الوجه الآخر للنضال الجزائري ضد ظلم الاستعمار الفرنسي، الوجه الذي يظل غائبا في تاريخ الثورة الذي تتدارسه الأجيال جيلا بعد جيل. مسألة تحرير الجزائر بالكفاح السلمي والمسلّح لم تكن ملقاةً على عاتق الجزائري الفرد العربي أو الأمازيغي فقط، بل حتى الجزائري ذي الأصول الأوروبية حمل همّ تحرير قطعة الأرض التي اعتبرها بلاده منذ أول نسمات هواء شقت طريقها داخل رئتيه عند ولادته.
هذا العنصر الفريد ظلّ غائبا عن ذاكرتنا وبقيت فقط صورة المعمّر الأوروبي المتواطئ مع الجيش المستعمر في ظلمه واضطهاده للجزائري. أسماءٌ كثيرة لشخصيات شاركت في نضال الوطن من أجل “جزائر حرة مستقلة”.
قد حاول جوزيف أندراس إلقاء الضوء على واحد من أهم الشخصيات الثورية، التي قضت نحبها من أجل حرية الجزائر، وذلك من خلال روايته “عن إخواننا الجرحى” (De nos frères blessés) حيث يروي قصة الفرنسي-الجزائري ابن الأحياء الشعبية “فرنان إيفتون” ولد في مدينة الجزائر (سالومبي-المدنية حاليا) من أب فرنسي وأم إسبانية.
إيفتون عاش حياة بسيطة كما يرويها أندراس في فصول روايته، كونه أوروبيا بالمولد لم يثنه عن أن يكون جزائريا خالصا يؤلمه ما يؤلم أبناء وطنه خلال فترة الاستعمار، رغم الامتيازات التي كان يتمتع بها المعمّرون مقارنة بأبناء الوطن إلا أن إيفتون لم يغفل عن الحقيقة ولم يتوان عن تبني قضايا مجتمعه الذي عاش وسطه، فكانت حياته “حب وحرب”، أحب الجزائر الحرة المستقلة التي رسمها في مخيلته وناضل من أجلها وقدم روحه ورأسه قربانا لها، وأحب “هيلين” الشقراء البولندية التي منحه حضنها الأمن وذكرياتها الأمل ليقاوم عزلته داخل السجن المظلم.
في العشرينيات من عمره اختار إيفتون أن يحارب من أجل قضية إنسانية سامية، بعدما تجلى أمامه زيف شعارات “فرنسا الأخوة والمساواة والعدل”، ففرنسا الجزائر كانت لاتشبه أبدا فرنسا أوروبا، ما جعل إيفتون يختار المواجهة بدل العيش بصمت وهو يرى معاناة الشعب الجزائري حوله، فانضم إلى الحزب الشيوعي ليكون نضاله سلميا يليق برجل مثله.
لكن تصفية صديق العمر “هنري مايو” من طرف الجيش الفرنسي بسبب تمرده على الحكومة الفرنسية وانضمامه لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، رحيل صديقه بهذه الطريقة الوحشية مثّل ضربة قاضية له، ما جعله ينتفض واشتعل لهيب الثورة بداخله ليتيقن أن السلم لا مكان له مع الوحوش التي يتعامل معها.
فانضم هو الآخر إلى جيش التحرير بشكل مستقل عن حزبه، واختار العنف الذي لايؤذي أحدا، حتى القنبلة التي كان من المفترض أن لا تقتل أحدا داخل المصنع الذي اشتغل فيه سابقا، رفضت الانفجار وحرمته انتقاما صغيرا لمعاناة صديقه الراحل.
اعتُقل إيفتون إثر ذلك وتعرض لأشد أنواع التعذيب والتنكيل داخل السجون الفرنسية في الجزائر بحيث لم تشفع له أصوله الفرنسية ولا فشل التفجير، لتتم تصفيته يوم 11 فيفري 1957 تطبيقا لحكم الإعدام الذي صدر في حقه بتزكية من “ميتران”. فكان إيفتون الفرنسي الوحيد الذي صدر في حقه حكم الإعدام مع تنفيذ الحكم، يقول المؤرخ الفرنسي ألان روسيو “إن إعدام فرنان إيفتون شنقا، وصمة عار لا تمحى في تاريخ فرنسا المعاصر..”
قضية إيفتون أحدثت بلبلة كبيرة في الأوساط المثقفة والشعبية على حد سواء في الشارع الجزائري والفرنسي، تدخل البعض طلبا للعفو الرئاسي وإبطال حكم الإعدام، لكن دون جدوى، كما وقف آخرون ضده بحجة أن ما قام به هو خيانة عظمى “لأمه فرنسا” ولا يستحق بذلك سوى فصل رأسه عن جسده ليكون عبرة لكل خائن بعده، ألبير كامو كان من بين من تدخل لانقاذه وقال معلقا على موته:
رحل إيفتون ليس من أجل الجزائر فقط بل من أجل كل قضية عادلة لم تجد من ينتصر لها، اختار الجزائر التي تنكرت له بعد استقلالها وهو الذي قال في آخر كلماته قبل إعدامه:
كانت رؤيته صادقة، الصداقة بين الجزائر وفرنسا بنيت فوق أنقاض الجماجم وذاكرة تاريخ خائنة تنكرت لإيفتون وهنري وكل مناضل أوروبي حرّ اختار أن يتنازل عن فرنسيته ويكافح لأجل “جزائر حرة” على غرار موريس أودان، فرنسيس جونسون، فرانتز فانون، هنري علاق وغيرهم، وفي النهاية “لا يوجد قلب تستطيع الدولة تقييده، فالأحلام تذيب الحمض نفسه” -جوزيف أندراس- وأحلام الحرية أكبر من قيد الوطن.
تدقيق لغوي: سليم قابة.