يعتبر التصوف الإسلامي جزءًا مهما من التراث الإسلامي ونتاجه المعرفي، بشقيه العربي والأعجمي (الفارسي على وجه الخصوص). ومنذ نشأة التصوف مع البدايات الأولى للإسلام، اصطدم المتصوفة مع عموم الناس والفقهاء في عديد المواضيع، وكانوا بذلك مواضع تكفير ورمي بالزندقة في كثير من الأحيان. وذلك يعود لطبيعة المُنتج الفِكريّ الصوفيّ، وما يترتّب عنه من أفكار تتعارض مع فهم الظاهر، بدايةً مع الحب الإلهي، كما كان الحال مع رابعة العدوية وما وازاه من نظريات ورؤى فلسفية وشعرية. أو ما لحقه بعد ذلك مع الحب النبوي، أين صعد المتصوفة بشخص النبيّ محمد إلى معالي الحقيقة والجوهر، مؤسسين ما يسمى بالحقيقة المحمدية.
وبينما يحتفل المسلمون اليوم بمناسبة المولد النبوي الشريف، مولد النبي محمّد، أردنا الإشارة والتعقيب السريع إلى مفهوم يكاد يُجهل بين الأوساط المسلمة اليوم، لتعقيده من جهة، وللأحكام الجاهزة من جهة أخرى. وقد يعترض علينا البعض التطرق لمثل هذه المواضيع، ظنّا منهم أنها غير ذات فائدة، مع أنها تمثل جوهر التراث الروحي لمجتمعاتنا التي تغوّلت عليها النزعة المادية المعاصرة، ولأن الواقع لم يسقط فجأة من فراغ، وإنما هو تراكمات لأحداث وأفكار وأصول يجب الإلمام بها لفهم اليوم. فما هي الحقيقة المحمدية، كيف أثرت على الفكر الصوفي، وأين تكمن أهميتها المعرفية والدينية؟
الحلاج والبدايات:
قام التّصوّف منذ البدايات على ركيزة تزكية النّفس ورياضتها من أجل بلوغ مقام الإحسان، والتّرقي في منازل السائرين إلى حضرة الحقّ جل وعلى، وقد تُرجمت تلك الأحوال والمقامات التي تذوّقها وشهدها مبتدؤو وكبار الأولياء والمتصوّفة وحاولوا مقاربتها في أدبياتهم وأشعارهم، إلى رموز وتلميحات تعبّر عن طريق الحبّ الإلهي الذي لا ينتهي، بعد أن ضاقت بهم اللّغة وأساليبها لتوضيح المعاني الصّريحة التي خالجتهم. وكانت أشعار رابعة العدوية (713م -801م) على سبيل المثال بسيطة وقويّة، عبّرت عن عميق عاطفتها ووجدها وتغلغلها في طريق العرفان والحبّ.
إلّا أنّ السّعي إلى الحبّ الإلهي كان لابدّ أن يبدو وعرًا وشاقًّا، يُضحّى في سبيله بمهجة النّفس وهواها، وبالإحجاب عن الظاهر والاشتغال بالباطن. ولم يكن السّبيل الأيسرُ والأضمن لبلوغ هذه المراتب أو بعضها إلّا في اتّباع النّور الذي جاء به خاتم النّبيين وسيّد العالمين، كما أشار النصّ القرآني لذلك {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله}. وظهرَ حينذاك مُصطلح الحُبّ المحمّدي، كوساطةٍ ضروريّة لبلوغ المُراد، واشتغل المتصوّفة طويلًا على هذا المعنى مشحونين بالعاطفة القويّة التي حملهَا المُسلمون الأوائل، صحابةُ وأنصار النّبي محمد، للخاتم وأكرم الأنبياء عند الله.
وكان أن ظهرت أولَى معالم نظريّة الحقيقة المحمّدية، على يدِ سهل بن عبد الله التستري (818م – 896م)، في تفسيره الصّوفي للقرآن، وتبلورت فيمَا بعدُ حينَ بدأ الحسين بن منصور الحلّاج (858م – 922م)، تلميذ التستري، بنشر أفكاره الصّوفية الفلسفيّة في أشعاره وأشهر كتاباته: كتاب الطّواسين.
“الحقيقة” لغويًّا هي جوهر الشّيء وماهيته، واعتمد المتصوّفة، حين بنوا تعريفهم، على هذا المعنى اللّغوي، أي أنّها بحثٌ حقيقة بعثة رسول الله الكريم محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وخلقه ووجوده. كما انطلقوا من جملة أحاديث نبوية من مثل:” أول ما خلق الله نوري”، و”كنت نبيا وآدم بين الطين والماء” لبناء الفكرة العامة للحقيقة المحمدية، فوفقًا لنظريّة الحلّاج، ترتكز الحقيقة المحمدية على أساسين، وتؤدّي إلى نتيجة منطقيّة نهائيّة: وحدة الأديان.
إذ جعل الحلّاج للنبي محمد حقيقةً أولَى قديمة غير مخلوقة، سمّاها بالنّور الأزليّ، الذي انبثقت منه رسالات الأنبياء، ومراتب الأولياء من بعدهم. فهي تجلٍّ للذّات الإلهية، وأساسٌ للوجود، التي لولاها ما خلق الله الخلق وما نبّأ الأنبياء. أمّا الحقيقة الثّانية، فهي التّجلّي النّهائي المادّي داخل الزّمان والمكان متمثلة في شخص النّبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وحينئذٍ، تبدو الأديان جميعها تصبّ نحو حقيقةٍ واحدة، حقيقة المعرفة الإلهية، ومحمّدٌّ هو النّبي الذي بُعث في كلّ زمن لكلّ الأقوام برسالةٍ جوهرها واحدٌ وإن تعدّدت ظواهرها وتجلّياتها، فهو النور الأزلي الذي شرب منه كل الأنبياء وهو المشكاة التي استقوا منها رسالاتهم.
ابن عربي والانسان الكامل:
استمرّ توارد نظريّة الحقيقة المحمدية في أدبيات الصوفيّة بعد الحلاج، إلى أن تصدّى لها وعمل عليها الشّيخ الأكبر مُحيي الدين ابن عربي، وبلغ بها حد الشهرة القصوى، ما جعل بعض الباحثين يعتبرونه أول من قال بها، لأنها حلقة مهمة في بناء فكر ابن عربي الفلسفي، كما وردت في أهم كتبه ورسائله، أشهرها “فصوص الحكم”.
ابن عربي لم يعارض الحلاج في أزلية النور المحمدي، وكان ممّا أضافه في النظرية أن عالج معنى هذه الحقيقة الأولى للحلاج، كما اعتبر نبوّة محمدٍ الخاتمة نقطة البداية والنّهاية لدائرة سلسلة النّبوات والرسالات التي بدأها الرّب جلّ وعلى بالكينونة الرّوحية لآدم، وختمها بكينونة محمّد المادّية. ولعل أهم ما أورده ابن عربي هو اعتبار الحقيقة المحمدية على أنها الصورة الكاملة والمثالية لـ”الإنسان الكامل”.
ولشرح ما يقصده ابن عربي في آخر نقطة، لا بد من التعريج على مفهوم الولاية في الفكر الصوفي، وهي ليست صفة خاصة بالأولياء كما قد يشاع، بل إنّها تشمل جميع المؤمنين، ثم تتصاعد تدريجياً إلى مرتبة الأبدال والنقباء ثم الأقطاب، وفوقهم جميعا من حيث المنزلة الروحية، قطبُ الأقطاب. وهو ما يسميه ابن سبعين “المحقِّق” والسهروردي المقتول “الحكيم المتألِّه” ويسميه ابن عربى وبعده الجيلي بالإنسان الكامل!
ومع اختلاف هذه التسميات، فإن المقصود بها هو واحد، وهو المقام الأعلى الذي قد يصل إليه مخلوق، وهو مقام يُقيم، لا حال يَحول، وهو الأعلى حسب ولاية الظاهر، وفوقه مقامات غير مسماة، لأن طريق التصوف لا نهاية له، وفيه تتباين المراتب بين الأولياء والأقطاب ويتفاوتون فى الكمال، وفي جلاء مرايا بواطنهم التي تنعكس عليها تجلياتُ الذات الإلهية، الجمالية والكمالية والجلالية، ولا تجتمع كل التجليات إلا في دائرة النقطة، الإنسان الكامل.
وفي كتابه (الإنسان الكامل فى معرفة الأواخر والأوائل) يقول عبدالكريم الجيلي ما ملخصه أن “الإنسان الكامل هو الكون الجامع وهو نسخة الحق.. وهو الذى يقابل حقائق الوجود كلها، لأنه مرآة «الوحدة» والروح الجامعة للمظاهر الخَلْقية والحقائق الإلهية. وهو بالأصالة، النبى محمد صلى الله عليه وسلم، والباقون من الأنبياء والأولياء ملحقون به لحوق الكامل بالأكمل.” (*)
التصوف والأفق الانساني:
هكذا، من الحلاج مرورا بابن الفارض والسهروردي وابن سبعين إلى ابن عربي ثم الجيلي، انطلق التصوف الإسلامي من الصورة المادية للنبي محمد، إلى حقيقة جوهرية موازية، بنى عليها فلسفات معرفية ووجودية وأفرزت نزعة إنسانية مهمة، جوهرها تقبل الآخر تحت مسمى وحدة الأديان، ومعالجة التقديس الناسوتي بنسب الكل للاهوتي، بل ونكران الأغيار (ما غير الله) باعتبار كل شيء هو تجلّ للحقيقة الواحدة المطلقة، الله، متجاوزا الإشكالات الإيمانية والعقائدية إلى أفق المعنى والاتساع.
المراجع:
كتاب الطّواسين، الحسين بن منصور الحلّاج
الحقيقة المحمّدية في الشّعر الصّوفي، سليمة طالبي
نظرية الحقيقة المحمّدية في الدراسات الصوفية، موقع كسنازان
الحبّ الإلهي عند الصّوفية، موقع كسنازان
(*) يوسف زيدان: الرؤية الصوفية للعالم .. القولُ الخامس: فى حقيقة الوحدة وَهَـرَم الولاية