رغم تغيّر الأزمنة واختلاف العقليات ظل الجمال يتبع عين الإنسان، عقله وشعوره، إذ لا زالت الجماعات تنزع فطريا إلى الحس الجمالي الذي يشكل غاية في حد ذاته. وحاجة ملحة لا تخضع للحساب الرياضي الصارم ولا للقواعد المنطقية الدقيقة، ولا تتوقف كذلك عند حدود الفطرة السليمة بل تتعداها إلى ما يشكل كينونة وجودية تنسجم مع الموضوع الجمالي.
الحقيقة الإنسانية لا تستقر صرفا فيما هو عقلي مع أرسطو “الإنسان حيوان ناطق” أو فيما هو اجتماعي مع ابن خلدون. بما أننا كائنات مترامية الأطراف ومتعددة النواحي ومن هنا نستعير القول ونخالف النظر لنقول بأن الإنسان كائن جمالي بالضرورة في خطاب مستمر بكل ما يحرك سكونه ويحرره من الرتابة اليومية، والطبيعة هي العامل الأكبر الذي يعمل على تأكيد الرؤية الجمالية , ثم إن المملكة الأرضية بدورها تهذب أذواقه وتصقلها وتتناغم مع الطاقة الإلهية التي بثها داخلها.
يتساوق الجمال الطبيعي مع الفن الإبداعي البشري وإن كان الأصل للطبيعي والمحاكاة للعمل الفني، إلا أن الفن حظي باهتمام فئات هائلة بما يقدمه من إبداعات النظر تعكس توجه الفنان المدرسي أو حتى الشخصي، إذا فإن الفن من أهم الصناعات البشرية التي يتداخل في بنائها ثلاثة عناصر ضرورية:
1.الحدس (الإلهام) 2.المادة 3.الصورة
1.الحدس: مجال الشعور وهو معرفة فورية مباشرة لا تتدخل في تكوينها وسائط حسية أو عقلية لدرجة جعلتهم يصفونها بأنها إلهام إلهي.
2. المادة: ما يتم استخدامه في تمثيل ماهو تصوري بمخيلة الفنان إلى ماهو مادي (يعمل على هيكلة العمل الفني).
لكن هل يمكن أن يحصل التوافق التام بين ما هو حدسي وما هو مادي؟
الفكرة أغزر من الوسائل المعرفة لها، لذا فالفنان يقيّم عمله قبل أن يقيّمه الآخرون، ودوما ما قد يجد ثغرات في العمل. و في الحقيقة لايملك القدرة النهائية لتمثيل المقدّم حدسيا وليس هذا من الفشل بل من النجاح أن يكون العمل الفني غير مكتمل في كل جوانبه لأنه سيظل مفتوح الإمكانيات. ومن ثمة فإن الفنان هو الوحيد الذي يمتلك تجربة كاملة في تذوقه لعمله أما نحن فلا نتذوق إلا ما تسنى لنا لأننا لم نمتلك الخاطرة الفنية.
3.الصورة: وهنا تنصهر كل الوسائل التي تم من خلالها العمل ويقدّم العمل الفني كشكل نهائي اختزالي، لوحة فنية مثلا.
تشمل الجمالية المسارات المتنوعة لحياتنا بشكل عام ولا يخفى الجمال عن كل ناظر، فإن العارف الصوفي بشكل خاص يتخذ منها موجب الحقيقة ويتميز هذا النوع من الجمالية بتعدد المصادر الناقلة وتداخلها التي تنشد الوصول إلى الغاية القصوى للكون.
في سبيل تقديم رؤية عامة تشمل الجانب الإيماني والجانب الجمالي نقول بأن رحلة البحث عن الحقيقة المتعالية رحلة تصاعدية ينتقل من خلالها العارف من التشوش العلائقي الدنيوي إلى الرخام السماوي. كذلك لا تشرق المعارف الإلهية إلا بعد أن يتدرج المتصوف في طريقه بمعونة الشيخ، ونميز هنا بين:
1- المقام: هو ما يصل إليه العارف بعد سلسة من المجاهدات ويتفق عدد من المتصوفة على جعلها سبعة: مقام التوبة، مقام الورع، مقام الزهد، مقام الفقر، مقام الصبر، مقام التوكل، مقام الرضا.
2.الحال وهو بركة و رحمة من الله:
1.حال مراقبة النفس 3.حال المحبة
2.حال القرب 4.حال الخوف
5.حال الرجاء 7.حال الإنس
6.حال الشوق 8.حال الاطمئنان
9.حال المشاهدة 10.حال اليقين
بإمكاننا أن نتعقل طريق الوجد جماليا، ومن الواضح أن الصوفي يستقلّ عن غيره من أرباب العلم لأنه لا يبحث عن مسبب لسبب معلوم ومقصده واضح هو الاتصال بالله.
كل حضور لهم في عالم الحس ينشئ تعاطفا مع ذات العالم من قبل الإتيان بفكرة “التجلّي” فإن ما في الوجود هو تجل للأسماء والصفات المتعالية، وقد جاء في الفتوحات المكية “كنت كنزا مخفيا لم أعرف، خلقت الخلق فبه عرفوني” (ابن عربي)
يتضح لنا بأن المتصوف لا يذم الوجود في حد ذاته بل الإمكانية التي تقع عليه من زخارف دنيئة تغلف الجسد وتملكه روحها وإن ما تم في الوجود من ذات الله أقوم بالمشاهدة الجمالية في مبلغ الحفاظ على الظاهريات الطبيعية الخالصة والبحث عن المعاني الكامنة خلفها.
أما الوجه العقلي فيصدق في هذه المداولة النظرية وموقف المتصوفة من العقل مفتوح لاستقبال صور متعددة تستقر وظيفته في تنظيمها وضم الكثرة إلى وحدة وهي الغاية القصوى التي تسكن الأشياء جميعا وفي مطلق التنزيه، وهذا عمل العقل الاستدلالي الذي ينطلق من النظر في الموجودات إلى غاية الوصول إلى العلة النهائية التي ما بعدها علة.
لا يملك المتصوف إلا أن يحفظ مقاماته وأحواله على ضوء العقيدة والنص الديني الذي هو عين الحقيقة ورداءها وقد صدق الجنيد في قوله “مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة” وقد صور المتصوفة الأوائل ابتداء من أبو هاشم والمنصور بن عمر..ضرورة وجدّة هذا الإلزام الذي كان منه التوغل في باطن العقيدة.
يرتقى المتصوف إلى مرحلة (الكشف) وهو حالة من الفيض الإلهي يسقط فيها الحجاب وتظهر له الحقائق وكأنها حاصلة في عالم الوجود.
ومن ثمة فتجربته الجمالية تتميز على غرار التجارب الأخرى في مجموعة من العناصر:
– العارف يغلب المطلق على النسبي ويضبط حضور مدركاته في عالم الشهادة، بينما المتذوق من عامة الناس يربط إحكامه بما هو نسبي ومعياري.
– المتصوف يتجاوز الأحكام الذاتية لأن ما يتلقاه من لطف إلهي يخترق حدود الأنا ويذيب سياج العلاقة القائمة بين الذات والموضوع، فهو بعد أن يتقدم به الحال ويحصل الفناء تصبح كل رؤيته بالله ويرفقها البقاء أي البقاء بذات الله.
– الاستغراق الجمالي عند الشاهدين لا يخضع لعنصر الزمكان فالحدس مخبر الحق لا ينام كالعين التي تنطفئ من شدة التعب وكل استغراق في الجماليات الإلهية هو استرزاق يروي العارف جما من البديع. أما استغراقنا يخضع بالضرورة لعنصر الزمان والمكان فالموضوع الجمالي مكانه وزمانه معلوم.
– موقف المتصوف ممّا يعرض له من حقائق هو موقف متأدب ينهل من ارتشاف جمالي لعناصر محجوبة الظهور أمام الأعيان فهو بالشوق يتطلع لكل ماهو مشرق ومضيء والحب قاعدة العاكفين وعين حال لا تأفل ولا تذبل. بينما أحكامنا الذوقية لا تطفيء هالة من التقديس انسجاما مع موضوعها وتتجدد بتجدد المواقف المعرفية.
من أجل تجربة جمالية متوازنة الأبعاد نكون دوما بحاجة إلى تطوير وتثقيف ذاتي وفكري واجتماعي سلوكي وقد تبيّن لنا أن البعد المعرفي الصوفي يدور في أفلاك صالحة لأن نهبها رؤية جمالية.
إعداد: شيماء زيتوني.