تقديم.
مع نهاية شهر ديسمبر من العام الماضي، حاول طبيب العيون في مستشفى ووهان المركزي، الدكتور لي ون ليانغ، تحذير زملائه الأطباء في دردشة إلكترونية من انتشار وباء محتمل وطالبهم باتخاذ ما يلزم من إجراءات الوقاية، إذ لاحظ في سبعة مرضى تحت الحجر في المستشفى الذي يعمل فيه أعراضا مشابهة لأعراض فيروس “سارس” (الذي انتشر في عام 2003). لكن بعد ثلاثة أيام، تم استدعاؤه لمركز الأمن العام، أين طلب منه التوقيع على محضر، اتهم فيه بترويج “معلومات خاطئة” وطلب منه التوقف أو يتم جره للقضاء. ليعود إلى العمل بعدها، يصاب بالوباء، ثم يموت مع بداية ثاني أسبوع من شهر فيفري حسب ما تناوله تقرير للـBBC.
إذا وضعنا جانبا الجهود الكبيرة التي قامت بها السلطات الصينية لاحتواء الوباء من تشخيص حالات الإصابة بالفيروس مبكرا، وعزل المصابين ومتابعتهم، وفحص المخالطين لهم واستعمال آخر ما توصلت إليه التقنية في ذلك، وبالمقابل وضعنا جانبا أيضا محاولة تغطيتها لتفشي الوباء في البداية، وخط إعلامها الحالي الذي مايزال يشيّد بما سمّاه “النموذج الصيني”، لا يمكن أن ننكر دور “الرقابة” في كل هذا، وهنا تفرض الكثير من الأسئلة نفسها علينا، ماذا لو لم يتم إسكات الدكتور لي وسبعة آخرون وقّعوا على نفس المحضر؟ ماذا لو استجابت السلطات لتحذيراتهم المبكرة؟ هل كانت الشفافية لتنمي وعيا أكبر ينجر عنه إجراءات عالمية وقرارات تحول عن تحوله لوباء عالمي كما هو عليه اليوم؟ ( تجاوز العالم المليون إصابة ) أم كان الذعر الناتج عنها ليصعب من مهمة احتواء الوباء؟ هل الأرقام المعلن عنها حقيقية؟
في الحقيقة يمكن إسقاط موضوع الرقابة واحتكار المعلومة على كل السلطات حول العالم وليس الصين فقط، والأسئلة تفرض نفسها في كل مكان وزمان، بل ما نعرفه أنه لطالما تعاملت السلطات مع الأوبئة بهذا الشكل، ومنذ قرن بالضبط، نحتفظ بأرشيف صفحات الجرائد عن جائحة الأنفلونزا الإسبانية كمثال يقدم لنا الكثير عن دور الرقابة والبروبغندا في انتشار المعلومة زمن الوباء.
الأنفلونزا الإسبانية وتاريخ بروباغاندا الأوبئة.
سواء تعلق الأمر بإخماد وتلطيف صناعة التقارير الإعلامية أثناء الحرب، أو إدارة إعلانات بشأن علاجاتٍ مُعجِزة، في جعبة جرائد أنفلونزا 1918 الكثير لتلقننا إياه حيال انتقال المعلومة في زمن تفشي الوباء.
جائحة الأنفلونزا الإسبانية – والتي ستتسبب على الأرجح في قتل ما يصل إلى50 مليون شخص خلال مسارها – ولجت الوعي البريطاني العام ببطء نسبي. في غياب منظمات عالمية للفت الانتباه نحو التفشي، واتصالات شبكية عبر الانترنت للسماح بالتنقل السريع للمعلومات حول العالم، سافرت الأخبار ببطء شديد حين ظهرت الأنفلونزا عام 1917.
أثناء المرحلة المبكرة من الجائحة، طبيعة الفيروس كان لها هي الأخرى دور لتؤديه. الأعراض، والتي تضمنت نزيف الأغشية المخاطية – الأنف، الرئتان، الأمعاء -، قد يترتب عنها في بعض الأحيان التباس في التشخيص إذ يعمد الأطباء لنسب الإصابة إلى أسباب مغايرة مثل : حمى الضنك.
إلا أنه كان هنالك سبب آخر وراء النمو البطيء للوعي بالجائحة: الرقابة.
في القلب من المجزرة الوحشية للحرب العالمية الأولى كانت الرقابة من حقائق الحياة المقرَّرة آنذاك. بالنسبة للكثير من الجرائد، كانت الرقابة الذاتية بداعي الالتزام بواجب وطني للحفاظ على المعنويات العامة قد استأنفت عام 1914.
وقد أشاروا عبر مؤتمرات مغلقة مع الصحافة إلى أن المعلومة العسكرية – وأي معلومة ذات أثر جارح أو مؤذي للروح المعنوية العامة– ليست مخولة لتبلغ عناوين الأخبار. دول محاربة أخرى عبر أوروبا كانت لها أنظمتها الخاصة للتحكم في تدفق الأخبار. بحلول 1918 كان محرروا الجرائد الإخبارية قد اعتادوا على عدم نشر الأخبار السيئة – أصبحت العملية أوتوماتيكية. في ذاك الوقت من شهر مارس، حيث كانت ألمانيا قد شنَّت هجومَ ربيعٍ مدمِّرا على الجبهة الغربية، كانت هنالك العديد من الأسباب الضاغطة للتحفظ على ذكر القاتل الصامت الذي يجوب الشوارع خلسة.
ومع ذلك، بحلول ماي 1918، كانت الجائحة العظيمة تشق طريقها نحو عناوين الأخبار في إسبانيا، أين أبلغت الصحافة عبر التقارير الإعلامية عن أزمة صحية عامَّة بصدد التفاقم. وكدولة غير محاربة، لم يكن الصحفيون الإسبان مكَّبلين كما كان الحال مع أقرانهم في ما وراء البحار– وتسنَّى للصحافة الأوروبية أن تنقل الأخبار عن أزمة في إسبانيا. وبهذه الطريقة، أصبحت الجائحة معروفة تحت اسم ” الأنفلونزا الإسبانية ” – رغم استحالة التعرف على نقطة مصدرها، ونمط انتشارها آنذاك، وبالفعل بقي من غير الممكن إعادة بناء تلك المعطيات في الدراسات اللاحقة.
في صيف 1918، بعد فشل هجوم الربيع الألماني الذي جرَّ معه تخفيفا للمخاوف العسكرية في لندن وباريس، وجدت جائحة الأنفلونزا مكانا في أعمدة الصحف البريطانية، تفصح تحاليل الصحف من تلك الفترة بالاستعانة بأرشيف الجرائد البريطانية عن أن مجموعة من الإشارات العابرة للأنفلونزا الإسبانية في شهر ماي تحولت إلى شيء أكبر في شهر جوان قبل أن تنفجر في جويلية، بحلول شهر أوت كانت الإنفلونزا الإسبانية قد بلغت “صفحات المجلة الطبية البريطانية“، بينما اتضح بالنظر في الماضي أن الفيروس قد تحوَّل إلى شكل أشد فتكا، انجرَّ عنه تصاعد متسارع في عدد الوفيات.
من منظورِ أكثَرَ من 100 سنة لاحقا، وأثناء جائحة أخرى، تطرح المواد المعلن عنها في الصحافة البريطانية حيال جائحة الأنفلونزا الإسبانية صعوبات استقرائية، مع ذلك، فإنها ذات أهمية في سياق محاولة فهم تطور الفيروس عبر بريطانيا وردود الأفعال إزاء تفشيه.
لم تكن ردود الأفعال تلك جديرة بالثناء برمتها، على سبيل المثال، مصنِّعوا بعض الأدوية ( براءات الاختراع وما إلى ذلك) كانوا سبَّاقين لاكتشاف احتمالية جائحة: ” الأنفلونزا الإسبانية – العديد من الوفيات تم تلافيها بعد الاستعمال الفوري لِ” اقرأ الإعلان الفلاني؟ مزيج ما للسُعال ( ما يزال متواجدا إلى يومنا هذا لكن لن أعمد إلى ذكر أسماء).
هكذا كان الأمل في هذه الأدوية المُعجِزة حتى أن الصحف المحلية في نهايات 1918 نقلت شهادات عن عريف من فوج آسيكس (وحدة عسكرية تنتمي للجيش البريطاني تأسس سنة 1881)، تم استشفاؤه نتيجة لإصابته بالأنفلونزا الإسبانية والذي أكَّد طواعية قيمة مزيج السعال ذاته في معالجة المرض– وأيضا في معالجة جندي نزيلٍ بمستشفى، برئتين متضررتين نتيجة لهجوم غازٍ سام. ما الذي تضمنته هذه الأدوية تحديدا من قيمة طبية في معالجة الأنفلونزا، كان هذا من المستحيل تمييزه بوضوح إلا أن العديد من الأشخاص اليائسين أبدوا استعدادا لاستثمار آمالهم وبضعة شيلينغهات في هكذا علاجات.
صرَّح أحد مصنِّعي الأدوية في نيوكاسل بسرور بالغ في إعلان لصالح “العلاج الهندي” خاصتهم أن 5000 طفلا تغيبوا عن المدرسة توفي اثنان منهم في الطريق إليها، وكانوا مبتهجين أيضا بمحاولة تهييج الشراء المذعور عبر تصريحات من قبيل:” لا تؤخِّر، اشتر الآن! قد يفوت الأوان غدا! القنينات نادرة، لدينا منها مخزون محدود”. أيا كانت فاعلية مدارس “العلاج الهندي” في نيوكاسل، في هال، وبارو دورهام وعبر الدولة فقد تم إغلاقها في نهاية المطاف بعد تصاعد عدد الأطفال والأساتذة المرضى.
للتقارير أهمية خصوصية في محاولة استيعاب تطور المرض. على سبيل المثال: انبثاق الفيروس المستجد – الأشد فتكا، والأسرع تفشيا- في صيف 1918 يمكن أن نلمحه في تقرير صحيفة إخبارية وحيدة ذا غلوب في الخامس عشر من جويلية أين أعدت تقريرا عن مصنع متورط في أعمال الحرب أُصيب عماله بسرعة خاطفة للحد الذي جعلهم يظنون أنهم كانوا عرضة لهجوم غاز من طرف العدو.
بحلول أكتوبر وبينما ولجت الجائحة أشد مراحلها حدَّة، بدا أن محرري الصحف لازالوا منطوين بعد، ومتحفظين عن نشر الفظائع الكاملة التي كانت تحدث، وترك الأمر عموما في يد باعة الأدوية للإتيان على ذكر الأزمة ف إعلاناتهم الترويجية.
وبنهاية الحرب، وبعد أن انقضت ذروة الوباء – وتحولت من المحتمل إلى هيئة أقل فتكا – صار الفيروس حقيقة مقبولة من حقائق الحياة، إلى الحد الذي جعل منه تقريبا مدعاة للهزل. أشارت إحدى الجرائد في نوفمبر إلى طبيب من يوركشاير كان قد خلص إلى أنه “لا وجود للأنفلونزا الإسبانية عدا في الصحف”
و لسوء الحظ، فقد كانت هذه الأخبار أبعد ما يكون عن الزيف، وفي الوقت الذي استأنف فيه دورته حوالي 228.000 شخصا في المملكة المتحدة كانوا قد خضعوا لفيروس قد غادر بنفس السرعة التي حلَّ بها، مانحا مع ذلك الفرصة للكثيرين لمحاولة الانتفاع وتحقيق الكسب.
تقديم: عمر دريوش.
ترجمة: مروة بوحدة.