فلسفة المشي: ثورو، نيتشه وكانط حول المشي.

العزلة جانب مهم من التفكير الإبداعي. فبحجة أن حواسنا مشغولة تقريباً 18 ساعة في اليوم بتلقي الكم الهائل من المعلومات المتواجدة في عالمنا فإن العزلة والراحة من أهم الأشياء..

إن المشي يزودنا بالوقت الذي يتاح لنا فيه التلاعب بأفكارنا واكتشاف مختلف المفاهيم والأخطاء الموجودة في تفكيرنا دون القلق من معاينة الناس له ورؤيته.

“المشي هو أفضل طريقة تم التوصل اليها للإبطاء”

لم أكن أبداً من محبي المشي، لكن بعد قراءة “فلسفة المشي” لفريديريك غرو أصبحت واحداً منهم. لقد أصبحت أمشي خلال الغداء وأجري اجتماعات ومحادثات هاتفية خلال المشي ولم يزد هذا فيَّ إلا تفكيراً أوضح وصحة أفضل.

في كتابه، جمع غرو قصص معظم الأشخاص الذين كان المشي شيئاً خاصاً في حياتهم. متأملاً انعزال ثورو وسبب مشي رامبو بحنق وطريقة علاج الحزن بالنسبة لنرفال.

وفي حين أن روسو ونيتشه مشيا للتفكير، مشى كانط وسط مدينته في وقت منتظم ليهرب من التزاماته الفكرية (سجن أفكاره).

المشي ليس رياضة

الرياضة هي مجموعة قواعد وأساليب وتنافس ثم نتائج. كما أنها تتضمن وقتاً طويلاً من التدريب وإجادةً لمختلف التفاصيل من الوضعيات الأصح إلى التحركات الأنسب في الأوقات الأنسب. لتتدخل بعد ذلك فيها بوقت طويل المواهب والارتجالات الإضافية.

الرياضة هي المحافظة على التفوق: ما هي مرتبتك؟ المدة التي استغرقتها؟ مكانك بين النتائج النهائية؟ فهي متبعة دائماً نسق الحرب في التفريق بين الرابح والمهزوم. يحصل الترابط بين الحرب والرياضة في نقطة تجعل من الحرب عظيمة ومن الرياضة مخزية وهي احترام المنافس وكره العدو.

 كما تعني الرياضة أيضاً تنمية للإرادة والرغبة فيا الانضباط وبذل الجهد، فهي جهد وعمل مكرس.

لهذا لا يعد المشي رياضة. فوضع قدم أمام الثانية من أسهل ما قد يقوم به المرء. فعند التقاء الراجلين لا يكون هناك نتائج أو مدد. وكل ما يمكن لهم ذكره هو نقطة انطلاقهم أو وصف أفضل طريق يمكنهم من مشاهدة المناظر بشكل أنسب وأوضح.

المشي هو أفضل طريقة للإبطاء.

الحريات:

هناك حرية مطلقة يحققها المشي، إذ أن نزهة صغيرة كفيلة بأن تخلصك من أعباء التفكير والاهتمام. حين تقرر أن تترك مكتبك وعملك وراءك وتذهب للتنزه والتفكير في أشياء أخرى.

يمكنك أن تشعر بالحرية أثناء العطل الطويلة وتكسر نمط حياتك اليومية لكن لا شيء يضاهي المشي لأنه الوحيد القادر على تحريرنا من أوهام ما نعتقد أنها الأهم.

يحرض المشي أعمق مشاعرنا على إظهار نفسها ويجبر عقولنا على البحث. كما يدفعنا الى الغرق في كميات الجمال الموجودة حولنا حتى نصل الى الثمالة وسط كل المناظر و المشاهد التي تحيط بنا.

للمشي قدرة على إيقاظ روح التمرد المهجورة فينا. فتزيد شهيتنا ومطالبنا ونشعر كأن الحياة أمامنا خط عمودي يجب سلوكه عبر تيار متسارع وغير متوقف.

عادة ما نستشعر حرية التخلي الحقيقية أثناء القيام برحلات طويلة. فعند مشيك لوقت طويل تأتي لحظة لا تدرك فيها مدى الساعات التي استغرقتها في المشي أو الساعات التي تحتاجها لتصل الى وجهتك. و تحس أن عاتقك خال من المسؤوليات وأن المشي هو كل ما تحتاج إليه حتى وإن كان عليك أن تمشي لبقية حياتك.

فبالمشي، ما أقصده هو أنك لن تلتقي نفسك، بل تهرب من فكرة الهوية في حد ذاتها ومن الرغبة في أن تكون شخصا ذو اسمٍ وتاريخ.

كما أنك ستنسى سبب خروجك للمشي أو هدفك منه. فكل هذه الاسئة لا تعني شيئاً لك. مثلها مثل تاريخك ومفهوم الوقت في حد ذاته، فالأسماء والأعمار والوثائق كلها الآن مجرد تفاصيل بالغة الصغر والتفاهة.

فلاسفة مشوا:

تكلم الكتاب على الفلاسفة وعلاقتهم بالمشي. ومنهم نيتشه الذي كتب:

“امض أقل وقت ممكن في الجلوس ولا تصدق أي فكرة لم تولد من الحركة وفي الهواء الطلق _فكرة لم تعربد فيها العضلات. فكل التعصبات تنبع من الأحشاء_ فالجلوس في مكان واحد (أقول مرة اخرى) هو الخطيئة الحقيقية في وجه الروح المقدسة”.

مشى نيتشه 8 ساعات تقريباً في اليوم عند كتابته لـ “الهائم وظله” وقد كان يتوقف كل مرة ليكتب ملاحظات في دفاتر صغيرة. فكان معظم الكتاب مؤلفاً أثناء خروجه للمشي.

المشي شيء مختلف عند كل شخص. فلنيتشه كان المشي أكثر من راحة، لقد كان أفضل وقت للعمل عنده.

كما كتب غرو “فكر أثناء المشي”.

امش أثناء التفكير ودع الكتابة تكن سبب توقفك لوقت قصير. فالراحة للجسد أثناء المشي تكمن في تأمله للفضاءات الواسعة.

وبينما مشى نيتشه ليعمل مشي كانط ليهرب من العمل.

مثل نيتشه، وبدرجة متفاوتة من الأهمية كان كانط منشغلاً بشيئين آخرين ما عدا القراءة والكتابة وهما وقت مشيه والطعام الذي يجب أن يأكله. إلا أنهما كانا مختلفين في طريقتيهما. فنيتشه كان من النوع الذي يمشي ويتسلق لوقت ومسافة طويلتين دون تعب ثم يأكل بشكل معقول وانتقائي الطعام الذي يتناسب مع معدته.

في حين أن كانط تمتع بشهية كبيرة فكان يأكل و يشرب بكمية أكبر لكن دون إفراط، ثم يمشي يومياً لوقت قصير. أما في الصيف، و بما أنه لم يكن يحب التعرق فقد كان يمشي بشكل بطيء ثم يتوقف تحت الظل عند شعوره بالحر الشديد.

مشى كانط وحيداً لأنه كان يفضل أن يتنفس عبر أنفه وإغلاق فمه لاعتقاده أن هذه الطريقة مفيدة للجسم. ومرافقته لأصدقائه لم تكن لتسمح له بذلك إذ سيتوجب عليه فتح فمه والتحدث إليهم.

كما سلك طريقاً واحداً بانتظام حتى تم تسمية هذا الطريق بـ “طريق الفيلسوف”.

يقال أن كانط غير طريقه المعتاد مرتين فقط في حياته. واحدة ذهب فيها لاقتناء نسخة من “إميل” لروسو والأخرى للانضمام للحشود بعد إعلان بدء الثورة الفرنسية.

السرعة:

يعتقد الكثير أن المشي بشكل سريع هو الحل. فبحكم أنه لدينا وجهة ونقطة بداية علينا أن نسلك هذه المسافة في أسرع وقت ممكن. إلا أن لا متعة ولا راحة في هذا.

وضح غرو أن المغزى من المشي هو إدراك أن أوضح إشارة على الاطمئنان والثقة هي التأني.

وهم السرعة هو الاعتقاد أنها تحافظ على الوقت. فإنهاء مهمة في ساعتين بدل إنهائها في ثلاث ساعات يبدو أبسط وأفضل في الوهلة الأولى. لكن الأمر أعقد من حسابات تجريدية، فالوقت الواقعي لا يشبه الوقت على الساعة. والساعات خلال النهار ليست مقادير متساوية. فالسرعة والعجلة تسرع الزمن، وساعتان من السرعة تسرع اليوم وتنفذه. وكل دقيقة تمزق عندما تجزأ وتملأ حد الانفجار.

العزلة:

اعتقد نيتشه وثورو وروسو أننا يجب أن نمشي وحيدين:

المشي برفقة الآخرين يجبرنا على التنافس والتدافع والتحرك في السرعة غير المناسبة. عند المشي، يجب عليك إيجاد إيقاعك الخاص والمحافظة عليه. بحيث يكون إيقاعاً يمكنك من الاستمرار في المشي لساعات أكثر. فمحاولة تكيفك مع إيقاع مشي شخص آخر تدفعك للمشي بشكل أبطئ أو أسرع من المعتاد. ما يؤدي الى إرباك جسدك. لذا يستنتج غرو أنه من الأفضل لنا أن نمشي وحدنا. رغم أننا لا نكون وحدنا مطلقاً. وكتب: “لدي رفقة كبيرة في المنزل، خاصة في الصباح عندما لا يتصل أحد”.

المصدر: هنا.

تدقيق لغوي: سماح قاسم.
مراجعة: بشرى بوخالفي.

الصورة: Pixabay

كاتب

الصورة الافتراضية
اميرة بن زعيم
المقالات: 1