غالباً، حين ننظر إلى عمل فني أو أدبي تتكون في أذهاننا صورة مباشرة عن صاحب العمل فنسرع بإسقاط فنه على حياته ونذهب للبحث في ماضيه عما يثبت صحة افتراضاتنا، محاولين إيجاد رابط بين العمل الفني والفنان بصورة متطابقة، فإذا كان العمل يعكس نظرة متشائمة ويائسة فيجب أن يكون الفنان شخصاً بائساً عاش حياة صعبة، أما إذا كان العمل مشرقاً فلابد أن صاحبه يغرق في بحر من السعادة، وإذا لم يتحقق ذلك نشكك في عمل الفنان، وقد يصل بنا الحال إلى اتهامه بالانفصال عن واقعه وعجزه عن ترجمة تجاربه بدلا من إعادة النظر في طريقة التفكير التي أوصلتنا لنتيجة خاطئة تناقض الواقع أمامنا.
يقول تشيكوفسكي “إن العمل الذي يؤلَّف في أسعد الظروف قد يصطبغ بألوان قاتمة كئيبة”. تكون هذه الحقيقة غائبة عن أذهاننا أثناء تقييمنا للفن الذي نراه أمامنا، وقد يكون ذلك أمراً خاطئاً نقوم به بلا وعي منا، فنقع فيما يسمى بـ” مغالطة الأصل / منشأ العمل الفني”1 حيث نقوم بتجسيد العمل الفني في الفنان ونبني حكماً على الفنان كشخص لا على العمل الفني مجرداً وبذلك يبتعد تقييمنا عن عالم الفن وجمالية العمل ومدى الإبداع فيه.
قد يبدو من الصعب الفصل بين الفنان وعمله، فكما يقول فرويد “… علينا أن لا ننسى أبداً عناصر العمل التي تجعله على ماهو عليه في طبيعته الباطنة”. قد يكون ذلك صحيحا في حالات ولكنه لاينطبق على جميع الحالات لنجعله مبدأ لنقد الفن وتقييم الفنان.
فلو نظرنا لبعض الأمثلة لوجدنا أن ظروف حياة الفنان ليست بعاملٍ مؤثرٍ كما نتخيله، لو زرت مثلاً المعرض الوطني للفنون بواشنطن ووقعت عينك على لوحة المأساة لشعرت بالتعاطف مع الفنان بسبب كمية الكآبة والفقر المتجسدة في اللوحة، ولافترضت أن بيكاسو عاش حياة مزرية ليتمكن من ترجمة كل تلك المشاعر الحزينة في لوحة واحدة، لكن على العكس من ذلك فحياة بيكاسو كانت مريحة نوعاً ما، لكنه استطاع تجسيد كل من مشاعر الفرح والكآبة في لوحاته دون أن ينتقص ذلك من جماليتها أو من إبداعه، و من جهة أخرى استطاع بيتهوفن تلحين السيمفونية التاسعة المليئة بالبهجة مرفقة “لنشيد الفرح” لشيلر -والتي تم اعتمادها حاليا كنشيد رسمي للاتحاد الأوروبي- قام بيتهوفن بتلحينها وهو يمر بأسوأ لحظات عمره وأصعبها بعد مرضه وفقدانه التام للسمع وتأثير ذلك على حياته الاجتماعية والمهنية بعد غياب دام 12 سنة، لكن ذلك كله لم يمنعه من تقديم واحدة من أعظم السيمفونيات في تاريخ الموسيقى.
“أتراني أناقض نفسي؟
حسناً، أُقرّ أني أناقض نفسي
(أنا شاسع، وفي داخلي ذوات كثيرة)“2
قراءة الأعمال الفنية والأدبية من خلال مرجعية الفنان تُفقد العمل بعضاً من جماليته وتُعتبر بشكل ما نظرة قاصرة لموهبة الفنان كأن العمل هو نتاج لمجموعة من الظروف لا إبداعه الخالص، ولايمكن طبعا عزل الفنان عن بيئته ولا إهمال تأثير ذلك وانعكاسه على عمله. لكن من الخطأ جعلها قاعدة عامة نقرأ بها أي عمل فني أمامنا، ففي اللحظة التي يتكون فيها أي عمل فني فهو ينفصل عن أصله ويصبح كياناً قائما بذاته، وكما يصوغها جيروم:
“وبالاختصار فإن منشأ «س» شيء، و«س» ذاتها شيء آخر، وما إن تبدأ «س» في الوجود حتى تصبح لها حياةٌ خاصة بها، إن جاز التعبير، وسوف يصبح لها — شأنها شأن النظرية أو الكائن البشري — تركيب وقيمة، وتدخل في علاقات مع الأشياء الأخرى، لا يمكن فهمها تمامًا من خلال أصلها الأول، فلا بُدَّ لنا من دراسة هذه السمات لكي نعرف كُنهه3.“
ومن ناحية أخرى يرى بارت4 أن على الكاتب أن يموت بمجرد أن يخرج نصه الى العلن، من خلال فلسفة موت المؤلف التي تدعو الى ارتباط القارئ أو الناقد بالنص مباشرة دون ارتباط مسبق بالمؤلف وخلفياته مما يسمح بقراءة أكثر وعياً و إبداعاً.
1: مغالطة الأصل أو المنشأ genetic fallacy: إحدى المغالطات المنطقية، وهي أن يستخدم المرء مصدر اعتقاده (مرده وأصله ومنشأه..) دليلاً على صدق اعتقاده، فيقبل الشيء أو يرفضه بحسب أصل هذا الشيء ومصدره، ومغالطة المنشأ الفني هي إحدى أنواع مغالطات الأصل. {المغالطات المنطقية –عادل مصفى-بتصرف}.
2: والت وايتمان– قصيدة “أغنية نفسي” Song of Myself – 1855.
3: جيروم ستولنيتز-النقد الفني.
4: رولان بارت: Roland Barthes فيلسوف فرنسي، ناقد أدبي، دلالي، ومنظر اجتماعي من أهم فلاسفة تيار مابعد الحداثة، يعتبر من مؤسسي لنظرية موت المؤلف من خلال مقاله “نظرية النص” الذي نشر عام 1968.
تدقيق لغوي: حفصة بوزكري.