قصة صراع العلم والدين: أين يكمن النزاع حقّا؟

على سبيل التمهيد:

 عادت في الأيام القليلة الماضية إشكالية ثنائية العلم والدين إلى الطفو مجددا على سطح شبكات الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في الفضاء العربي. إحدى تمثّلات هذا الصراع، عكسها الهجوم الذي شنّه “د. إياد قنيبي” على برنامج اليوتيوبر المصري أحمد الغندور الشهير بـ”الدحيح”، الذي يُروّج بحسبه للفرضيات الإلحادية المتهافتة، خاصَّة ما تعلَّق بِقصَّة خلق الإنسان ونظرية التطور، والتي اعتبرها شكلا من المؤامرة ضد الدين، غير أننا نجد فريقًا آخر من المتأسلمين يتّهم من يقول بكروية الأرض أمثال “د.إياد قنيني” بأنَّهم أيضا متآمرين على النص الدينيّ.

يبدو أنَّنا لن نتوقّف عن سلسلة التآمر لو استمرّ بنا فحص ساحة النقاشات في الفضاء العربي! وفي سياقٍ متّصل، لكن بعيدا عن سؤال “من يتآمر ضد من؟”،  نشرت مجلة “ساينس” مقالا يُفنِّد إمكانية وجود جين مسؤول عن الشذوذ الجنسي، بما يُعزِّز فرضيات المحافظين حول الطابع اللابيولوجي للشذوذ الجنسي. فتأجّجت ساحة الصراع مرةً ثانية. وردفا على مقال كتبه الزميل “إدريس قوادري بوجلطية” والموسوم بـ “العلم كوسيلة للفصل في القضايا: إلى أيّ حدٍّ نستطيع الوثوقَ بالدراسات العلمية؟” والذي بسَّط فيه المسألة ومُخرجاتها بشكل موضوعيٍّ بعيدٍ عن التحيزات المعرفية. ارتأينا مقاربة سؤال العلم والدين وطبيعة العلاقة المفترضة بينهما، وذلك للإجابة عن جملة أسئلة نظير: ما طبيعة العلاقة بين دائرة العلم ودائرة الدين؟ هل هما دائرتان منفصلتان أم متطابقتان أم هما متداخلتان؟ ما وظيفة العلم وما هو مجال تدخُّلِه؟ ما هو موقع الدين وأهميَّته في عصر العلم والتكنولوجيا، وكيف يتسنى التّوفيقُ دون تلفيقٍ بين الإيمان بتعاليم الدين ومُعطيات العلوم الحديثة؟

أولا: قصة تعارض العلم والدين.

   إنَّ عرضا وافيا لتاريخ تعارض العلم والدين كما شاعت تسميته في الأدبيات الفكرية، يُساعدنا على فهم منطلقات هذا الصراع وطبيعته، ومن ثمّ مقاربة المسألة وفق منظورٍ يتوخّى الاحتراس من الأحكام المُسبقة والجاهزة. وليست الغايةُ من هذا العرض تأكيدَ التناقض بين طبيعة العلم وطبيعة الدين ولا نفيها، بقدر ما هو تأريخٌ لتطوِّر العلاقة كما هي متشكّلة في خيال الناس اليوم. وتنطلقُ رؤيتنا هذه من افتراضٍ مؤدّاهُ أنَّ التعارض لم يكن بين العلم والدين، بقدر ما هو بين الفكر الدينيّ والفكر العلميّ، وبين الموقفين بَوْنٌ شاسع سنبسِّط فيه القول فيما بعد.

 إنَّ أهم ما شكل، ما يمكننا تسميته: صورة العالم الحديث في مقابل صورة العالم القديم، كما وضَّح ذلك “بيرتراند راسل”، ترجع الإشكالية في الأصل إلى العلم الحديث، حيث سادت منذ بدايات القرن السابع عشر صراعات ومحاكمات طويلة بين العلم واللاهوت، انتهت بانتصار العلم على اللاهوت، ما قدَّم خدمةً لتطور البشرية وخفّف من آلامها على حد تعبير “راسل” في مؤلفه “الدين والعلم” .

   وسنعرض أهم محطات قصة الصراع بين الفكر الديني والفكر العلمي على مراحل نظنّها محورية، وتشكل أهمَّ لحظاته، وهي على الشكل التالي:

  في مواجهة الفكر الكنسي

أ- كوبرنيكوس وغاليليي

   لا يعود الصراع اليوم بين العلم والدين إلى القرن التاسع عشر، بل مرجعه وجذره الأساس هو القرن السابع عشر. ولعل أهم مَن أسّس لهذه الثورة العلمية قبل بلوغها أشدها بقرن كامل هو “كوبرنيكوس” (1473م-1543م). ويكمن إنجازه الكبير، في أنَّه حاول تصوّر السماء على نحو أبسط عن “أرسطو” و”بطليموس” كما وضّحها في كتابه “في الحركات السماوية” الذي نشر كاملا وهو على فراش الموت(1). ويرجع إنجازُه العلمي الكبير والعظيم الذي تعارضَ وفكر الكنيسة، في إحلاله النظرية الهيلوسنترية (مركزية الشمس) محل النظرية الجيوسنترية (مركزية الأرض) في علم الفلك، وهي النظرية التي سادت لقرون وأخذت بها الكنيسة، وقد طوّرها في مذهبٍ رياضيّ عالم الفلك السكندري “بطليموس” في القرن الثاني الميلادي. وقد قام هذا النظام على ثلاثة فروض أساسية(1):                      

                  أ- الأرض تظل ساكنة بلا حركة في مركز الكون.

                 ب- إن الأجرام السماوية كلها تدور حول الأرض.

                 ج- إن دورانها حول الأرض يتم في حركة دائرية.

هذا وإن صمد المبدآن الأوَّلان، إلا أنَّ الثالث تم إسقاطه ودحضه على يد “كوبر نيكوس”، من خلال استشرافه أن حركات الكواكب يُمكن تفسيرها بطريقة أكثر بساطة مما فعل “بطليموس”، إذ لو افترضنا أنَّ الكواكب – بما فيها الأرض- تدور حول الشمس، في الوقت الذي تدور فيه حول محورها يوميا، وهذا الرأي لا شك في أنه لو صدق سيعزز الشك في العقيدة كما صاغتها الكنيسة. وفي الحقيقة يُمكننا القول إن “كوبرنيكوس” لم يكتشف وقائع جديدة عن الأجرام السماوية، بقدر ما بسَّط الحسابات الضرورية للنظام الشمسي، وذلك بتقليل عدد الدوائر الصغيرة من 80 دائرة إلى 34 دائرة، كان القدماء يعتقدون أنها تدور حولها، وهذا يعود إلى افتراض الإغريق بما فيهم أفلاطون، أن الدائرة هي أكمل شكل هندسي، وبما أن الأجرام السماوية تعد موجودات مقدسة وإلهية، فإن حركتها لا بد أن تكون كاملة أي دائرية.

   هنالك مرحلة وسيطة بين “كوبرنيكوس” و”غاليلي” تجدر الإشارة إليها، وتتمثل في إسهاماتكبلر” (1571م- 1630م)، الذي توصّل؛ انطلاقا من مشاهدات عالم سابق عليه هو “تيكو براهي” (1546م- 1601م)، إلى أنَّ الكواكب تدور في مسار إهليليجي (بيضوي الشكل) وليس دائريا، ومن ثمّ وضع ثلاثة قوانين لحركة الكواكب هي كالتالي(2):

     أ- إن الكواكب تسير في مدارات بيضوية مع الشمس في أحد المراكز، بينما يظل المركز الآخر شاغرا.

    ب- إن كل كوكب يقطع مسافات متساوية في أوقات متساوية، ووضَع معادلة رياضية وهي أن المساحة التي يعبرها في لحظة معينة نصف قطر يربط الشمس بكوكب ما، تظل ثابتة بالنسبة إلى هذا الكوكب.

    ج- إن نسبة مربع مدة دوران الكوكب إلى مكعب متوسط المسافة بينه وبين الشمس تظل واحدة في حالة جميع الكواكب.

 ويمكننا القول إن عمل “كبلر” الذي أدخله دائرة التاريخ، يكمن في تحطيمه تلك الرهبة الخرافية التي كانت تؤمن بأن الدائرة هي أكمل الأشكال الهندسية بتأكيده أن الكواكب تسير في مدارات بيضويّة، علاوة على تبسيطه أكثر للنظرية الفلكية التي كان “كوبرنيكوس” قد أرسى دعائمها.

    بعد هذا أتى الدور على “غاليليي” (1564م- 1642م) الذي يُعدّ أبرز محطة لصراع العلم والدين في ذهنية الناس اليوم. وقد صنع أول تيليسكوبٍ فتمكّن من مشاهدة النجوم الجديدة التي لا تشاهدها العين المجردة. غير أن أعظم اكتشافاته يعود إلى القانون الأول للحركة، الذي يرى أنه ليست ثمة قوة مطلوبة للمحافظة على حركة الشيء لكي يسير في سرعة مطردة، بل إن الشيء يحافظ على حالته من حركة أو سكون إلى ما لا نهاية في حالة ما لم تعترضه قوة ما، وما قرّره هذا الافتراض على الجسم وهو في حالة الحركة عُدّ بمثابة الثورة العلمية آنذاك، حيث ساهم في تمكين العلماء من تفسير حركات الكواكب وغيرها من الأجرام السماوية، دون افتراض وجود أرواح أو ملائكة كما كان يعتقد الفكر الشائع ذلك الوقت (3).

   وقد كانت هذه المحاولات في العلم التجريبي والنقد العنيف الذي وجَّهه “غاليلي” للفلك القديم، محل انتقاد من رجال الدين، وبعد سنوات من النقاشات، أذاع كتابه المشهور الموسوم بـ”حوار يُناقش فيه أربعة أيام متوالية أهم نظريتين في العالم”، يسرد فيه حججه ويبرر مواقفه، فعهد البابا إلى لجنة بفحص الكتاب، إلى أن توصل ديوان التفتيش إلى مثول “غاليلي” أمامه، وبعد قِصَّة طويلة كانت نهايتها بإعلان الحكم، ومفاده قيام شُبهة قويّة على خروجه من الدين ومروقه لقوله بمذهبٍ كاذبٍ مُناف للكتاب المقدَّس، وعاش بقيّة حياته “سجينا بشرف” حيث أبدى البابا معه تفهُّما وتعاطفا، وواصل دراساته إلى أن فقد بصره ومات بالحمى (4). وهذه الحادثة أرّخت لأقوى فترات الصراع بين العلم والدين، كما يُشار لذلك كثيرا في الدراسات الحديثة والمعاصرة.

         ب- نيوتن والتصور الميكانيكي للكون وانحصار تدخل الإله.

كانت هذه الإرهاصات العلمية بمثابة السند والمُنطلق للعالم الكبير “إسحاق نيوتن” (1642م-1727م) إذ أنَّ إسهاماته العلمية كانت هائلة وعُدّت بمثابة الثورة العلمية، ونحن لن نتطرَّق لها كلها، إذ أنَّنا سنلفت النظر فقط إلى قانون الجاذبية لما له من دخلٍ في قصَّتنا.

هذا وقد توصَّل “نيوتن” بعد دراسات معمقة إلى أنَّه يستطيع تفسير حركات الكواكب حول الشمس وحركة القمر حول الأرض، إضافة إلى اضطراب الكواكب في حركتها المدارية وظواهر المد والجزر في المحيط، بل إنه بالإمكان حتّى تفسير تلك الظواهر التي تتجاوز النظام الشمسي. وهذا بالاستناد إلى الفرض الذي سُمِّي فيما بعد باسم قانون الجاذبية، والذي مفاده أن قُوة الجاذبية بين جسمين تتناسب مباشرة مع مُحصِّلة كتلتيهما، وهي تتناسب عكسيا مع مربَّع المسافة بينهما، ويمكننا أن نسمِّي هذا القانون على سبيل الاختصار بقانون التربيع العكسي.

   والنقطة المهمة في قصة “نيوتن” هي أنه بعد أن توصل إلى تفسير ميكانيكي للكون، حيث يكون الإله قد خلق الكون وجهّزه بقوانين وتركه ليشتغل ذاتيا، مثل الساعة التي يتم صنعها ومن ثم شحنها لتمشي وحدها آليا. أنَّه كان يعرف أن هنالك “شواذا” معينة في حركة الكواكب لا يمكن للجاذبية أن تفسِّرها، إذ أنَّ الكواكب تنحرف انحرافا طفيفا عما ينبغي لها أن تكون عليه بحسب قانونه، وتراكم هذه الإنحرافات ينبغي أن يؤدِّي مع مرور الزمن إلى انحرافات عظيمة قد تقلب النظام الشمسي رأسا على عقب. إلا أنَّ هذا لم يحدث، فما سبب ذلك يا ترى؟ يُجيب “نيوتن” أن الإله يتدخَّل بين الحين والآخر ليرُدَّ الكواكب الضالة إلى مسارها. وهذه كانت آخر الفرضيات العلمية حول تدخُّل الإله لضبط مسار الكون.

  هذا التفسير الميكانيكي للكون ساهم في التقليل من دور الإله وتهميشه، الذي كان حاضرا بقوة في تسيير شؤون الكون في تصور العالم القديم. كما دفع هذا التصور الميكانيكي للكون ودور الإله، إلى أن يقول بشأنه “لايبنتز” أنه إله فقير ميكانيكيا، وأن “نيوتن” ليس في مقدوره سوى صنع إله يُحافظ على العمل بانتظام ويقوم بإصلاح الأواني ورتقها.(5)

ثم جاء بعد ذلك “لابلاس”(1719م-1827م) الذي بيّن أن فرضية تدخل الإله ليست ضرورية لتفسير “الانحرافات”، إذ توصَّل إلى أن انحرافات الكواكب عن مداراتها ليست تراكمية كما افترض “نيوتن”، وإنَّما هي تُصحّح نفسها بعد فترة كافية من الزمان بإلغاء بعضها بعضا. ويُروى أن “نابوليون” سأله: “أنا أعرف يا سيد “لابلاس” أنك ألّفت كتابا عظيما عن نظام الكون، لكنك لم تذكر فيه الخالق قط” فأجابه “لابلاس” قائلا: “لست بحاجة إلى هذا الفرض”. وهذه المنظورات العلمية كما سنكتشف لاحقا كان لها دورها السيكولوجي خصوصا في ترسيخ مقولة معارضة العلم للدين، وكلما اتّسعت مساحة المعرفة العلمية ضاقت مساحة الدين.

   ج- المذهب الطبيعي:

  لقد حمل “ديكارت” في مشروعه الفلسفي محاولةً لإدخال المذهب الماديّ الطبيعيّ في تفسير حياة الحيوانات، بحيث أوضح إمكانية معرفة أسباب وقوانين الطبيعة والتحكُّم فيها من بعد ذلك والسيطرة عليها، وقد وصل الأمر بـ”ديكارت” في تبني المقاربة الآلية المادية، أن اجترح نظرية عجيبة حول الحيوانات، مفادها أن الحيوانات تعد من قبيل الجوهر الممتد الخاضع لقوانين الحركة.

    بعد “ديكارت” جاء الدور على “توماس هوبز”(1588م-1679م) الذي يُعدّ أول ممثِّل للمذهب الطبيعي وللنظرة العلمية في العصر الحديث، إذ أنَّه أخذ بوجهة نظر آلية، عن الطبيعة البشرية والجسد البشري، مفادها أنَّ أرقى الجماعات البشرية تعود سلوكاتُها إلى حركات جُزيئات المادة، بما في ذلك الرغبات والمشاعر وأرقى تطلُّعات الإنسان.

   بعد “هوبز” جاء “دايفيد هيوم” (1711م-1776م) الذي كان أكثر دقة وعظمة من سابقه في التنظير لوجهة نظر تجريبية حول العالم، والتي عزَّزت من نقد الأديان السماوية. إذ أنَّ “هيوم” رفض عددا من الأفكار الشائعة في الفلسفة، كرفضه مثلا فكرة الجواهر المادية والروحية، والعلاقة الضرورية بين السبب والمُسبِّب. إذ أنَّه لا يوجد أي انطباع حسي يُبرِّر هذه الفكرة، وليس في مقدور المنطق أبدا الوصول إلى علاقة ضرورية بين النتيجة والسبب، وتوقعنا للنتائج على ضوء الأسباب مُتَأتٍّ من العادة ومما ألِفناه لا من العقل(6).

    من هنا فإن فلسفة “هيوم” وإن استوعبت العلوم والمعارف الرياضية، فإنَّها جعلت كل معرفة أخرى ميتافيزيقية غير ممكنة، بل أحالتها إلى دائرة “السفسطة والوهم”، وهذا بسبب حصره للمعرفة في التجربة بمعناها الضيِّق، أي التجربة الحِسِّية، ومن هنا تولّدت نظرة بعض الفلاسفة التحليليّين المُعاصرين الذين رأوا أن التصاريح الدينية تصاريحٌ ذاتيّة لا يُمكننا التحقُّق من صحّتها، لأنَّها غير مستمدة من الحواس، وبالتالي يتعذَّر علينا التحقُّق من الخبرات والتجارب الدينية.

    ويمكننا في المُحصِّلة أن نذكر جملة من الآثار التي ولّدتها هذه المُقاربات الفلسفية -قبل أن نشرع في نقدها- على الفكر الديني، وهي كالآتي (7):

1- النجاح الباهر للعلم القائم على تفسير المسائل بطريقة آلية، جَعَل مفهوم الغائية إلى هامش تفكير الناس. فمسائل من قبيل الغاية من خلق الكون والإنسان فقدت أهميتها، ونحن نعلم أن الأديان تجعل من الحياة فكرةً غائية، حيث أنَّ الكون يعكس غاية خالقه، وحياة الإنسان الدنيا ينبغي أن تكون غاية للحياة الأخرى.             

2 – تغيّر صورة العالم واختفاء الإله على الصعيد السيكولوجي والشعوري للبشر، حيث أنَّ “نيوتن”- ولو بنحو غير مباشر- قوّض من حضور الإله ودفعه إلى الخلف، أي إلى بداية خلق النظام الشمسي، أما “لابلاس” فقد دفعه إلى بداية السديم، بل جعله فرضية غير ضرورية لتفسير الكون وصيرورته.

  3- الانتقال من النظرة الدينية للعالم حيث تحكمه قوى روحية حُكما شاملا. إلى النظرة العلمية للمذهب الطبيعي، حيث العالم تحكمه قوى فيزيائية عمياء مثل الجاذبية والتفاعلات الكيميائية …الخ.

4- الانتقال من التصوّر الديني الذي يجعل للعالم غائية ونظاما أخلاقيًّا، إلى التصوّر الذي يجعل العالم يسير بعبثية من دون أي غاية أخلاقية، باعتباره عنصرا محايدا لأي نوع من القيم.

ثانيا، العلم والدين: هل يتوافقان أم يتعارضان أم يتداخلان؟

   سنسعى في هذا الباب إلى بحث طبيعة العلاقات والنماذج المفترضة بين العلم والدين، وذلك ببحث منهج وغاية ولغة كلا المجالين، ومن ثم يمكننا على ضوء ذلك فهم طبيعة هذا التعارض المزعوم بينهما، وهذه النماذج والتصورات النظرية الفلسفية هي كالآتي (8):

1- العلم والدين متناقضان.

     يرى فريق من الفلاسفة والعلماء أمثال “ريتشارد دوكنز” أنَّ علاقة العلم بالدين علاقة تعارض ولا إمكان للتوفيق بينهما، وتٌعد قضية “غاليلي” رمزًا لهذا التعارض بين العلم والدين. وكان لمسألتي الخلق والتطور -التي سنُعالِجها في مقالة لاحقة- وللنظرية النسبية في الفيزياء، التي أعادت تفسير مفاهيم الزمن والفضاء أثرُها الكبير في تكريس هذا الفهم، بحكم أنَّها تُعارض ولو ظاهريا الفكر الديني. علاوة على هذا فإنَّ التقدُّم في مجال الذكاء الصناعي، وخارطة الجينوم البشري، أضحيا يُهدِّدان المكانة الرفيعة التي يتمتَّع بها الجنس البشري. إذ أصبح العلم يقدِّم تفسيرات يبدو أنَّها تعارض المقولات الدينية، إذ لو كانت بنية الإنسان مشابهة كثيرا للبُنية الجينية للحيوانات الأخرى، وأصبح الحاسب قادرا على أداء جملة من الوظائف الحسية والعقلية، فما الذي بَقِيَ للإنسان الذي تكرمه الأديان من ميزة؟ 

    هذا ما ساهم في العقود الأخيرة في خلق موجة جديدة عرفت بالإلحاد الجديد (New Atheism) ويُعدّ “ريتشارد  دوكنز”(1941م –  ؟ ) صاحب كتاب “وهم الإله” و”دانيال دينيت” (1942م- ؟ ) و”فيكتور ستينغر“(1941م- ؟) أهم روادها. وواضح أن معظم أنصار هذا التيار يُمثّله علماء تجريبيون، ومُقارباتهم تنطلق من المذهب الطبيعي الذي تعرّضنا له سابقا، فمثلا يؤكد “دوكنز” أن نظرية التطور كما نظَّر لها “شارلز داروين” (1809م- 1882م) والتطور اللاحق لعلم الأحياء أتاحا للمرء أن يتكيّف عقليا مع الإلحاد، حيث أنَّ العلم والطبيعة يسندان بعضهما بعضًا ليعطيانا تفسيرا كاملا لكل شيء، ولا حاجة بنا للرّجوع إلى الخالق. وبعبارة أخرى “الكون هو ما يكون أو ما كان يوما أو ما سيكون يوما” كما يقول “كارل ساغن”(1934- 1996) صاحب أكبر كتاب روّج للمادية العلمية في الثقافة الشعبية، والموسوم بـ”الكون”(9). والذي حوّل فيما بعد إلى سلسلة برامج ثقافية عرفت إقبالا وانتشارا هائلا.

  ويمكننا الرد على هذا الاتجاه بأنَّه يتّخذ من القراءة الحرفية للنصوص المقدسة طريقا لإثبات التعارض، ونحن نعلم –كما سنبيِّن ذلك لاحقا- أن النصوص الدينية تحمل لغةً رمزية تختلف عن لغة العلم، وأهدافهما متباينة. والصدام في الحقيقة يكون لما “يوضع منهج اللاهوت على قدم المساواة مع منهج العلم- أو على الأقل عندما لا يتم تمييزه بشكل وافٍ عن المنهج العلمي- إذن فالطريق مفتوح أمام تعارض شديد بين هذين المجالين”.

     2- العلم والدين متمايزان

  لتجنّب الصراع بين العلم والدين، ترى بعض الحركات الفكرية أنَّه يجب التعامل معهما من منطلق استقلالهما عن بعضهما البعض، حيث أنَّ لكلٍ منهما لغة ومنهجية ومواضيع وغايات خاصة به. فما يُشغَل به العلم لا يشغله الدين والعكس صحيح. فلكلِّ علم موضوعه، العلوم الطبيعية موضوعها العالم المادي، والعلوم الرياضية موضوعها الكائنات الرياضية، والدين موضوعه العقائد والشرائع والطريق الروحي. أو بتعبير آخر فإن العلم مبني على منهج الاستدلال العقلي، أما الدين فهو يأخذ مبرّره من التسليم القلبي. وينخرط في هذا الاتجاه أنصار الفلسفة الوجودية المؤمنة من قبيل “كيرككورد”، والذين يرون أننا في توجّهنا إلى الله نُحاول إسباغ المعنى على حياتنا، فالدين يتعامل مع عالم الوجود الشخصي بشكل خاص، أما العلم فيتعامل مع عالم الأشياء ويفسر كيفية عملها. فالفارق بينهما يكمن في أن الدين ذاتي والعلم موضوعي، أو بتعبير أدق كما أشار إلى ذلك اللاهوتي “مارتن بوبر”(1878م-1965م) في أن العلاقة بين الشخص والشيء المادي هي علاقة أنا-الشيء، لكن العلاقة بين المؤمن وبين الإله هي علاقة من قبيل أنا-أنت. إنَّها علاقة تسبغ المعنى على وُجودِنا وتثمّن إنسانيتنا،”إن الإله كشخص يهب الحياة الشخصية، يخلقنا أشخاصا لنصبح قادرين على ملاقاته وعلى ملاقاة بعضنا البعض” (10).

   3- العلم و الدين متباينان لا متناقضان

يرى فريقٌ ثالث من الفلاسفة، أنّ العلم والدين متباينان، لا متناقضان. فهما لا يتناقضان من باب أن إثبات أحدهما يستتبعه حتما نفي الثاني. ولا يتمايزان من باب أنّ ما يختص به أحدهما لا يختصّ به الآخر، وإنّما هما متباينان بحيث أن ما يتناوله أحدهما يتناوله الآخر، لكن بغير الوجه الذي يتناوله به، فمتعلّقهما واحد ووجه تعلّقهما مختلف (11). وأشهر أنصار هذا الاتجاه حركة التحليل اللغوي، خاصة بعد تطورها وتجاوزها للطرح الذي يرى أن اللغة الدينية ليست لغة تجريبية، ومن ثم فهي خالية من المعنى.

       و قد بدأ هذا الاتجاه حركته بشكلٍ خاص مع الأعمال المتأخّرة لـ”لودفيغ فيتغنشتاين”(1889م-1951م)، حيث بيّن أن العلم والدين يتّخذان شَكلَين من “ألعاب اللغة Language games” متمايزان ولكن لكليهما مشروعيّته الخاصة. ولكلٍّ منطقه واستخداماته، فاللغة الدينية تسعى إلى إسباغ المعنى وتزكية نمط مُعيَّن في معايشة الحياة، لذا فهي تأتي في لغة فعَّالة مُشبَّعة بالمشاعر والحرارة للحثِّ على الإنخراط في مواقف حياتية مُعيَّنة، مع ربط ذلك بالقِيم الأخلاقية. أما اللغة العلمية فهدفها بشكل أساسي هو الشرح والتنبؤ والتلاعب وتفسير الظواهر وملاحظتها، لذا ينبغي أن تأتي في نسيجٍ لُغويّ دقيقٍ وبصيغة تجريبية حِسيّة. ومن هذا المُنطَلق فإنَّه من غير المنطقيّ صرفُ النّظر عن الدين بحجة أنَّه معرفةٌ لا تقوى على مُقارعة العلم ودقّته ومنهجه، كما أنَّه لا يعقل المنافحة عن الدين باستخدام لَبوس العلم ومنطقه. هذا ما دفع أحد دارسي “فيتغنشتاين” وهو “ديرت”D’hert ” إلى التعليق قائلا:” فلسفة فيتغنشتاين المتأخرة، شأنها شأن الباكرة، مُنفتحة بالفعل على السرّ المطلق، وتسلم بفكرة المتعالي، وهي بهذا المعنى منفتحة، بالحد الأدنى، على ما يمكن أن يسميه اللاهوتيون “إلها”” (11) .

   4- إمكانات الحوار و التكامل بين العلم و الدين:

يرى لفيفٌ من المفكرين والفلاسفة أنَّه بالإمكان الذهاب إلى نموذجٍ آخر لطبيعة علاقة العلم بالدين، حيث أنَّهما يتحاوران و يتكاملان ويُثمران نقاشا خلّاقا. وذلك انطلاقا من مبدأين ووسيلتين، الأولى ترتبط بالنّقاش الدائر حول ما قد يطلق عليه بـ”سؤال الحد”، أما الوسيلة الثانية فتتمحور حول الأخذ بعين الاعتبار التوازي المنهجي بينهما بحكم أنَّهما حقلان مختلفان (12).

   وفي هذا السياق فإن هنالك مسألة مهمة مفادها، أنّ النظريات العلمية الشاملة دوما ما تُسائل حول مقدرتها على تقديم شروحات لبعض الأسئلة والإشكالات التي تقف على تخومها، وهذا النوع من الأسئلة التي تضعنا على عتبة الميتافيزيقا تفتح الباب على الحوار بين العلم واللاهوت. وفي هذا السياق يرى “دايفيد ترايسي (1939م – ؟ ) أن بإمكان الدين الدخول في حوار مختلف وأصيل مع العلم. إذ بإمكان اللاهوت أن يسلط الضوء على الافتراضات المطلوبة لجعل العلم ممكنا(كحاجة العالم إلى أساس عقلاني يمكن استقاؤه من النصوص الدينية القديمة ومن طبيعة التجارب البشرية). ومن جهة أخرى فإن بإمكان اللاهوت أن يلعب دورا في التبصّر بالمسائل الأخلاقية المتعلقة بتوظيف المعرفة البشرية، نظير استخدام التكنولوجيا الوراثية لتغيير الأجنة على سبيل المثال لا الحصر.

خلاصـــــــــة:

نستنتج في الأخير، أن مقولة التعارض بين العلم والدين، هي مقولة متهافتة منطقيا، وتعتريها الكثير من المغالطات، إذ الحقيقة أن الفهم الديني هو الذي تعارض مع الفكر العلمي في فترة من فترات تاريخ الفكر الإنساني، بسبب قصور الفهم الديني التقليدي ربما، أو بسبب تضمين قضايا العلم بعدا أيديولوجيا، بينما حقيقة العلم أنه حيادي ويقتصر عمله على استقراء معطيات الطبيعة وطريقة اشتغالها، وليس بإمكانه-لوحده- إثبات وجود الإله أو نفيه.

كما أنه من الجدير التنويه إلى أن محاولات البعض – مع تصاعد نجومية العلم أمام الدين والفلسفة- تفسير الدين من منطلق علمي، أو البحث عن مبررات لحقانية الدين، من خلال تفسيرات تلفيقية تلوي عنق الآيات لتتوافق وحقائق الدين، تعد ممارسة سطحية، قد تظلم الدين والقرآن أكثر مما تنتصر له، باعتبار القرآن أو الدين ليس من غايتهما مد الإنسان بمعطيات العلوم من بيولوجيا وفلك وفيزياء…إلخ، بل هو نص عقائدي تعبدي، ومحاولة مقاربته مقاربة علمية تؤدي إلى نسف حقيقته وصورته.

كما أنه لا بأس من الاستئناس بالدين للدخول في حوار مع العلم، بل هو مفيد ومثمر في رأينا. غير أن المدخل لهذا الحوار ينبغي أن ينطلق من زاوية ترى أن البحث العلمي مسؤولية تقع على عاتق الإنسان وليست إلهية، مصداقا لقوله تعالي:” قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق * ثُمَّ الله ينشئ النشأة الأخرى*إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”(العنكبوت 20).ومنه فليس من وظيفة الدين إمدادنا بنظريات في نشأة الحياة، بقدر ما يكمن دوره في إسباغ المعنى على حياتنا . ومن هنا فالحري بنا فهم ما يقوله القرآن في آيات التكوين والخلق رمزيا، وعلى ضوء النظر في العلم وحقائقه المثبتة، نتخذ من نتائج هذه العلوم إطارا مرجعيا لتأويل(أي فهم) النص، وليس القيام بعمل عكسي من خلال تفكيك النص ومحاولة استنطاقه للوصول إلى حقائق علمية، وهو لم يدعي الاضطلاع بهذه الوظيفة، ولا سعى إليها، وهذا لا يضيره من قريب ولا من بعيد، بحكم أنه نص عقدي تعبدي لا نص علمي.

تدقيق لغوي: عمر دريوش

المراجع 

1- ولتر ستيس، الدين و العقل الحديث، تر: إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير للطباعة و النشر، ط4، بيروت، 2014،      ص 76.

2- المرجع نفسه، ص 86.

3- المرجع نفسه، ص 91.

4- يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة،، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار آفاق للنشر و التوزيع، ط1، القاهرة ص 24.

5- مراسلات ليبنتز مع كلارك، نقلا عن: ولتر ستيس، نفس المرجع، ص 97.

6- أديب صعب، التجربة الدينية، ضمن” الإيمان والتجربة الدينية ط1، مركز دراسات فلسفة الدين/بغداد، دار التنوير للطباعة و النشر/ بيروت، 2015، ص 98.

7- ينظر، ولتر ستيس، الدين و العقل الحديث، مرجع سابق، ص ص (170-190).

8-  ينظر مع المقارنة، ميشيل بيترسون و آخرون، العلم و الدين (هل يتوافقان أم يختلفان؟)، ضمن “علم الكلام الجديد”، مرجع سابق، ص ص (83-114). – طه عبد الرحمان، كيف نفكر في الصلة بين العلم و الدين، مجلة حراء، العدد 8، 2016، ص1، بحث منشور في الموقع الالكتروني للمجلة:www.hiramagazine.com

9- ينظر، كارل ساغان، الكون، تر: نافع أيوب لبّس، مراجعة، محمد كامل عارف، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1993.

10- بيترسون و آخرون، العلم و الدين (هل يتوافقان أم يختلفان؟)، مرجع سابق، ص 91.

11- نقلا عن: بيترسون و آخرون، العلم و الدين (هل يتوافقان أم يختلفان؟)، مرجع سابق، ص 93.

12- طه عبد الرحمان، كيف نفكر في الصلة بين العلم و الدين، مجلة حراء، العدد 8، 2016، ص1، بحث منشور في الموقع الالكتروني للمجلة: www.hiramagazine.com ، ص1.

كاتب

الصورة الافتراضية
BOUKHALFA Mustapha
المقالات: 0