لو سألنا عن أهم فلاسفة بغداد في القرن العاشر، سيكون الجواب ومن دون أدنى شك هو “الفارابي”. وهو واحد من المفكرين القلائل من العالم الإسلامي المعروفين بالنسبة لغير المختصين بالفلسفة، وقد استحق هذا الشيء نتيجة جهده الجبار بإعادة صياغة الفلسفة الميتافيزيقية والسياسية الأفلاطونية والأرسطية. لكن لو كنت ساكناً في بغداد في القرن العاشر، فربما كان جوابك ليكون يحيى ابن عدي. إن اسمه بالكاد معروف في وقتنا الحاضر، ولكنه وُصِف من قبل المؤرخ المسعودي على أنه المعلم الوحيد للفلسفة الأرسطية في أيامه الذي يستحق الذكر. لا يشكل ابن عدي مجرّد مثال واضح حول خفوت الشهرة عبر القرون. لكنه يمثل تصويراً واضحاً لطبيعة التداخل ما بين الأديان في الفلسفة في العالم الإسلامي.
كان ابن عدي مسيحياً، مثله مثل أغلب الفلاسفة الذين كتبوا تعليقات حول أرسطو في ذلك الوقت في بغداد. وكان الفارابي المسلم والذي يبدوا أنه كان أستاذ ابن عدي شذوذاً عن هذه القاعدة، وإكمالاً لهذه الصورة العالمية، كان ابن عدي يتبادل الرسائل مع العلامة اليهودي المسمى ابن أبي سعيد الموصلي، والذي قد كتب له عدة أسئلة حول فلسفة أرسطو والتي كان يأمل منه أن يوضحها له. كانت بغداد وباعتراف الجميع مكاناً استثنائيا، فقد كانت عاصمة الإمبراطورية مما جعلها نقطة جذب وصهر للمفكرين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. ولكن الفلسفة كانت ظاهرة متداخلة ما بين الأديان في أوقات وأماكن أخرى أيضاً. وأفضل مثال على ذلك هو إسبانيا الإسلامية، والمعروفة لثقافتها في التعايش convivencia (“العيش معاً”). اثنان من أهم مفكري العصور الوسطى، هم المسلم ابن رشد وبن ميمون اليهودي، قد عاشا في نفس الفترة تقريباً وقد انحدر كلاهما من الأندلس. بعد أن وقعت توليدو في أيدي المسيحيين، تعاون اليهودي إبراهيم ابن داوود مع المسيحي جونديسالبو من أجل ترجمة أعمال المفكر المسلم ابن سينا من العربية إلى اللاتينية.
المثال الأخير هو المثال الأوضح على هذا الكلام. تضمنت الفلسفة في تلك الأوقات تمثيلاً للتوجهات الدينية المختلفة لأنها كانت بالغالب مبنية على الترجمة. بالكاد كان هناك فلاسفة في العالم الإسلامي يجيدون قراءة اليونانية، حتى ابن رشد الذي يعتبر أعظم شارح لأرسطو لم يكن يجيدها. فقد اضطر ابن رشد بالإضافة للمسلمين المتحمسين لقراءة الحكمة الإغريقية للاعتماد على الترجمات، والتي كانت تتم بشكل غالب من قبل المسيحيين ما بين القرنيين الثامن والعاشر. حوفظ على المعرفة الإغريقية من قبل المفكرين المسيحيين في سوريا البيزنطية، وهو الشيء الذي يفسر سبب توجه المسلمين نحو المسيحيين لأجل ترجمة أعمال أرسطو، وبطليموس، وجالينوس وغيرهم من المفكرين الإغريق للعربية. وهكذا فإن مسألة وجود فلسفة متأثرة بالفكر الإغريقي في العالم الإسلامي كانت تجلياً للتعاون ما بين الأديان.
إن هذا الشيء لا يعني أن العالم الإسلامي كان خالياً من الصراع الديني. على العكس تماماً، يبدو أن أحد الأسباب التي دفعت أولئك المسلمين للاهتمام بأرسطو هو أن منطقه يمكنه أن يوفر لهم الأدوات اللازمة لمجارية خصومهم المسيحيين في النقاشات الدينية. مثال واضح على ذلك هو الكندي، وهو أول مفكر مسلم يستفيد من المصادر الإغريقية. لقد كتب دحضاّ قصيراً لعقيدة التثليث حيث استخدم المنطق الإغريقي لكي يجادل بأن الرب يجب أن يكون كياناً واحداً، ليس واحدٌ وثلاثة- مشيراً إلى أن القراء المسيحيين يجب أن يكونوا قادرين على تتبع سير البرهان، وذلك نتيجة إلمامهم بالمفاهيم المنطقية. إنها مفارقة مضحكة لهذه القصة أننا نعرف عن هذا الدحض فقط بفضل ابن عدي المذكور آنفاً والذي اقتبس كلام الكندي لأجل تفنيد ادعاءاته حول العقيدة المسيحية.
بينما كان هناك رجال مثل الكندي الذين كانوا يتبنون الأفكار الإغريقية لأجل الدفاع عن الإسلام ومهاجمة المسيحية، فقد عارض آخرون استيراد هذه الأفكار إلى الثقافة الإسلامية: رد الكندي على نقاد مجهولين أسوا على استخدام فلسفة وثنية، وقد انخرط مؤسس المدرسة المسيحية في بغداد في نزاع عام مع نحويّ مسلم حول أهمية المنطق الأرسطي. سخر النحوي من ادعاءات الأرسطيين المسيحيين، وابتهج بالإشارة إلى أن كل هذا المنطق لم يمنعهم من الإيمان بأن الرب يمكنه أن يكون وبطريقة غريبة واحدٌ وثلاثة في نفس الوقت.
رغم كل شيء، بقيت الحالة أن وفرت الفلسفة والعلوم بشكل عام نقطة تلاقي أو أرض محايدة للمفكرين من مختلف المذاهب الدينية. قرأ المسلمون والمسيحيون واليهود المهتمون بالميتافيزقيا الأرسطية أو بطب جالينوس تعليقات وشروحات بعضهم البعض على التراث الإغريقي. وهذا الشيء واضح حتى في الخلافات التي نشأت بينهم: استخدام المنطق الإغريقي للمجادلة حول عقيدة التثليث يقترح ضمنياً أن هذا الموضوع كان يمكن أن يحل عن طريق الاحتكام للمنطق. وقد جادل العديد من الفلاسفة المذكورين آنفاً أن الفلسفة وفرت أفضل مصدر لتأويل الكتابات المقدسة، سواء أكان التوراة، أو الإنجيل المسيحي، أو القرآن. ولذلك ليست بالمصادفة أن يكون هناك شبه قوي ما بين الإله الإبراهيمي الواحد عند الكندي المسلم، وعند ابن عدي المسيحي، وعند ابن ميمون اليهودي وما بين الإله في كتاب أرسطو الميتافيزقيا. لقد كانت مغامرتهم المشتركة كفلاسفة بارزين تعني أنهم كانوا يملكون قواسم مشتركة مع بعضهم البعض أكثر مما كانوا يملكون مع أخوانهم في الدين.