بقلم: بيرناردو كاستراب
لقد كان السؤال حول إذا ما كنا نملك إرادة حرة أو لا؛ واحداً من أهم الأسئلة التي طُرحت في تاريخ البشرية، أو على الأقل منذ بداية عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وظنّ البعض أن علم الأعصاب قد أنهى هذا الجدال في نهايات القرن العشرين. وعلى أي حال، أصبح من الجلي مؤخراً، أن هذا لم يحدث. ومع ذلك فإن ذلك الجواب الغامض ضروري وبشكل جوهري لقانوننا الأخلاقي _نظام العدالة الجنائي، ديننا وحتى معنى حياتنا_ فالإنسان قد يتساءل عن مغزى أي شيء، لو كان كل فعل يقوم به في حياته هو مجرد رد فعل تلقائي لقوانين آلية.
لكن قبل أن نسأل أنفسنا إن كنا نملك حرية الإرادة أو لا، علينا أن نفهم ما تعنيه حرية الإرادة بالضبط؛ ترى إحدى وجهات النظر الشائعة والبسيطة أنه لو كانت أفعالنا محددة مسبقاً، فإذاً نحن لا نملك حرية إرادة، وخلاف ذلك نحن نملكها. رغم ذلك، فإن هذه النظرة تبدوا بعد القليل من التفكير الدقيق غير صحيحة بشكل مفاجئ.
لكي تعرف لماذا، لاحظ أن الإضافة “pre” “مسبقاً” في “أفعالنا محددة مسبقاً” “predetermined choice” هي إضافة غير ضرورية بالمرة. فليس فقط أن جميع أفعالنا المحددة مسبقاً هي محددة بالتعريف، ولكن كل الأفعال المحددة يمكن اعتبارها محددة مسبقاً كذلك؛ فهي تنتج دائما من الترتيبات أو الأوضاع التي سبقتها. لذلك، فإن السؤال الحقيقي الذي نطرحه هنا ببساطة هو: هل أفعالنا محددة؟
وفي هذا السياق، فإن الفعل الحر سيكون فعلاً غير محدد. لكن ما الفعل غير المحدد؟ فهو لا يمكن أن يكون إلا فعلا عشوائياً، فأي شيء ليس عشوائياً في أصله ولبّه يعكس وجود نوع من الترتيب أو الأوضاع التي حددت هذا الفعل. فليس هناك فضاء لغوي بين التحديد والعشوائية يمكنه استيعاب أفعال ليست ضمن نطاق هاتين الفئتين. فهذه نقطة بسيطة ولكنها مهمة، لأننا غالباً ما نفكر بشكل مغلوط بأن الأفعال أو الخيارات الحرة ليست أفعالاً عشوائية ولا محددة.
فمفهومنا للعشوائية هو مفهوم غامض وعويص أصلاً. نحن نصِف عمليةً ما بأنها عشوائية إن لم نستطع فهم أو تمييز نمط معين فيها. في الواقع، إن عملية عشوائية بحق يمكنها من حيث المبدأ، إنتاج أي نمط عن طريقة الصدفة البحتة. وعلى الرغم من أن احتمالية حدوث هذا ضئيلة للغاية إلا أنها ليست معدومة. لذلك، عندما نقول أن عملية ما عشوائية، فنحن ببساطة نعترف بجهلنا بالأسباب الرئيسية التي من المحتمل أنها تنظم هذه العملية من الداخل. ونتيجة لذلك، فإن الاحتكام للعشوائية لا يكفي لتعريف الإرادة الحرة.
وعلى أي حال، حتى لو فعلت ذلك، فعندما نفكر بالإرادة الحرة فنحن لا نفكر بالعشوائية أو الصدفة المحضة. فالفعل الحر ليس فعلاً عشوائياً، أليس كذلك؟ وليس بفعل غير محدد: لذلك إن آمنت أنني أقوم بفعل حر، فذلك لأنني أشعر أن أفعالي محددة من قبلي أنا. فالفعل الحر هو الفعل المحدد عن طريق تفضيلاتي؛ الأشياء التي تعجبني، أو لا تعجبني، شخصيتي.. الخ. وهذا نقيض أن تُحدد عن طريق شخص آخر أو أي قوى خارجية أخرى.
إذاً لو كانت أفعالنا محددة على أي حال، فما فائدة الكلام عن حرية الإرادة أساساً؟ ولكن إن فكرنا بالموضوع ملياً، سنجد أن الإجابة بديهية: نحن نملك إرادة حرة إذا كانت خياراتنا أو أفعالنا محددة من قِبل ذلك الكيان الذي نعرّفه على أنه ذواتنا. فأنا أماثل ذاتي مع أذواقي وتفضيلاتي _التي أستشعرها بشكل واعي_ على النحو الذي أعتبرهم تعبيراً عن ذاتي. وبذلك فأفعالي حرة ما دامت محددة من قبل هذه الأذواق والتفضيلات.
إذاً لماذا نشعر أن المادية الميتافيزيقية _الفكرة أن أفعالنا محددة من قبل أنشطة فيزيوعصبية neurophysiological في أدمغتنا_ تناقض الإرادة الحرة؟ لأنه على الرغم من رغبتنا بذلك، إلا أننا لا نماثل ذواتنا مع التركيب الفيزيوعصبي neurophysiology، ولا حتى تركيبنا نحن. فبالنسبة لذواتنا الواعية، إن الأنشطة الفيزيوعصبية في أدمغتنا مجرد تجريدات. فنحن نتماثل مع تجاربنا من المخاوف، الرغبات، والميول… الخ. بشكل واعٍ ومباشر _فهذه مشاعرنا الواعية المحسوسة. نحن إذاً نماثل أنفسنا مع هذه المشاعر، وليس مع خلايانا العصبية المتشابكة داخل جماجمنا. فالتماثل المزعوم ما بين التركيب الفيزيوعصبي والمشاعر الواعية عبارة عن تماثل مفاهيم _وليس بتماثل حقيقي_
المشكلة الرئيسية هنا هي مشكلة توجد في صلب الميتافيزيقيا المادية؛ وهي أن محتويات وعينا هي الشيء الوحيد الذي نملكه حقاً، وهو ما يسميه الفلاسفة بـ “الظواهر” فحياتنا ليست إلا سيلاً جارف من الظواهر المحسوسة والمدركة. تنشأ هذه الظواهر من شيئ مادي خارج الوعي _مثاله الخلايا العصبية المترابطة_ عبارة عن تأثيرات نظرية، وليست حقيقة مادية، فهي عبارة عن سرد نصنعه ونصدقه بأنفسنا بناءً على الاستنتاجات الخيالية، لا بناءً على ما نستشعره حقاً. ولذلك لا يمكننا أن نماثل أنفسنا مع هذه الظواهر.
ولذلك، فسؤال الإرادة الحرة يتلخص في مسألة ميتافيزيقية واحدة: هل يمكن اختزال حالات الوعي المحسوس الخاص بنا إلى شيء خارج ومستقل عن وعينا؟ فإذا كان الوضع كذلك، فلا يمكن أن توجد إرادة حرة، لأننا نماثل أنفسنا مع محتويات وعينا فقط. ولكن وبدلاً من ذلك، لو كان النظام الفيزيوعصبي مجرد طريقة تُعرض من خلاله حالات الحس الإرادي أو الاختياري نفسها للرصد من قبل راصد خارجي _معنى هذا أن النظام الفيزيوعصبي مجرد صورة للوعي وهو يريد وليس مصدره أو مسببه_ إذا فنحن نملك إرادة حرة؛ لأنه تبعاً للخيار الأخير، فإن خياراتنا محددة من قبل حالات إرادية ونحددها بشكل مباشر على أنها تعبيرات عن ذواتنا.
وبشكل حاسم، يمكن منطقياً أن تُطرح المسألة الميتافيزيقية بطريقة مخالفة للطريقة الاعتيادية للتعامل مع قضية حرية الإرادة، فوفقاً لفيلسوف القرن التاسع عشر آرثر شوبنهاور، قوانين الطبيعة تنشأ من إرادة شخصية، ولا تنشأ الإرادة من قوانين الطبيعة. فحالات الوعي الذاتي حالات جوهرية وغير قابلة للإزالة لكل من العقل والعالم. وعلى الرغم من سوء الفهم المؤسف والتحريف الذي عادة ما يصاحب أفكار شوبنهاور _وبشكل جلي من قبل أشخاص يدعون كونهم خبراء_ إلا أنه عند ترتيبها فهي توفر نظاماً متماسكاً يوفق بين حرية الإرادة وما يبدو كقوانين طبيعية حتمية.
وكما هو موضح في كتابي القصير الذي صدر حديثاً، Decoding Schopenhauer’s Metaphysics، فإن الوعي الذاتي هو الجوهر الداخلي لكل الموجودات وهذا هو الإرادة. فالطبيعة كيان ديناميكي لأن وعيها الذاتي الرئيسي يوفر الدافع أو الزخم المطلوب للأحداث لكي تكون أو تنكشف. فقد فكر شوبنهاور كما فعل سلفه إيمانويل كانط أن ما نسميه “العالم المادي” ليس إلا صورة أو تمثيلاً إدراكياً للعالم داخل عقل المراقب. لكن هذا التمثيل لا يمثل حقيقة العالم في ذاته قبل أن يتم تمثيله.
ولما يبدو أن المعلومات التي نملكها عن البيئة الخارجية مقيدة من قبل الإدراك الواعي، فقد اعتبر كانط أن العالم غير قابل للفهم في ذاته. شوبنهاور، على الجانب الآخر، جادل بأنه يمكننا التعلم عن العالم ليس فقط عن طريق أعضاء الحس، وإنما عن طريق الاستبصار أيضاً. وحجته تسير على النحو الآتي: فعلى الرغم من غياب كل الإدراكات أو المعلومات الواعية المدفوعة من قِبل الحواس، إلا أننا سنبقى نختبر نمونا الباطني، ونستشعره بشكل واعٍ.
ولذلك، فنحن وبصورة رئيسية عبارة عن إرادة قبل أن نكون تمثلاً. فأجسادنا المادية ليست ألا طريقة إرادتنا في تمثيل ذاتها لدرجة أعلى. وبما أن كل من أجسادنا وبقية العالم يظهر على شكل تمثيل للمادة، وبذلك يستدل شوبنهاور على أن بقية العالم، تماماً مثلنا نحن، بصورة رئيسية عبارة عن إرادة أيضاً.
وفي رأي شوبنهاور المتنور عن الواقع، فإن الإرادة حرة بالفعل لأنها الكيان الجوهري الوحيد الذي يوجد في هذا الوجود. وعلى الرغم من ذلك، فإنها تبدو على شكل طبيعة محددة بقوانين حتمية، والذي يعكس التناسق الغريزي الباطني للإرادة. اليوم، بعد مرور قرنين على نشره أفكاره الرائدة، يمكن لأعمال شوبنهاور أن توفق بين حدسنا الداخلي عن حرية الإرادة وبين الحتمية العلمية المعاصرة.
المصدر: هنا
تدقيق لغوي: حفصة بوزكري