مراجعة رواية المكتبة لزوران جيفكوفيتش|2/3|المكتبة الليلية مكتبة الجحيم.

الجزء الأول هنا.

بطاقة فنيّة عن الكتاب:

اسم الكتاب: الـمكـتـبة.
اسم الكاتب: زوران جيفكوفيتش.
عدد الصفحات: 121 صفحة.
دار النشر: دار أثر للنشر والتوزيع/ المملكة العربية السعودية- الدمام.
سنة النشر: 2015.
النسخة الأصلية: صادرة تحت عنوان библиотека
ترجمة: نوف الميموني/ شاعرة ومترجمة سعودية.

عن الكاتب:

زوران جيفكوفيتش من مواليد 5 أكتوبر 1948 بلغراد- صربيـا، مؤلف و ناشر و باحث و مترجم، يعمل حالياً أستاذاً للأدب في جامعة بلغراد ويعدّ واحداً من أشهر الكتاب في أوروبا.

اشتهر زوران بكتابته لكتب الخيّال العلمي، أشهر أعماله على الإطلاق رواية “المكتبة” (الكتاب موضوع مراجعتنا) التي نشرها في سنة 2002 وتُرجمت إلى العربية في 2015، و التّي تعتبر أكثر أعماله ترجمةً (تُرجمت إلى 16 لغة) وواحدة من أهم الأعمال الأدبية الصربية في القرن الواحد و العشرين وقد نالت أعماله العديد من الجوائز والتقديرات.

المكـتبة الليلية:

بحثت عن تواريخ مميّزة في حياتي، تواريخ وقعت فيها أحداثٌ لا يعرفها أحد غيري، أو أنّ المفترض ألا يعرفها أحد…أو لا يحق لأحد أن يعرفها. و مع هذا فقد عرفوا، كلّ شئ كان مكتوباً أمامي، كلّ الحقائق الجافة، كأنّها لائحة تهم مقدّمة إلى المحكمة. كلّ سرّ أخفيته ليس عن الآخرين فقط، بل وعن نفسي في غالب الأحيان. كنت عاريا في كتاب حياتي و لا سبيل لستري، كمجرم عتيد كشفت جرائمه على رؤوس الأشهاد.


من الكتاب ص 57/58

تخيّل معي أن تقف في يـوم مـا عـاريا تماماً، ليس من ثيابك وإنّما من كلّ تلك الأسرار التي جاهدت طيلة عمرك لإخفائها عن الآخرين، تلك التي لا يعلمها عنك إلاّ أنت. ليست بالضرورة أن تكون أشياء قبيحة، ربّما قـد تـكون أشياء عادية لكن تريد أن تبقى سريّة لا يعرفها غيرك. تخيّل أن تصبح هذه الأسرار متاحة للعلن، يمكن لأي كان أن يطّلع عليها وقـتمـا شـاء دون حجـب… أن تصبح حياة أي واحد منّا مكشوفة دون ستار كصفحات كتاب سيبقى محفوظاً في مكتبة ليلية تتناوبُ على قراءته أجيالٌ لسنوات عديدة قادمة!

جلس في قاعة السينما يشاهد الفيلم متحسرّاً أنّه لم يمّر على المكتبة قبل أن يأتي لمشاهدة الفيلم، كان عليه أن يمّر قبلاً لاستعارة كتاب ليقرأه في عطلة نهاية الأسبوع. حدّث نفسه أنّه يعيش وحيداً لا يجد ما يفعله إن لم يحصل على كتابٍ سوى الجلوس أمام التلفاز الذي لا فائدة منه سوى تجميد العقل و الحواس، الساعة توشك أن تبلغ الثامنة مساءً و الفيلم لم ينته بعد. مباشرة بعد انتهاء العرض ركض متوّجها نحو المخرج يسابق الحشود راكضاً نحو المكتبة التي لم تكن بعيدة عن السينما. وصل إلى المكتبة ورغم أنّ الساعة كانت تشير إلى الثامنةوثلاثِ دقائق إلّا أنّه عندما أدار مقبض الباب الرئيسي فُتح الباب. صعد الدرج للوصول إلى القاعة الرئيسية للقراءة و بدأ يبحث عن أمين المكتبة ليعطيه الكتاب الذي يطلبه.

راح يلتفت يمينا و يسارا لكنّه لم يلمح أحداً. خمنّ أنّه متواجد في الغرفة الخلفية المضاءة. ما هي إلاّ لحظات حتّى إنطفأت الأضواء فجأة فوجد نفسه غارقا في الظلام و سمع صوت مفتاح يدار في القفل. شعر بالرعب إذ قد يكون موّظفوا المكتبة قد غادروا المكان وأقفلوا عليه المكتبة. راح يتحسّس طريقه وسط الظلام ليصل للباب الرئيسي، لقد تأخر كثيرا فالباب قد أغلق…

عـاد أدراجه خائب الأمل، فكّر أن يتصّل بالشرطة ليخبرهم بالأمر ليأتوا لنجدته. بوصوله للقاعة الرئيسية يفتح باب الغرفة الخلفية، دخل رجل وسط الظلام واتّخذ مكانه حيث يجلس أمين المكتبة. شعر حينها بالراحة فقد خمّن أنّه قد يكون الحارس فلا يمكن ترك المكتبة بدون حراسة ليلية. لم يرد أن يقوم بعمل قد يخيف الرجل خشية أن يظنّ أنّه سارق يطلق عليه النار. سعل و تقدّم نحوه ببطء. راح يشرح له أنّه تأخر قليلا في القدوم لكن الرجل أجابه بأنّه لم يتأخر إطلاقاً فهذه المكتبة الليلية سائلاً إيّاه إن كان يبحث عن كتاب ما.

ولم يفته أن ينبّهه إلى أنّ الكتب التي تمنح للإعارة ليلا مختلفة عن نوعية الكتب التي تعار نهاراً، فلا يوجد في المكتبة الليلية إلاّ كتب الحياة. كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة له فلم يسمع عن هذا النوع من الكتب من قبل. إنّها كتب مشوّقة و مثيرة لأنّها تتضمن الحياة الحقيقية لكلّ البشر الذين عاشوا في الدنيا. أصيب بالهلع لكنّه حاول إخفاء ارتباكه لكي لا يثير شكوك الرجل الذي هو محبوس معه في المكتبة في جنح الليل. وعندما سأله الرجل عن الكتاب الذي يريد قراءته لم يعرف أيّها يختار فالكتب يتجاوز عددها مائة و تسعة مليارات كتاب. أشار عليه أمين المكتبة بأنّ معظم الناس يفضلّون قراءة كتاب حياتهم. أصابه الذهول حينما علم أنّ هناك بالمكتبة كتاب حياته.

طلب الكتاب ليقرأه… لم يكن كتابا بالمعنى المتعارف عليه بل رزمة ضخمة من الأوراق محضورة بين غلافين بنيين طبع على غلافه العلوي اسمه وتاريخ ميلاده. حمل الملف (الكتّاب) وقدّم بطاقته المكتبية متأهباً للمغادرة. لكن الرجل أعلمه بأن كتب الحياة لا تعار خارج المكتبة لأنّ إخراجها من المكتبة قد يعرّضها لحادث يؤدي لإتلافها أو ضياعها و لا يمكن إعادة جمع كل ما حوته من وقائع وأحداث في حيوات أصحابها. أشار عليه بأنّه يمكنه أخذ الوقت الكافي للاطلاع على الكتاب هنا بين أسوار المكتبة.

جلس يقرأ في الكتاب ويستحضر التواريخ المهمّة في حياته ويقارنها بما دوّن فيه. شعـر بالدهشة فحتّى الأسرار التي لا يعرفها أحد و التي أخفاها غالباً عن نفسه تمّ تدوينها. خمّن أنّه قـد وقع ضحـيّة فخ من الاستخـبارات أو جهة سريّة تريد أن تبتزه بما جمعت عنه من معلومات؛ إذ كيف يمكن للرجل الذي يدّعي أنّه أمين المكتبة أن يحضر له كتاب حياته حتّى دون أن يسأل عن اسمه.

لم تقنعه تبريرات الأمين في أنّه كان من المنتظر أن يزور المكتبة في هذه الليلة فهو دوره. ظلت الشكوك تراوده بأنّ قصّة المكتبة الليلية مجرّد حيلة تمّ اختلاقها… مغادرة المكان هو الأمر الوحيد الذي سيطمئنهُ الآن، وبمجرّد أن سمح له أمين المكتبة بالمغادرة راح يحث الخطى للوصول إلى الطابق السفلي يرافقه هلع كبير أن يجد الباب مغلقا. أدار المقبض فانفتح الباب ووجد نفسه في الشارع.

من المفترض أن يطلق رجليه للريح و يغادر المكان لكنّه لم يرحل، استدار نحو المدخل و راح يحاول النظر عبر الزجاج. وسط الظلام استطاع أن يميّز ساعة المكتبة ذي السطح الأبيض، بعـد أن سار بضع خطوات أصيب بصدمةٍ وعاد أدراجه ليتحقّق من الأمر. قارن بين ساعة يده و ساعة المكتبة كلاهما تشيران إلى الساعة الثامنة وثلاث دقائق.

يـزداد الأمر غرابة كيف يمكن أن تكون الساعة الثامنة و ثلاث دقائق بينما قضى داخل المكتبة قرابة ساعة كاملة، كيف توّقفت سيرورة الوقت و لم تحرّك عقارب الساعة ساكناً! لابدّ من حلّ طلاسم هذا اللغز المحيّر، و لن يكون ذلك إلاّ بإعادة الدخول إلى المكتبة، أدار المقبض ليفتح الباب لكنّه لم يفتح، أعاد الكرّة بـقـوّة لكن دون جدوى. قرّر الانصراف فلابّد أنّ كل ما عاشه في هذه الليلة محض خيّال. شعـر أنّه نسي شـيئـا لكـنّه لم يهتد إلى معـرفـة ما هـو. تفصيلة واحدة صغيرة ستكون نقطة حاسمة في اهتدائه إلى حلّ لغز مغامرات هذه الليلة الغريبة التي عاشها. إن كانت حقيقة أم مجرّد وهم من نسج خيّاله.

مـكتبة الجحيم:

– لكلّ زمن جحيمه. وجحيم اليوم هو المكتبة.
(رفعت عيناي بحيرة).
– مكتبة؟
– أجـل. المكتبة…المكان الذي تقرأ فيه الناس كتباً. ألـم تسمع عن المكتبات من قبل؟ لماذا يندهش الجميع عندما يعرفون ذلك؟
– لأنّه أمر غير متوّقع.
– صحيح إذا لم تمعن التفكير بالأمر. لكن عندما تدرس الموضوع، سترى أنّ لا عجب فيه إطلاقا.”

من الكتاب ص 70

ينفر الكثير من القراءة لكونه يرى أنّها مجرّد فعل ممّل لا يجلب له أي ترفيه أو تسلية. بل و قد يتعدى الأمر ذلك حتى تسبب له مجرد رؤية الكتب من بعيدٍ الإحباط و الضجر. لكـن ماذا لو تغيّرت نظرتنا للقراءة؟ بحيث لن تعود ذلك الفعل الرتيب الذي يقيّدنا إلى كتابٍ لـمـدّة ساعات طويلة تشبه العقاب تماماً. بل نتخذّ مـنها عــلاجـا لـسلوكـاتنـا وتصرّفاتنا، تأديباً وتهذيباً. ماذا لو كان للجحيم مكتبة يدخلها كلّ أولئك الذين لم يكونوا يقرؤون في حياتهم كتباً. ليس من قبيل العقاب بل من قبيل العلاج، فلو أنّهم انهمكوا بالقراءة في حياتهم لما توّفر لديهم ذلك الوقت الطويل لارتكاب كلّ ما ارتكبوه من آثام و أعمال قبيحة.

اقتاده الحارس إلى إحدى الغرف محكماً قبضته على كتفه. لاحظ أن سقف الغرفة كان عاليا جدّاً. طول المسافة الموجودة بين الأرض والسقف تتجاوز طولها و عرضها. إنّهـا حتما لا تخضع لقوانين الطبيعة هـكذا حـدّث نفسه. أصيب بـالاختناق بسبب لونها الرمادي الذي طلي به كلّ ما فيها من جدران و أرضية وسقف و أثاث خاصّة أنّها بدون نافذة. لمح رجلاً بوجه شاحب يجلس على مكتب مقابلاً لشاشة حاسوب.

كلّ ما عاينه حتى الآن في الغرفة لا يبشّر بالخير. إذ كيف يمكن لشخص يعمل في مكان كهذا طيلة اليوم أن يبشّر بالخير. راح الرجـل يـحدّق فـيه لـفترة طويلة بنظرات تنّم عن غضب و مقت. ليسأله أخيراً إن كان يعـرف اسم المكان المتواجـد فيه الآن و السبب في إحضاره. أجـابه بنعم إنّه الجحيم وأنّه يخمّن السبب الذي تمّ استقدامه من أجله وأنّه يستطيع أن يفسّر له الموقف، لكن الرجل استشاط غضباً ولم يعطه أي فرصة لمواصلة كلامه رافضاً أن يسمع أي تبرير أو توضيح. لقـد فات أوان تصحيح الأخطاء و إنّ البقاء في هذا المكان خالد للأبد… لم يعد هناك أي شيء يمكن فعله سوى تحديد أنجع عقاب، راح نزيل المكان يفكّر في كلّ أنواع العقاب التي يمكن إخضاعه لها من حرق بالنار أو غلي بالزيت أو تقطيع إلى أربعة أجزاء..

استوقفه الرجل سريعا معبّراً عن سخطه من كمّ الأفكار المغلوطة التي يحملها أولئك الذين يتّـم استقدامهـم إلى الجحيم… الجحيم اليـوم هـو المكتبة. الـحـاسوب أوضح أنّ الـصفة الـمـشتـركة بين 84.12 % مـن نـزلاء الجحـيم يـكـرهـون الـقـراءة، 47.71 % منهـم يعـرفـون الـقـراءة لكـنّهم لـم يمـسكـوا كـتـابـا في حيـاتهم، كـأنّ الكـتب مخـلوقـات تنـقـل مـرضا خطيراً لمن يقترب منها أو يلمسها. أضاف موّجها كلامه إليه أنّه خلال الثمانية و العشرين سنة من حياته بدأ في قراءة كتابين، الأوّل توقف عن قراءته في منتصف الصفحة الرابعـة أمّـا الـثـاني فـلم يتجـاوز الـفـقـرة الإفـتتـاحـيـة.

” – لـم أكـن أعـرف أن القـراءة مـن أكـبـر الآثـام… إنّها ليست إثماً. رغم أنّ العالم سيكون مكاناً أفضل لو كان هجر القراءة إثما. لم يرسل أحد إلى الجحيم من قبل لأنّه هجر القراءة. و لهذا لم نعرف أنّ هذه الصفة مفقودة إلاّ بعد أن أحضرنا الحاسوب. لكن بعد أن نبّهنا الحاسوب إلى هذه العلاقة المفقودة استطعنا استغلالها بشكل جيّد، و في طرق شتّى. بل يمكنك أن تقول إنّ هذا أدى إلى تغيّر كامل لمفهوم الجحيم. ”


من الكتاب ص 71/72

باكتشاف أنّ الناس قد هجروا القراءة تمّكن المشرفون على المكان (الجحيم) أن يجدوا طريقة مثلى لعلاج النزلاء تتمثل في إجبارية القراءة للجميع. الغـايـة من ذلك أن يساعـدوهـم في التخلّص من الأفعال القبيحة التي رمت بهم إلى هذا المكان. لو أنّهم كانوا يقرؤون لشغلوا وقتهم و لما كان لديهم الإمكـانية لارتكاب كلّ الآثام التي اقـترفـوها في حياتهم. إذ تبقى القراءة الوسيلة المثلى لعلاجهم. سيكون لديهم وقت طويل ليقرؤوا، سيظلون عاكفين على القراءة للأبد. إن حدث وسئموا القراءة و تظاهروا بأنّه يقرؤون فإنّ هناك وسائل لاكتشاف تحايلهم، حينها ستستعمل ضدّهم أبشع الوسائل لإجبارهم على العودة إلى القراءة.

” هذه هي النقاط الأساسية التي يجب أن تعرفها. سوف تألف أحوال هذا المكان. ستواجه صعوبة في البداية إلى أن تعتاد على الأوضاع، لكنّك ستكتشف بنفسك أنّ القراءة تمنحك رضا لا يعادله رضا.”

من الكتاب ص 76

بعد أن أطلعه الرجل على كلّ ما يجب أن يعرفه عن إقامته في هذا المكان، انفتح الباب الحديدي و عاد الحارس ملقيا بيده القاسية على كتفه، مرافقا إيّاه للردهة. إنّـه يسيـر به الآن نحـو الزنزانة التّي سيقـضي بها فـترة محكـوميته الأبـديـة منهمكاً في القراءة. القراءة و لا شيء آخر سواها.


تتبع هذه المراجعة بمراجعة قادمة للقصة الخامسة من الرواية “أصغر مكتبة” والقصة السادسة “المكتبة النفيسة”.


للاطلاع على مراجعة رواية المكتبة الجزء الأوّل (المكتبة الافتراضية والمكتبة المنزلية) من هنا.

كاتب

الصورة الافتراضية
HAMDANI Yacine Reda
المقالات: 0