في عشوائية الواقع: الارتداد إلى المتوسط

تخيل أنّك برفقةِ مجموعةٍ من الأصدقاء، تتحاورون في مواضيع مختلفة، فيطرَحُ مهووسُ المعلوماتِ العامة الخاص بمجموعتكم الحقيقة الآتية: “تميل النساء شديدات الذكاء إلى الزواج من رجال أقل ذكاء منهن”. يميل حينها أغلب من في المجموعة إلى تقديم تفسيراتٍ سببيّة حول هذه الظاهرة، فسيقترح ذكوريُ المجموعة أنّ النّساء شديداتُ الذكاء يُردنَ تفادي المنافسة مع أزواج أذكياء مثلهن. بينما ستقترحُ الثورية النّسوية الخاصة بالمجموعة، أنّ المرأة مجبرةٌ على التّنازل في اختيارِ زوجها؛ لأنّ الرجال الأذكياء لا يريدون الدخول في تنافسٍ مع نساءٍ ذكيات. بالإضافة لما سيقدمه الآخرون من تفسيراتٍ ثقافيّة واجتماعيّة مختلفة حول هذه الظاهرة، (ولعلك عزيزي القارئ قد قدمت تفسيركَ السّببيَّ الخاص بهذهِ الحقيقةِ أيضاً).

أما الآن ولنفسر هذه الظاهرة الإحصائية سنتطرقُ لاستعمال بعضِ الاحتمالات البسيطة. عددُ الرجال شديدي الذكاء أقلُ بكثير من عدد الرجال متوسطي الذكاء، أي أنّ احتمال أن تلتقي امرأة برجلٍ متوسطِ الذكاء أكبرُ بكثير من احتمال التقائها برجل شديد الذكاء، وبالتالي فمن “الحتمية الاحتمالية” أن ترتبط امرأة شديدة الذكاء برجل أقل ذكاءً منها وكذلك أن يرتبط رجل شديد الذكاء بامرأة أقل ذكاء منه. وهذا ما يُسمى بـ “الارتداد إلى المتوسط” أو “الارتداد إلى القيمة المتوسطيّة” ؛ أي الميلُ إلى الحصول على قيمٍ تعيدنا إلى حدود القيم المتوسطة.

تظهرُ أنماطٌ تخضعُ لتفسيراتِ الارتدادِ إلى المتوسط في كثير من الظواهر البشرية، والتي قد تتحكم بها الكثير من العوامل العشوائية كالحظ؛ مثلَ معدلِ الثلاثياتِ النّاجحة في مباريات الدوري الأمريكي المحترفين والتي نرى بها أنّهُ حتّى الموهبة لا تقدر على دحضِ تفسيراتِ الارتدادِ إلى المتوسط. ونستطيع أن نرى أدناه إحصائياتَ لاعب الكرة الأمريكي “ستيفن كوري” الخاصة بالتسديدات الثلاثية؛ (يعتبر ستيفن كوري من أفضل اللاعبين في تاريخ كرة السلة في ذلك)، ويستطيعُ الملاحظ أن يرى أنَّ هناك نمطاً غيرَ واضح في معدل التسديدات النّاجحة في كل مباراة، فبعد كل مباراة أو مبارتين ذات معدل تسديد عالي، ينخفض معدل التسديدات الناجحة في مباراة أو اثنتين بعدها. مما يظهر الميل إلى الحصول على قيم تعيدنا إلى حدود القيم المتوسطة، ويقدم نمطا عشوائيا في التسديدات الناجحة. ونستطيع ملاحظة نفس النمط بالنسبة لرياضات أُخرى مثل الغولف.

المباراةنسبة الثلاثيات الناجحة
155.6%
255.6%
337.5%
446.2%
568.8%
654.5%
746.7%
850%
963.6%
1033.3%

نسبة نجاح ثلاثيات ستيفن كوري في الموسم 2018/2019 في أول عشر مباريات من الموسم

المصدر: موقع لإحصائيات كرة السلة.

أيضاً قد نجد صعوبة في فهمِ هذه الظاهرة، فهو مفهوم غريبٌ على العقل الإنسانيّ، ولم تُرصد هذه الظاهرة إلا في القرن السّابع عشر، أي بعد قرنين من اكتشاف الجاذبيّة والتّفاضل والتّكامل. أيضاً يجبُ أن يُدرك الفرد، أنّ عقلنا منحازٌ نحو البحثِ وقبولِ تفسيراتٍ سببيّة ولا يتعاملُ جيداً مع “تفسيراتٍ إحصائية” للظواهر.

وسيجد القارئ لهذا المقال ميلاً لتقديمِ تفسيراتٍ سببيّة لأي ظاهرة يفسرها الارتداد إلى المتوسط، ولكن ستكون هذه التفسيرات السببية خاطئة. لأن الارتداد إلى المتوسط يحظى بتفسير، لكنّه ليس سبباً، فالسببيّة تتوقعُ المستقبل باستعمال معطياتٍ من الماضي، ومثالٌ على ذلك: نستطيع توقعَ سرعة عربة في نقطةٍ معينة بعد دفعها، باستعمال معادلة نيوتن، أو نستطيع توقع موقعها بعد مدة معينة بمعرفة الشروط الابتدائية فقط (قوة الدفع، نقطة الانطلاق إلخ..)؛ ولكن لن نستطيع معرفةَ قوة الدفع ونقطة الانطلاق من معرفتنا بموقع العربة أو سرعتها فقط فالماضي يؤثر على المستقبل. بينما يستطيعُ الارتدادُ إلى المتوسط توقعَ الماضي باستعمال معطياتٍ حاليّة، فمثلاً في حالة تسديدات “ستيفن كوري” نستطيعُ أن نقدّمَ معدلَ نجاح تسديدات كوري في آخر 5 مباريات لعبها، ويستطيع أيّ إحصائي متفهم للارتداد إلى المتوسط توقعَ معدل تسديداتهِ في ال5 مباريات التي قبلها بدقة كبيرة.

أما أقربُ تفسيرٍ لظاهرةِ الارتداد إلى المتوسطِ هو العشوائية في الأحداث، وخاصة أن النمط يظهر بشكل جلي في الحياة الإنسانية، أين تتواجد العديد من العوامل التي تتحكم في النتائج المدروسة (معدل التسديدات الناجحة مثلا). لكن هذا التفسير يفتقرُ إلى القوة السببيّة التي تفضلها عقولنا، لذا فهو لا يحظى بالكثير من الدعمِ الحدسي، لكنّه رياضيّاً أقوى.

في النهاية، يُعتَبر الارتدادُ إلى المتّوسط مبدأً بحدِّ ذاته، ومكافئاً للسببيّة ومفسراً للعديد من الظواهر التي استطاعت ولم تستطع السببية تفسيرها. فنرى استعمالهُ لدى المراهنين والمتوقعين في البورصات ومختلف الرياضات بشكل شبه دوري، فهو يمثل تفسيراً طبيعيّاً وقويّاً لظواهرَ يوميّة بديهيّة. لكن، هل مبدأُ الارتداد إلى المتوسط جزءٌ من الطبيعة؟ أم هو مبدأٌ مستقلٌ عنها أوجَدهُ العقل البشريُّ فقط؟

تدقيق لغوي: لوتس ناصر

كاتب

الصورة الافتراضية
KOUADRI BOUDJELTHIA Idris
المقالات: 0