نجد أنّه يقدّس الرّابطة الزّوجيّة حتّى لو لم يكن يعلم بأنّها فعل دينيّ محض لما فيه من حفظٍ لنوعه. وإن تحدّثنا عن العمل، ألا يقدّس الإنسان العمل منذ القدم؟ وبغضّ النّظر عمّا يأتيه من أرباح ماليّة، إلّا أنّه يرى في العمل خاصّيّة إنسانيّة تميّزه عن باقي الكائنات؛ ألم يكن الإنسان البدائيّ يخرج للصّيد كنوع من أنواع العمل وكسب قوته؟ كذلك بالنّسبة لمختلف مراحل حياة الإنسان، وقس على ذلك بقيّة الممارسات التي تشترك فيها الإنسانية جمعاء.
لكن، ليس كلّ فعل بشريّ دينيّ بالضّرورة، ونرى هذا في كتاب “الجواب الشّافي” لـ”عبد اللّٰه دراز” عن هذه المسألة حيث يقول: “واعلم أنّ عموم الأديان لجميع الأمم لا يعني عمومها لكل أفرادها، فإنّه لا تخلو أمّة من وجود ذاهلين قد غمرتهم تكاليف الحياة وأعبائها، إلى حدّ أنّهم لا يجدون من هدوء البال وفراغ الوقت ما يُمَكِّنهم من رفع رؤوسهم للنّظر في تلك الحقائق العليا، كما لا تخلو أمّة من منكرين ساخرين يحسبون الحياة لهوًا ولعبًا، ويتّخذون الدّين وهمًا وخرافة… وهم في الغالب من المترفين الّذين لم يصادفهم من عبر الحياة وأزماتها ما يشعر نفوسهم معنى الخضوع والتّواضع، وما ينبِّه عقولهم إلى التّفكير في بدايتهم ونهايتهم”[6]؛ فقد ينجرف الإنسان وراء متطلّبات جسده وعواطفه فيخرج عن الإطار الديني، الإطار الذي يحفظ له تطوّره ونظامه، لكنَّ عدم تجلّي هذا التّديّن على الإنسان في أرض الواقع، لا يعني غيابه عن الوجود بل إنّ إسراف الأمم والمجتمعات في التّحضّر أدّى إلى اختفائه جزئيا. الدّين ضروريّ للإنسان راسخ فيه كالغريزة، فهو جزء لا يتجزأ من كينونته، ومن المستحيل أن يعيش من دونه، فأينما وُجد الإنسان، وُجد الدّين، لأنّهما وجهان لعملة واحدة، وقد يضمحلّ ويتلاشى كلّ شيء، لكنّ الدّين لن يتلاشى وسيبقى إلى الأبد.
المراجع:
[1]: الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي، الصفحة 291.
[2]: المقدَّس والعاديّ، إلياد مرسيا، ترجمة: عادل العوى، صحاري للصحافة والنشر، 1994، الصفحة: 10. [3]: في مقارنة الأديان، بحوث ودراسات، الشّرقاوي محمّد عبد الله، دار الفكر العربي القاهرة، 2002، الصّفحة: 11. [4]: قصة الحضارة، ويل ديورانت، الصفحة: 99. [5]: رواه البهيقي (قال الألباني عن الحديثين في صحيح الترغيب والترهيب (1916)(حسن لغيره). [6]: الدّين لعبد الله دراز
إعداد: عبير سبّاغ
تدقيق لغوي: سلمى بوقرعة
رأي الكاتب لا يعبر بالضرورة عن سياسة النقطة الزرقاء