يُعتبر العلم في وقتنا الحالي لدى أغلب الناس الطّريقَ الوحيدَ للحقيقة، وهو الدّليلُ الكاملُ والحجة الدامغة والفاصلة في أيّ اختلاف حاصل، بينما يستطيع الفرد ببضعة أبحاث صغيرة اكتشافَ أنّ أغلب المواضيع العلمية المستجدة لها مؤيّدون ومعارضون من داخل الأوساط العلمية، يدعمون وجهة نظرهم بأبحاث ودراسات وأدلة، ويمكننا أن نعتبر قضية النباتية والشذوذ الجنسي كمثالين صريحين وشهيرين حول هذا الانقسام داخل الأوساط العلمية. ولا شك أن المتابع لكل جديد علمي قد يقع في حيرة من أمره أمام قضية يملك العلماء المؤيدون والمعارضون لها نفس الثقل الفكري، بل ويصل أحيانا إلى استنتاج أن العلم متناقضٌ في حد ذاته ما دام يقدم نتائجَ متناقضةً هي الأخرى، فإلى أيِّ حدٍّ نستطيع الوثوق بالأبحاث العلمية ومحتواها؟ وكيف نفصل في قضايا العلم؟
نشرت صحيفة بي بي سي BBC مقالا بعنوان “لا يوجد جين واحد مسؤول عن الشذوذ الجنسي” تستعرض فيه دراسةً تمّ نشرُها في مجلة “ساينس” العلمية، ليسارع تيار المحافظين إلى نشر رابط المقال لدحض كل ادعاءٍ بأنّ الشذوذ الجنسي بيولوجي، بينما اكتفى المدافعون عن المثليين بقول أن هذه “مجرد ورقة علمية” وتحتمل الصواب والخطأ. وجب الإشارة هنا إلى وجود ذاتية واضحة في آراء الطرفين، فالطرف المحافظ كان يقول حول كل الدراسات التي تتناقض ومعتقدَه (كالتطور مثلا) أنها مجرد نظريات علمية، بينما سارع لنشر بحث علمي يناسبه، بينما قام الطرف الآخر بالادعاء أنه مجرد بحث علمي متناسين أو متجاهلين تماما أنهم اعتادوا تبرير موقفهم باستعمال الأبحاث العلمية، فلماذا سياسة الكيلِ بمكيالين؟
تعمل المنظومة العلمية بمنهجيات مختلفة حسب المجال المدروس، لكنّ كلَّ بحث علمي يخضع لقاعدة الأب الروحي لفلسفة العلم كارل بوبر الشهيرة، وهو أنّ النّظرياتِ العلميةَ يجب أن تكون قابلة للنقض في الأساس، وأي نظرية علمية مبنية بحيث لا يمكن نقضها هي علم مزيّف ولا علاقة لها بالعلم الحقيقي، ونستطيع تلخيص نظرة بوبر للنظريات العلمية في مقولة “لا توجد نظرية علمية صحيحة، توجد نظريات علمية لم نكتشف خللها فقط”. خاصية العلم هذه تضعنا أمام مجتمع علمي يبتعد عن المثاليات الفكرية والحقيقة المطلقة، فمهما كانت نظريتُك ودراستُك قويةً، سيتكفل المجتمع العلمي بالبحث عن خللها ودحضها، ومهما كانت دراسة معارضيك قوية ومدعمة، فأنت كعالم مطالَبٌ أيضا بالبحث عن خللها ودحضها. ولهذا نجد الكثير من التضارب في آراء المجتمع العلمي، وهو في الأصل اختلافٌ بُني عليه العلم الحديث وليس تناقضا كما يبدو للوهلة الأولى.
يجب على القارئ أيضا الاهتمام بقيمة المجلات العلمية التي تنشر البحوث، فكثيرٌ من المجلات والمواقع تكون أغراضُها تجاريّةً وتقوم بنشر البحوث بمقابل مادي رغم أنّ كطالكثير منها يحتوي على أخطاء وهفوات تعتبر أساسية في مجالاتها. بينما تهدف الكثير من المجلات ذات الزخم الكبير إلى نشر أبحاث ذات محتوى قوي وصعبة الدحض بين صفحاتها من أجل اكتساب صيت في المجال العلمي. كما أن الاهتمام بمحتوى الدراسة وكيفية إجرائِها يعتبر عاملا مهما في كل المجالات العلمية، مثلا: الكثير من الدراسات التي تدعم النباتيين تستخلص أن النباتية أحسن للصحة عن طريق تحاليل طبية لأناس نباتيين وغير نباتيين، متناسين أن النباتيين هم أناسٌ عادة ما اختاروا نمط حياة صحي فبالإضافة إلى نمط أكلهم النباتي، يمارسون الرياضة بشكل دوري ويتجنبون تناول وشرب ما قد يُسبّب بعض الأعراض الجانبية على الجسد مع أنه غير لحمي (هذا مثال لإيضاح كيف يمكن للدراسات أن تكون مضلِّلة نوعا ما، ولا علاقة للموضوع بصحة النباتية من خطئِها). لهذا قبل القفز إلى نتائج الدراسة، يجب على المتابع التأكد من الدراسة وكيفية القيام بها لإعطاء مصداقية أكبر للبحث العلمي المنشور.
لا يجب أن تخضع آراء المتابعين لما هو موجود في وسائل الإعلام ومحركات البحث فقط، والتي عادة ما تروّج لرأي واحد فقط وتدعم قضايا معينة بنشر الأبحاث والدراسات المدعمة لذلك الرأي فقط، بينما يستطيع الباحث تحرّي الوضع والنظر لأبحاث ذات وجهة نظر مختلفة واستنتاجات مختلفة داخل الأوساط العلمية ذاتها. ولا يجب اتهام العلم بالتقصير والانحيازية والتناقض في هذه النقطة، فبنيته التحتية مبنية من أجل ضمان عدم الوصول لنتائج مطلقة بل والمنافسة في كل قضية يعالجها العلم من أجل ضمان أكبر قدر من الحيادية.
نستطيع الوثوق بالأبحاث العلمية بعد البحث في محتواها وطُرُقها وكذا التأكد من مصداقية المجلات الناشرة للأبحاث المراد التحري منها. لكن يجب أن نبقي في ذاكرتنا أن العلم شكّاك في القضايا وغير مهتمٍّ بالفصل فيها وتقديم نتائج نهائية حولها، بل تكمن مهمته في البحث المستمر فيها وفي معضلاتها.
تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.