من تكلم الكلمات الأولى؟
تُعتبر اللغة جزءاً قوياً من التكنولوجيا الاجتماعية. لأنها تنقل أفكارك باعتبارها نفثًا مشفرًا من الهواء أو عشرات الرموز المرسومة، بحيث يتم تفكيك ذلك التشفير بواسطة شخص آخر. يمكن للّغة أن تنقل المعلومات حول الأزمنة الثلاثة: الماضي، الحاضر والمستقبل، إضفاء الطابع الرسمي على الأفكار، إثارة العمل، الإقناع، التضليل والخداع.
اليوم، هناك سبعة آلاف ومائة واثنين من هذه الرموز التي يتم التحدث بها في جميع أنحاء العالم. كل المجتمعات البشرية لديها لغة، وليس هناك أي لغة “أفضل” من أخرى: يمكن للجميع توصيل كمّ كبير من الخبرة الإنسانية. لمن يشتغل منا على دراسة التطور البشري، تشير هذه العالمية المذهلة إلى أن لجنسنا البشري لغة منذ نشأة الإنسان العاقل في إفريقيا بين مئتي ألف ومائة وستين عاماً. لم يستطع أصلٌ أحدثُ أن يفسر كيف أن المجموعات التي بقيت في إفريقيا بعد هجرة الإنسان العاقل إلى بقية العالم قبل ستين ألف عام كانت لديها لغة.
إذا كان للإنسان العاقل لغة دائمًا، فهل من الممكن أنّ هناك أنواع بشرية أخرى منقرضة؟
يعتقد البعض أن البشر البدائيين (النياندرتال/Neanderthals) انقرضوا -وهو ما يعني ضمنياً أننا ورثنا اللغات أو طرق التواصل هذه من سلفنا المشترك منذ حوالي خمسمائة ألف سنة أو أكثر-. تتفق هذه النظرية مع اكتشاف أن FOXP2؛ الجين الضروري للتعبير، متطابق في موقعين رئيسيين عند الإنسان والبشر البدائيين ولكنه يختلف عند الشمبانزي. لكن الجين الواحد لا يكفي لشرح اللغة. وتُظهر الأدلة الوراثية الحديثة أن دماغ البدائيّ ينظم نسخته من FOXP2 بشكل مختلف.
ناهيك عن ذلك، اللغة رمزية بطبيعتها -الأصوات تعبّر عن الكلمات والتي بدورها تعبّر عن الأشياء والأفعال- ولكن هناك أدلة ضئيلة على أن الإنسان البدائي كان لديه سلوك فنيٌّ أو رمزي (بضع قطع من الصباغ وبعض النقوش المتنازع عليها)، على سبيل المقارنة؛ رسم البشر الذين عاشوا معهم في أوروبا الغربية جداريات جميلة، وصنعوا آلات موسيقية، وكانت لديهم مجموعة واسعة من الأدوات والأسلحة.
إن الفرضيات بأن اللغة قد تطورت حتى قبل ذلك (على سبيل المثال عند الإنسان المُنتصب/Homo erectus قبل مليوني عام في السافانا الإفريقية) هي أكثر من مجرد تكهنات خامدة. من المرجّح حسب الأدلة الموجودة على الأقل أنّ قدرتنا على ثني آذان بعضنا البعض فريدة حقًا.
لماذا طوّرنا اللغة؟ لم تأتِ مهاراتنا اللغوية جزافاً. كان على البشر تطوير دوائر دماغية معقدة وآليّات متطورة من أجل التحدث، وقضاء سنوات ثمينة في تعليم أطفالهم. لِمَ قد ندفع هذا المقابل؟ ينسب الكثير من الناس مهاراتنا اللغوية إلى أدمغتنا الكبيرة، وقدرتنا على القيام بحركات اليد المعقدة (لغة الجسد)، والمسارات الصوتية المميزة والمورثة FOXP2، التي تمنحنا التحكم الدقيق في عضلات الوجه لدينا. لكن هذه السمات وحدها لا تفسر سبب تطورنا للّغة، هناك حيوانات ذات أدمغة أكبر، والإيماءات منتشرة على نطاق واسع، كما أن بعض أنواع الطيور يمكنها تقليد الكلام البشري دون امتلاكها لحنجرتنا أو نسختنا الخاصة من FOXP2. بدلاً من ذلك، فإن الميزة التي تفصلنا بوضوح عن الحيوانات الأخرى هي تطور سلوكنا الاجتماعي الرمزي (التعبيري) والتعاوني. البشر هم النوع الوحيد الذي يتبادل الخدمات بشكل روتيني مع غير أُسرهم. للبشر تقسيم تفصيلي للعمل، كما أنهم يخصّصون المهام، ثم يقومون بتبادل المنتجات فيما بينهم. لقد تعلمنا التصرف بطرق متناسقة خارج وحدة الأسرة، كمثال عما يحدث: عندما تخوض أمةٌ حرباً أو يجمع الناس جهودهم لبناء جسر ما.
نأخذ تعقيد سلوكنا الاجتماعي كأمرٍ مُسلَّم به، لكن كل هذه الإجراءات تعتمد على القدرة على التفاوض، المساومة، والتوصل إلى اتفاقات ثم تحميل الأشخاص إياها. وهذا يتطلب قناة (مثل كابل USB الحديث) لنقل المعلومات المعقدة ذهابًا وإيابًا بين الأفراد. تلك القناة هي اللغة.
بعض الحشرات الاجتماعية – النمل والنحل والدبابير – لديها مستوى من التعاون دون لغة. لكنها تميل إلى الانتماء إلى مجموعات عائلية ذات صلة وطيدة، هذه الحشرات مبرمجة وراثيا على العمل إلى حد كبير لصالح المجموعة. على المجتمعات البشرية مراقبة أياً من يحاول استغلال هذا السلوك التعبيري (اللغة) بسوء.
بالكلمات والرموز، يمكننا تعريض الناس لخداعهم وتشويه سمعتهم. كما يمكننا أن نثني على أولئك الذين يستحقون الثناء، والذين ستتحسن سمعتهم حتى بين أولئك الذين لم يلتقوا بهم قط: يمكن للكلمات أن تنتقل أبعد من الأفعال.
تتطلّب كل هذه الأفعال الاجتماعية المعقدة أكثر من مجرد أصوات، وروائح، وألوان، وأصوات بقية المملكة الحيوانية.
يسأل البعض: لماذا نملك ووحدنا لغةً؟
لأن علامتنا الاجتماعية المميزة لم تكن لتوجد دونها.
ما هي أولى الكلمات؟
إنه من المعقول أن نخمّن أن هناك لغة واحدة أصلية – أم جميع اللغات البشرية الحية والميتة – والدليل على ذلك هو أن جميع اللغات البشرية بخلاف أشكال التواصل الحيواني الأخرى تَجمع الكلمات في جمل تحتوي على أفعال وأسماء فاعلين ومفعول بهم (ركلتُ الكرة)، كما أنه يمكن لأي شخص أن يتعلم أي لغة.
يبحث اللغويون المقارِنون عن أصوات تظهر مرارًا وتكرارًا في لغات من جميع أنحاء العالم. يقولون بأنه إذا بقيت أي آثار للُّغة الأم لليوم، فستكون في تلك الأصوات. يقول ميريت روهلين من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا على سبيل المثال؛ أن الأصوات مثل tok و tik و dik و tak تُستخدم مرارًا وتكرارًا بلغات مختلفة للدلالة على إصبع قدم (toe بالإنجليزية) أو رقم واحد. حسب الدراسات المثيرة للجدل التي أجراها روهلين وآخرون، فإن قائمة الكلمات التي يقولون أنها مشتركة على الصعيد العالمي لأنها تبدو متشابهة تشمل أيضًا: من وماذا ورقم اثنين وكلمة ماء.
هناك طريقة أخرى تتمثل في النظر إلى الكلمات التي تتغير ببطء شديد على مدار فترات زمنية طويلة. استخدم فريقي مثل هذه الدراسات الإحصائية لإظهار أن الكلمات للأرقام من 1 إلى 5 هي من أبطأ تطوراتها. يوجد أيضًا في هذه القائمة كلمات متداخلة في التواصل الاجتماعي، مثل من، ماذا، لماذا، أين، متى، أنا، أنت، هو وهي. تتوافق هذه القائمة مع توقع تطور اللغة بسبب دورها الاجتماعي. على نطاق أوسع، يمكننا أن نقول مع بعض الثقة أن الكلمات الأولى ربما تندرج ضمن فئات قليلة فقط. قد تكون الأسماء الأولى أسماءً بسيطة، كتلك التي يستخدمها بعض أقاربنا، مثل تقديم قرود Vervet لنداءات إنذار واضحة للفهود والنسور والأفاعي، وعلى القرود الصغيرة أن تتعلم كيفية إطلاق هذه الإنذارات. عند البشر؛ يعتبر لفظ ماما مرشحًا قويًا للاسم المبكر، نظرًا لكيفية ظهور الصوت بشكل طبيعي في حالة الهذيان أو التألم، وكذا مدى اعتماد الأطفال على أمهاتهم. الصوت “m” موجود أيضًا في جميع لغات العالم تقريبًا. أخيرًا، ربما كانت الكلمات الاجتماعية البسيطة مثل: أنا، أنت، نعم ولا، جزءًا من مفرداتنا المبكرة. وبذهول، أشارت دراسة حديثة إلى أن “Huh” تعبير عالمي، وكتبت عناوين الصحف أنه كان من بين أولى الكلمات البشرية، ربما الثانية.
المصدر: هنا
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي