هذا الوباء هو أيضا فسحة لنا من “الانفتاح” السائد على ثقافتنا، ينبغي أن نخرج بأحسن ما فيه.
غني عن القول أن الحجر الصحي خلال جائحة ما، يمكن أن يكون صادما. لكنه وكأي من بقية الأوقات الصعبة، ليس مروعا للجميع بنفس القدر، بل قد يكون محررا للبعض. ويندرج ضمن هؤلاء الكثيرون من الأقلية الكبرى للمجتمع، الانطوائيون.
بدون شك، وفي الأوقات الطبيعية –أي بدون أوبئة وحجر صحي-ينتمي هذا العالم المعاصر للمنفتحين اجتماعيا. في منظومة اقتصادية تتسم بالصخب، يتم النظر لموظف المبيعات الاجتماعي بأنه يبلي أحسن من ذلك المنعزل. في مكاتبنا المفتوحة على بعض، نرى أن ذلك الذي يتحرك كفراشة ويقوم بعصف ذهني مسموع حتى في حجرة المؤن، لاعب أحسن للفريق من ذئب البراري* الكتوم المنكب على لوحة المفاتيح، وهكذا.
لكن وفي الأعوام الأخيرة، بدأ مجتمع الانطوائيين بحملة لتغيير هذا الطرح، دون مصادرة للسّلطة من المنفتحين، لكن ببساطة ليتم تقبلهم هم أيضا كمن يملك شيئا قيما لإضافته. لأنهم بالفعل كذلك. انطلقت الحملة بمقالة، صارت الآن من الكلاسيكيات، قام بكتابتها زميلي الاقتصادي السابق جوناثان روتش. واستمرت بكتاب على قائمة أحسن المبيعات وخطاب على منصة TED من طرف الكاتبة سوزان كين.
يتبدى الكثير من الخلط والحيرة، حين الحديث عما تعنيه الانطوائية وما يعنيه الانفتاح فعلا. إن التعاريف المقدمة لهذين النمطين من الشخصية، المتأصلة في أعمال كارل يانغ **، لا علاقة لها إطلاقا بأن يكون الشخص خجلا أو أن يكون قائدا (يمكن للانطوائي أن يكون قائدا، أو لا، كأي شخص آخر). عوضا عن ذلك، يكمن الفرق بين النمطين، أي الانطوائي والمنفتح، على المستوى الإدراكي، فيما يمكن أن يجده الشخص محفزا، وما يمكن أن يجده مرهقا على الطرف المقابل.
يحتاج الأشخاص المنفتحون أشخاصا آخرين، للحديث معهم، ليشحنوا طاقتهم. عندما يكونون وحيدين، يشعرون غالبا بأنهم مفرغون ومعزولون. أن يكون أحد هؤلاء لوحده، يعني ببساطة أنه وحيد.
أمّا الانطوائيون؛ فتستنزفهم محادثة صغيرة فوضوية وعشوائية، تتعبهم الحركية المائعة لحفلة مشروبات، ويربكهم أولئك الذين يتحدثون دون أن يفكروا خلال ما يزعم أنها حصص للعصف الذهني المبدع. ينبغي على الانطوائيين، لإعادة شحن بطارياتهم، أن يكونوا وحيدين، أو مع قلة من الأشخاص الذين يعرفونهم معرفة شخصية وثيقة. الانطوائيون يحبون التفكير، القراءة، الخوض أو مناقشة أمر ما بشكل معمق. من شأن الأشياء الجيدة أن توجد أثناء التعمق.
السؤال الآن هو: ماهو المغزى من الحجر الصحي؟ “العزل الاجتماعي”، طبعا. بالنسبة لشخص منفتح، هذا التعبير ينطوي على تناقض. أما بالنسبة لانطوائي، فهو وضع مثالي. بتعبير أكثر مرحا، هو انقطاع شبه كامل عن المحادثات الصغيرة، وفرصة نادرة للتركيز. إضافة لذلك، العزل الاجتماعي لا يعني بالضرورة قطع التواصل، قطعا لا في عصر Zoom. على عكس المكاتب المفتوحة على بعض، يمكن إطفاء الإشعارات الصادرة من Zoom *** .
وبالتالي، الانطوائيون أقل قابلية للشعور بالفراغ، العزلة والملل من المنفتحين، وأكثر استعدادا للشعور بالتحفيز، بل من شأنهم أن يكونوا أكثر ترحيبا بنقص التشويش للغوص أكثر في أي أمر كان. يمكن للخلوة أن تجعل الأشخاص مبدعين.
فلنأخذ جون كيت على سبيل المثال، واحد من أعظم شعراء إنجلترا. شخص انطوائي كما يبدو، كان يعاني من السل عام 1820 وهو في الرابعة والعشرين من العمر، حين تفشى التيفوئيد خلال إحدى رحلاته لنابولي. تم حجر كيت في قارب قبال الساحل لمدة عشرة أيام. قضى وقته يكتب رسائل مثيرة للوجدان ومذكرات لطفولته.
أو لنأخذ مثالا آخر، إسحاق نيوتن الذي نادرا ما اختلط ببقية الطلبة، أو بأي شخص آخر. كان متمدرسا بجامعة كامبريدج حين تفشى الطاعون الأسود، عامي 1665 و1666. وكما فعلت المدارس والجامعات اليوم، أغلقت كامبريدج أبوابها وأرسلت كل الطلبة لبيوتهم. علق نيوتن في ولاية عائلته في لينكولنشير الريفية.
إلا أن كلمة “علق” ليست المناسبة لوصف وضعه، بالأحرى “تحرر” كانت هي الأنسب. فقد قضى نيوتن الشاب ساعات لا منتهية وحيدا وسط الطبيعة، مستغرقا في تأملاته الفكرية. ليرى تفاحة تسقط ذات يوم من شجرة، ويكتشف أنها استجابت لنفس القوة التي تجعل القمر يحوم بالأرض، وهذا ما قاده لنظريته حول الجاذبية. كما لاحظ الضوء بألوانه المختلفة وبدأ التفكير في علم البصريات. كما قام بتطبيق منطقه على الطبيعة بطريقة جعلت منه رائدا في حساب التفاضل والتكامل. يطلق المؤرخون الآن على ما كان في حقيقة الأمر حجرا صحيا، العام المعجزة لنيوتن.
ليكن في علمكم أني لا أخطط لاكتشاف فروع جديدة في الفيزياء أو الرياضيات في هذه الفترة الحرجة من كوفيد-19. لأن كوني انطوائيا، لا يعني، مع الأسف، أنني نابغة. رغم ذلك، أظن أن خلال وضعيات الإغلاق التام هاته حول العالم، أن هناك انطوائيا هنا وهناك يقوم في هذه اللحظة بدمج كل من اهتمامه، ابداعه وانتاجيته ليشكل سمفونية ما، يطور خوارزمية، يرسم لوحة أو يكتب كتابا. أو ببساطة، يقضي وقته بعيدا عن المقاطعات مع طفل أو زوجة.
والأفضل من ذلك، يمكن للمنفتحين أن يكونوا على نفس الوضع. لأنه وكما أكد كارل يانغ دائما، لا أحد ينتمي ودائما لنمط واحد فقط من هاتين الشخصيتين. في نقطة ما، سيختفي فيروس الكورونا، تاركا إيانا جميعا، انطوائيين ومنفتحين، في سلام لنختلط مجددا. إلى ذلك الوقت، يمكننا أن نفترض أن أمرا حسنا يمكن أن يولد من الوقت الذي نعيشه.
*رواية لهرمان هسه.
**عالم نفس عاصر فرويد.
***برنامج يشبه السكايب، يستعمل للإجتماعات عن بعد.
المصدر: Bloomberg.com
تدقيق لغويّ: أميرة بوسجيرة