اسمح لي أن أبدأ مقالتي بسؤالك: “هل تعرف إيميل سيوران؟!”
الكاتب، الفيلسوف، ابن الشيطان إن شئت أن تقول!
ربما سمعت به من قبل، وقد لا يهم إن كنت تعرفه أم لم تعرفه؛ فهو نفسه قد لا يعرف نفسه تمام المعرفة: فالتناقض إنجيله، والشكّ عقيدته، والمفارقات صكوك الغفران لديه؛ فهو المؤمن والملحد والقدّيس والموسيقي، الحي والميت والمنتحر، وهو الإنسان والشيطان.
وفوق كلّ هذا هو “فيلسوف بالصدفة”، وعلى الأغلب هو من الذين قال فيهم الشّاعر الإيطالي جيدو سيرونيتي: “من بين جميع المخلوقات، أقلّها لا يُطاق هم أولئك الذين يكرهون البشر، لا يغادرهم البؤس أبداً“.
وحتى خلفيته الثقافية لن تؤثر كثيراً، عليه رغم كونه من أب قدّيس كنيسة، وأم لا تؤمن بشيء وكانت تتمنى أن لا يولد إميل؛ فتجد سيوران يصرح بكل يقين:
“المحظوظون.. لم يصلوا البويضة أصلاً!”
حتى عناوين كتبه تثير الريبة والرهبة والفضول أيضًا: “مثالب الولادة”، “لو كان آدم سعيداً”، “تاريخ ويوتوبيا” “اعترافات ولعنات”، “المياه كلها بلون الغرق”.
فعندما تفقد الحياةُ معانيها، ويفقد الإنسانُ إنسانيته على حساب حيوانيته الكامنة.
عندما تهترئ القيم الإنسانية تحت وطأة الشرور.
عندما يكون الموت هو السبيل الوحيد للحياة، ويصبح العدمُ ملجأً للوجود.
عندما يجتمع التناقض في الأقوال، والتضاد في الأفعال، تنشأ المفارقات، وتعزف سمفونية الضحك!
هكذا كان كتاب “المياه كلها بلون الغرق” للكاتب الروماني إيميل سيوران (1911- 1995).
فيسلوف شارعٍ -كما يحلو له أن يسمي نفسه- وفيلسوف الشارع لا يَجد في كتاباته ما يحدّه أو يكبح جماح قلمه؛ ذلك لأن أفكاره نوع من الوساوس: “ليس لدي أفكار وإنما هي مجرد وساوس”.
فيسلوف الشارع لا يكتب ليعجب جمهوره؛ ذلك أن الجمهور قيوده ومأساته الدائمة، فعلى حد تعبيره:
الكتب الوحيدة التي تستحق أن تُكتب تلك التي يؤلفها أصحابها دون التفكير في القرّاء، ودون أن يفكروا في أي جدوى أو مردود. إنّ مأساة الكُتّاب بصفة عامة هي أنّهم يملكون جمهور، ويكتبون لذلك الجمهور وهذا لا يمكن أن يؤدي إلا إلى عواقب وخيمة.
هو الذي يكتب لأن الكتابة عنده نوع من الانتحار، و”كل كتاب هو عبارة عن انتحار مرجّأ“؛ فتجده يمجد العزلة على حساب الجماعة، والهذيان على الوعي، والجنون على العقلانية المفرطة، والانتحار -بشكله الخفي- على الحياة بلا معنى، والعدم على الوجود، والسخرية على الجدية، والأنانية على التضحية، واليأس والملل على حساب الحركة والأمل!
مفارقات لا تجدها إلا في كتابات سيوران التي عادة ما تكون عبارة عن شذرات –والشذرة (كما يصفها سيوران) كالومضة: خاطفة آسرة محيرة، “الآثار الأدبية تموت ولأن الشذرات لم تعش؛ فإنها لا تستطيع زيادة عن ذلك أن تموت“- متفرقة المواضيع فيها ما فيها، وعليها ما عليها، فيها ما له معنى، وفيها ما هو عميق عمق الحكمة، وأخرى لا معنى لها، او ربما أننا لا نفهمها لأننا لا نراها بعين سيوران.
أحيانا تجد عبارة لا بداية لها وأخرى تنتحر بحبل كلمة قبل أن تكتب كاملة، وبعض العبارات تحدث في الفكر وقعًا كوقع الحجر في القاع تتشكل في طابع ساخر سخرية القدر منا.
تزعزع اليقين بالأشياء، وتدعو إلى الشك، فالشك مذهب لا يحيد عنه سيوران؛ لذا فالتناقض جليّ بين شذرة وأخرى.
طبعاً لن توافقه في كثيرٍ من عدميته التي يكتبها وتشاؤمه الساخر الذي يحيط بكل حرف من حروفه، لكنه سيزرع فيك بذرة “الشك”، والنظر بعين الارتياب في الأشياء، ويبقى عليك أنت أن تميتها “لا مبالاة”، أو تسقيها “بحثًا” عن حقيقتها!
صحيح أنّ “المياه كلها بلون الغرق”، ولكن مع سيوران “الكتابة كلها تسبح عند منابع الفراغ”!
فصول الكتاب:
“ضمور الكلمة”، “سيرك العزلة” “عند منابع الفراغ”، “دوار التاريخ”، “زمن وأنيميا”، “دين”، “لص الأغوار”، “غرب”، “حيوية الحب”، “في الموسيقى”.
قدم من خلالها أفكاره حول الكتابة؛ فالكتابة كانت سبيل سيوران للخروج من حالة الأرق التي أصابه في فترة شبابه؛ وكذا حق الكلمة في تغيير النفوس والمواقف “على الكتاب أن يشكل خطرًا”، والفلسفة من نقد لفلاسفة و مفكرين و الثناء على آخرين ولأفكارهم.
وفي قوله بأن “ذنب الفلسفة أنها “محتملة” أكثر من اللازم.”
ودعا إلى عزلة نتلمس فيها منفعة الفراغ الذي يحيطها، وتكلم عن التاريخ والزمن، وأمراض العصر الفكرية منها والجسدية والعقلية؛ فهو يمجد الجنون لأنه واضح، وقد عرج بشذرات تهكمية تؤكد بأن التاريخ لا يعيد نفسه فقط بل يقول سأعود بعد قليل في كل مرة، ونقد لاذع للغرب، “الغرب ممكن لا غد له”! .
طرح أيضا فكرة الحب والجنس، والنشوة والخطيئة، ونظرته في هذا المجال مادية بتطرف، خاصة فيما يخص قضية الحب.
أما عن الموسيقى فهو يقدسها إذ يقول فيها: “الموسيقي هي ملجأ الأرواح التي جرحتها السعادة”، وكان يتمنى لو يموت فيها وبها.
بالنسبة للدين، فمذهبه الشكوكي في الوجود جعل كلامه يبدو متناقضًا جداً، خاصّة فكرة “الله”، فتارة ينكره ومرة يفنى فيه، وفي أحيانٍ كثيرة يستهزئ به، كما الحال أيضا برجال الدين والمسيحية والعقائد!
فعند سيوران:
“لا يملك قناعات إلا ذلك الذي لم يتعمق في شيء”، و”الشكوكية مهيج الحضارات الفتية، وخجل الحضارات الهرمة”.
غاص أيضًا في أغوار النفس، ومكامن البأس ليخرج بفكرة أن في كل شيء نعرفه شيء آخر لا نعرفه، يخبئه خوفنا من المجازفة لمعرفته؛ حتى لا تتزعزع فينا مطلقية اليقين.
“النّقد معنى معكوس. علينا أن نقرأ، لا لنفهم غيرنا، بل لنفهم أنفسنا”.
ففي الأخير لا تستطيع ان تمسك عليه شيء إلا و تجد أنه ناقضه من جهة أخرى.
في الكتاب ستجد روح شوبنهاور، وقلب نيتشه، وموسيقى باخ، تشكل حالة من Synesthesia* على شكل شذرات: “أنا عدمي.. لكن عندما أستمع موسيقى باخ أؤمن بالله“.
هذا الكتاب من الكتب التي تقرأ على مهل، لا تكن متعجلاً فتتوه، ولا متأنياً فتسقط في العدم، قد تعيد الشذرة المرة والثانية والثالثة لتفهمها.
الترجمة كانت موفقة جداً، ورغم التشتيت الذي يحصل للقارئ إلا أنّ المترجم سعى إلى التوضيح ووضع الهوامش للمفردات، والتعريف بفلاسفة ذكرهم الكاتب في شذراته.
اقتباسات من الكتاب:
اللوكيميا هي الحديقة التي يزهر فيها الله.
حذار ممن يُعرضون عن الحب والطموح والمجتمع؛ فلا شك أنهم سيثأرون لتخليهم عن كل ذلك.
كم هو محزن أن نرى أمماً كبيرة تتسول قدراً إضافياً من المستقبل.
على المتشائم أن يخترع كل يوم أسباباً أخرى للاستمرار في الوجود: إنه ضحية من ضحايا “معنى” الوجود.
الأمل تكذيب المستقبل.
سر تكيّفُي مع الحياة؟ إنني أغير اليأس كما أغير القميص.
غموض: كلمة نستعملها لخداع الآخرين؛ لإيهامهم بأننا أكثر عمقاً منهم.كف عن الخوف من الغد حين نتعلم كيف نغترف من الفراغ ملء اليدين.
الملل يصنع المعجزات: إنه يحول الفراغ إلى مادة. هو نفسه فراغ مغذٍّ.
الهوامش:
*Synesthisia: تشابك الحواس، حالة تصيب بعض الأشخاص تتمثل في تشابك أكثر من حاسة كالسمع والبصر، النطق والذوق. والمصاب بها قد يرى للألوان صوت، أو يسمع الأصوات ويترجمها إلى ألوان، وقد يكون للكلمات طعم يتذوقه عند نطقها.
تدقيق لغوي: آية الشاعر