يستمد هذا الموضوع أهميته من حقيقة كون المواجهة ما بين العنف واللغة تبطن أو توفر البنية التحتية لجميع المشاكل التي يمكن القول أنها تواجه الإنسان، هذه الحقيقة بالذات تخلق شعورا بأنّنا نتعامل مع شيء يفوق حِملنا. لذلك من السهل ملاحظة الظل الهائل الذي تُخلِّفه هذه الحقيقة على الحقول المعرفية كافة، لأنَّ كلا من العنف واللغة يهيمان كلا على حدى على جميع الحقول الإنسانية.
ستكون محاولة ساذجة لخداع أنفسنا ودغدغة فكرة آمنة وضيّقة الأفق حول العنف لو حاولنا حدّ العنف إلى أحد شكليه الأكثر تطرفا والأكثر وضوحاً: الأول هو القتل، ويعني الموت الواقع على فرد من قبل فرد آخر؛ والثاني وهو عنف الطبيعة الذي لا يمكن السيطرة عليه عندما تهاجم هذه الأخيرة الإنسان: عنف النيران، وعنف الأعاصير، وعنف الفيضانات، وعنف الانهيارات الثلجية، وعنف الألم الجسدي، وعنف الأوبئة. وما بين جريمة القتل والانهيار الثلجي هناك كون شاسع من المابين، حيث يتضمن بالغالب العنف ذاته: العنف البشري، الفرد ذاته كعنف. عنف الفرد يحمل صفات تقترب من كلا طرفي النقيض، الإعصار وجريمة القتل: فمن النّاحية القريبة على الإعصار، هناك العنف من أجل الرغبة والشهوة، والعنف بسبب الخوف، والعنف نتيجة الحقد [مفاهيم طبيعية يصعب السيطرة عليها أو تقييدها]؛ ومن الناحية القريبة من جريمة القتل، هناك الرغبة بالهيمنة والسيطرة على الفرد الآخر، الرغبة بسلبه حريته بالتعبير عن نفسه، وتتمثل في العنصرية والإمبريالية.
يجادل البعض بأن توسيع نطاق العنف لهذه الدرجة غير مفيد أبدا، لأنَّ هذا الشيء سيؤدي إلى خلط جميع أشكال العنف مع بعضها البعض مشكلاً تكتلاً مبهماً وغير محدد العوالم، مما يميّع أو يذيب معضلات معينة تفرضها علينا مفاهيم من قبيل الاضطهاد والثورة، أو حتى الكره الشخصي بين الأفراد بعضهم البعض. ورغم ذلك، أصرّ على أن واجب الفيلسوف في هذه الحالة هو أن يفحص هذا الحقل الواسع للعنف، بدءاً من طبيعته الخارجية التي نحاربها، ومروراً بالطبيعة الداخلية التي تحكم ذواتنا، وحتى الوصول في النهاية، إلى إرادة القتل، التي يقال أنها تتغذى على التلاقي ما بين وعي الفرد والوعي الآخر.
فما يوحد الأشكال والتعبيرات المختلفة لمشكلة العنف ليس حقيقة أن هذه الأشكال والتعبيرات مستمدة من شكل أو مفهوم جوهري معيّن تنبثق منه هذه الأفعال، بل تتوحّد هذه الأشكال من كونها في حالة تعارض مع اللغة. ذلك أن العنف هو مشكلة تخصّ الكائن المتكلِّم، ذلك الكائن الذي يسعى للوصول عن طريق الكلام إلى المعنى، والذي دخل في ميدان النقاش بالفعل، ويملك فهماً أساسيّا لمفهوم العقلانية والحجج المنطقية. فهكذا يكتسب العنف معناه عن طريق الآخر: اللغة. والعكس بالعكس. فتكتسب مفاهيم الخطاب والنقاش والعقلانية وحدتها ومفهومها الجوهري من حقيقة أنها جميعا محاولات لحسر العنف وتجنّبه. فالعنف الذي يستخدم الكلام والخطاب هو بالفعل عنفٌ يحاول أن يكون محقّا: إنّه عنف يحاول أن يحلق قرب مدار أو قرب الأطراف الخارجية للمنطق وبدأ بالفعل بتفكيك ذاته بوصفه عنفا.
وهذا هو الحد الفاصل ما بين الإثنين: يقيس كلّ من العنف واللغة نفسه من نقطة نهاية الآخر مثل كيانين متناقضين يشغلان حيزا واحدا يغير كل منهما المساحة التي يشغلها بناء على الاِمتداد الذي يشغله الآخر.
ويطيب للمرء أن يتوقّف عند هذه النقطة؛ وعلى مستوى ما، لن نتجاوز نقطة البداية هذه، ولكن سنقترب منها بشكل نظري أقل، وبشكل واقعي أكثر. لأن الفرد لا يمكنه أن يناقش موضوع العنف من دون أن يناقض ذاته، لأنَّ النقاش يعني أنه يسعى لأن يكون محقا وهو بهذا يدخل في حقل الكلام والخطاب، تاركا سلاحه خلفه. يجب على الشخص الذي يريد مناقشة هذا الموضوع أن يعلق مؤقتا هذا التناقض المنهجيّ ما بين اللغة والعنف. ولكن بمجرد قول هذا، يستولي على الفرد إحساس طاغٍ بأن هذا التناقض المنهجي بين الموضوعين لا يلخّص هذه المعضلة، ولكنه مجرد خيط غليظ من الفراغ الذي يحيط هذه المعضلة بدلا من أن يكون قلبها.
ما سبب هذا؟ لأن التناقض الذي نفهمه والذي بدأنا به ليس بالضبط التناقض ما بين اللغة والعنف، ولكنه -وفقا لاصطلاحات إيريك ويل – Eric Weil في كتابه La Logique de la philosophie، والذي يمكن ملاحظة تأثير كلماته في مقدمتي- في الواقع التعارض ما بين الخطاب discourse والعنف، ولكي أكون أكثر دقة ما بين الخطاب المتناسق coherent discourse والعنف. لا أحد يرتّل هذا الخطاب المتناسق، لا أحد يحكم قبضته على الخطاب المتناسق. فلو حاول أحد أن يدّعي الخطاب المتناسق لصالح فكره، فسيكون من جديد كيانا عنيفا، يحاول عن طريق استخدامه غطاء مزيفا من الخطاب المتناسق، أن يجعل توجهه أو فكره الفلسفي هو المهيمن.
لقد رددت كلمة هنا: مزيّف. تكشف هذه الكلمة عالما قاتما من الكلمات المزيفة التي تجعل اللغة صوت العنف الناطق. لقد بدأنا من الجدل الواضح والبسيط ما بين اللغة والعنف، والآن هنا وعلى خلفية هذا الجدل، وفي ميدانه، في هذا التناقض الدائم الغير قابل للفكاك تنبثق جملة: العنف يتكلم. من وجهة نظر المعنى، فإن ذلك الشيء الذي ينطقه، هو العنف. وهكذا نصل إلى استكشاف جميع وسطاء “العنف”، “والخطاب والعنف”.
من الواضح أن مثل هذه المشاكل لن تواجهنا لو أننا ألزمنا أنفسنا ببنية اللغة بشكل دقيق. عند ولوجنا في ميدان سيكولوجيا الخطاب فقط يمكن لمثل هذا السؤال ليس أن يحصل على إجابة فقط، بل ببساطة أن يُسأل. اللغة بريئة -اللغة هنا تعني الأداةtool ، الرمز – code لأنها لا تنطق – speak، بل هي منطوقة – spoken. إن اللغة نوع من الخطاب الذي يملك هذه المشكلة موضع التساؤل. الكلمة المنطوقة هي التي تملك ثنائية المعنى والعنف، لا المخازن الكليّة والمكتملة والمغلقة. فمن الضروري إذا اختراق ميكانيكية اللغة من أجل مواجهة التصارع من أجل المعنى في تعارضه مع التعبير عن العنف. على شخص ما أن يعبر عن نفسه ليس من الضروري أن يكون هذا الشخص أنا، السيد فلان الفلاني، ولكن قومي، طبقتي، جماعتي، إلخ.—من أجل السماح للعنف أن يعبر عن نفسه. إن الرغبة في قول شيء ما يجب أن تتجاوز هذا التعبير العنيف من أجل السماح للهدف المرجو من المعنى أن يصبح في حالة تعارض مع التعبير عن العنف. هكذا هناك في الكلام -ولكن ليس في اللغة- مجال ضيّق حيث يمكن للتعبير عن العنف والرغبة في المعنى أن يجتمعا ويكملا بعضهما البعض. هذا يحدث حين تخضع الكلمة المنطوقة لأكثر حالات التوتر ما بين العنف والمعنى المنطقي. إن اللغة بوصفها “كلام” هي الموضع الذي يصل العنف مرحلة التعبير في ذات اللحظة التي يحصل فيها الرغبة بالمعنى المنطقي على الدعم اللازم في مهمة البحث عن السبب الكائن خلف رغبتنا بالكلام.
أرغب أن أقارب وبشكل مادي أكثر هذا التقاطع ما بين التعبير العنيف -الذي يهب العنف صوتا- وما بين الرغبة بالمعنى -والذي يهب صوتاً للخطاب المتناسق. سأبحث عن هذا التقاطع في الكلمات، أو لكي أكون أكثر دقة، في التسميات، وهو فعل التسمية والذي لا ينتمي لنطاق اللغة ذاتها، بل في إنشاء الكلام. قد يتفاجأ البعض من كلامي حول الكلمات وانتمائها لميدان الكلام [عملية التكلم]، وبالنتيجة لميدان الجمل، وليس عن انتمائها للغة ومخترعيها. ألا تستلقي الكلمات بهدوء في قواميسنا؟ بالتأكيد لا. ليس هناك (أو لم يعد هناك) كلمات في قواميسنا؛ كل ما هناك هو علامات محددة عن طريق علامات أخرى ضمن نظام مشترك من الرموز العُرفية. تتحوّل هذه العلامات إلى كلمات مشحونة بالتعبير والمعنى حينما توضع داخل جملة بنجاح، أي عندما تستخدم وتأخذ قيمة معينة من فعل الاستخدام [الكلام]. بالتأكيد تأتي هذه العلامات من المعجم والذي تعود إليه بعد استخدامها؛ ولكنها تملك معنى فقط في تلك اللحظة الزائلة من الخطاب التي ندعوها جملة. عند ذلك تدخل في ميدان المواجهة ما بين العنف والخطاب.
أرغب بعرض أمثلة مستمدة من ثلاثة ميادين مختلفة للكلام: السياسة، والشعر، والفلسفة. في هذه الميادين الثلاثة -والتي لا أرغب وبأي شكل من الأشكال أن أفاضل بينها- فالكلمة هي جوهرة الكلام، هي الشيء الذي يركز عليه كل من العنف والمعنى.
عندما نفكر في السياسة فإن أول ما يخطر على بالنا هو الطغيان والثورة؛ ولنا الحق في ذلك، ولكن هذا الشيء لا يقترب ولو بنسبة صغيرة من تغطية المسألة بالكامل. بل حتى قد يخفي شيئاً أكثر جوهرية. ذلك أن في الممارسة الطبيعية للسياسة ينشأ التقاطع الأصلي ما بين العنف والمعنى. ولكن دعونا نبدأ مع الطغيان. في حالة الطغيان من الواضح أن العنف هو من يتكلم. وهذا واضح جداً إلى درجة أن الفلاسفة كانوا دوما يعارضون ما بين الطغيان، القوة المتطرفة، وما بين الفلسفة التي هي خطاب أو منهج تأملي. إن السبب الرئيسي لشجب الفلسفة للطغيان هو اقتحام الطغيان ميدان الفلسفة: اللغة. بالفعل فالطغيان لم يكن أبدا مجرد استخدام صامت للقوة الغاشمة.
يشق الطغيان طريقه عن طريق الإغراء، والإقناع، والمجاملة؛ يفضل الطاغية خدمات السفسطائي على الجلاد. حتى اليوم، لا بل بالخصوص اليوم، يهيمن هتلر عن طريق غوبلز [وزير الإعلام النازي]. إن غوبلز السفسطائي ضروري من أجل صياغة الكلمات والصيغ التي تعبئ الجموع بالحقد، وتعزّز الروابط ما بين المجتمع أثناء قيامهم بجريمة جماعية مشتركة، وهذا يؤدي إلى خلق الدعوات بالتضحية والقتل. نعم، السفسطائيون ضروريون من أجل خلق العنف، ويمكن القول أنهم يعبئون الكلام في لحظة خلق وعي جديد. ليس هناك مشروع ثوري من دون وعي أو من دون عملية اكتساب وعي، وبالتالي من دون صياغة لمعنى جديد. ولكن العنف السياسي ليس محصوراً في الطغيان أو الثورة. شيئاً فشيئاً كل شيء متعلق بالسياسة يصبح ممسوسا بالخيوط المتشابكة للعنف والمعنى. ومن دون شك علينا أن نتكلم في البداية عن المعنى، لأن السياسة موجودة لأن المدينة موجودة -وهذا نتيجة بدأ الأفراد والنجاح على مستوى ما في تجاوز عنفهم الشخصي عن طريق وضع هذا العنف بين يدي القانون. إن كلمة المدينة تحمل هذه العلامة الكونية، وهي نوعٌ من الإشارة للاعنف. وفي نفس الوقت يتوحّد المجتمع سياسيّا فقط لأن قوة ما تفرض هذا الشكل من البنيان الاِجتماعي وتخلق ترابطا ما بين البدن الاجتماعي ووحدة الإرادة التي تشكل القرارات وتفرضها فرضا من أجل جعلها قوانين نافذة. ورغم ذلك، وفي نفس الوقت يمكن تمثيل هذه الإرادة -والتي يمكن تعريفها بأنها القانون بالنسبة للفرد- بشخص شديد الغضب والذي يردد في بعض الأحيان لغة الخوف، والغضب، والكبرياء المجروح، والتباهي المتعجرف، باختصار يمكن القول، أنه يردد لغة العنف. وهكذا فالقانون نفسه الذي يمنح البدن الاجتماعي شكله هو في نفس الوقت قوة، عنف جبار يشق طريقه من خلال العنف الخاص ما بين الأفراد مستخدماً لغة القيم والشرف. ومن هنا تأتي تلك الكلمات المجلجلة التي تحرّك الجموع وفي بعض الأحيان وتدفعهم نحو الهلاك. هكذا تغزوا الإرادة العامة إرادتنا الخاصة عن طريق الفن الحاذق للتسمية؛ أي عن طريق إجبار لغتنا الخاصة على الانصياع والتناغم داخل أسطورة المجد المشتركة، والتي بالإضافة لقيامهم بإغراء إراداتنا [عن طريق دعاوى الشرف والقيم] مثلما يخرج العصير من الفاكهة عند عصرها، فهي تسمح لهم بالتعبير عن عنفهم من خلالنا.
هل يمكننا القول أن مثل هذه المصائب تحدث في اللغة السياسية فقط؟ ولكن لو اكتشفنا أن أكثر اللغات براءة -وهي لغة الشعر- لم تستطع الهرب من جزئية التوتر ما بين المعنى والعنف، فعندها يجب أن نعترف بأن جميع اللغات مختومة ومقيدة. أؤمن أن اللغة الشعرية تنبثق من انفتاح معيّن يسمح لبعض خصائص الوجود أن تتمظهر. أنا أستعير هنا وصف هايدغر للكلام كخضوع لمقاييس الوجود المقننة والتي انفتحت أمام الإنسان بالفعل. هذا هو أسلوب الشاعر بتسليم نفسه للمعنى. إن طاعته ليست بخضوع، ذلك الخضوع الذي يمكن وضع التمرد أو الاستقلال كمفاهيم معارضة له؛ إن طاعته تكمن في هذا الاستسلام، في هذا “الاتّباع”، في التخلي عن المسؤولية. إنه خلال هذه العملية يتشكل الخطاب اللاعنفي، والذي يُعتبر الفعل verb فيه أكثر المفاهيم تقدما. إنه الميدان حيث يكون للإنسان أقل مقدار من السيطرة على اللغة بل على العكس حيث اللغة هي من تملك الإنسان تحت خدمتها.
ورغم كل هذا فالعنف يتكتل بالخصوص في هذه النقطة التي تقع على أقصى الطرف من اللاعنف، كيف؟ لكي أكون دقيقا فهو في صدمة الكلمة، في قوّة صدمة الكلمة؛ فوفقا لهايدغر: إدخال الكيان داخل حيز باللغة هو إدخاله داخل حيز بالكلمة. والآن يقول هايدغر أن الكلمة، والتي تشكل الاسم، “تؤسّس وجوداً للكيان محاطا داخل وجودها وبالتالي تحفظه أثناء انفتاحه.” تحافظ على الشيء أثناء انفتاحه؟ فها هنا يستقر ويشع العنف الناعم، والذي يصفه الإنجيل بأنه يقوّي مملكة الرب؛ فعن طريق الكلمات، عن طريق إمساك أو تقييد الكيان الموجود بالكلمات، تتكوّن الأشياء وتكون. الانفتاح هو عملية تقييد أو إمساك، ونفس الشيء ينطبق على الكلمات الشعرية، وفيه يتم التعبير عن عنف الشاعر بالخصوص في اللحظة التي يتخلّى فيها عن ذاته ويسلّم نفسه للوجود غير المنفتح. فالرجل العنيف يكشف نفسه في لحظة انكشاف الكيان والمعنى: في لحظة الوصول، في لحظة نضوج الكلمة. الشاعر هو الرجل العنيف الذي يجبر الأشياء على الكلام. إنها عملية اختطاف شعرية.
سأنهي هذا المراجعة المشتركة حول العنف والخطاب ببضع كلمات حول اللغة الفلسفية. أنا أتفق تماما مع إيريك ويل بأنه يمكن تعريف الفلسفة بالتوق نحو معنى، بتفضيل الخطاب المتماسك. فالنظام والتماسك أو الترابط يمثلان للفيلسوف مثلما يمثل الانفتاح للشاعر. ولكن هذه النية والأساليب التي يتبعها الفيلسوف بهذا الطريق تخاطر بالتعتيم أو تضليل الخيط الخفي الذي يجمع ما بين الخطاب والخصوصية العنيفة للفيلسوف.
ففي البداية، هناك عنف السؤال الأولي: الفيلسوف هو شخص مهووس بسؤال الكوجيتو*، وسؤال الأحكام التركيبية القبلية synthetic a priori judgments**، وحتى سؤال الوجود. يصل الفيلسوف إلى الفكر عن طريق سؤال واحد صغير. العنف ونقطة الافتراق؟ عنف نقطة الافتراق؟ أن تبدأ هو دائماً فعل ممارسة قوة معينة، حتى بل وبالخصوص حيث يبدأ المرء مع كيان مجرد، كما يفعل سبينوزا.
ومن ثم هناك عنف من نوع آخر: الفيلسوف هو شخص يشكل ويدمج العناصر المختلفة لخطابه ضمن أفق التراث، والذي هو تراث محدد بالفعل، مستخدما كلمات محمّلة بالفعل بالمعاني؛ لا يمكن لفيلسوفٍ أن يتفلسف واضعاً جميع تحيّزاته جانباً. لا يمكن أن توجد فلسفة من دون تحيّزات مسبقة.
وفي النهاية هناك عنف الحكم على الأفكار الغير مكتملة: توجد الفلسفة فقط داخل الكتب، هذه الكتب التي لا نملك الوقت لقراءتها كلها، فنضطر للوقوف في نقطة عشوائية، مقاطعاً عملية الوصول إلى منظومة كلية تامة. لهذا السبب فجميع الفلسفات هي جزئية على الرغم من أنه يمكن العثور على كل شيء في الفلسفات العظيمة. وبصفتي أنا واحد من الجزئيات العنيفة، من وجه نظري الخاصة أني أُدرك جميع هذه الجزئيات والتي هي جزئيات كلية. فالطريق الصعب ل”النضال المُرضي [السعي المتعب نحو الحقيقة رغم المصاعب التي نواجهها]” هو الطريق الوحيد المتاح لنا.
أرغب في الختام أن أرسم عدة استنتاجات نظرية وعملية من هذه المواجهة. الأول يخص فكرة المعنى المنطقي، أو الخطاب المنطقي، والذي يشكل أساس هذه التأملات. وأرغب بقول ثلاثة أشياء حول هذا الموضوع. الشيء الأول هو أن هذا النقاش يملك معنى فقط لو أمكننا الكلام حول غاية اللغة. فمن دون غاية، من دون مشروع محدد للغة، لا يمكن مواجهة اللغة أو العنف، ولا حتى الجمع بينهما. فعند البحث عن المعنى على هذا المستوى، مستوى الغايات نحصل على العنف كنقيض له. ولكن أليس من الخطير، بل وحتى جنونيّ، أن نتكلم عن غاية اللغة؟ فمن يعرف إلى أين تسير اللغة أو أي غاية تخدم؟ فمنذ مدة طويلة تعرّضت الغايات المطلقة لنقد من قبل الفلاسفة من ديكارت وحتى سبينوزا، وكانط، وهيغل، ونيتشه. ورغم هذا فإن نقد النهايات المطلقة والموصوفة كحكم نهائي مفروض من الخارج على عملية ميكانيكية لا يستنفذ سؤال المعنى، لأن النهايات الحقيقة ليست النهاية المفروضة من الخارج: بل هي التمظهر الكلي لتحركات ديناميّة. وهذا التحقيق يجبرنا على العودة إلى وجهة نظر هومبولت حول أصل اللغة كتجلّ تام للعقل، فعلى الرغم من أنها ذات “تجلي-ذاتي”، إلا أن تكشفاتها وإنتاجاتها غزيرة. فمن دون هذه الخصيصة المميّزة للغة للتعبير بشكل تام عن الشيء موضع الفكر فلن يكون بالإمكان الدخول في جدل مثل هذا الذي يشغلنا اليوم.
ثانيا، عند حديثنا عن المعنى المنطقي فهذا لا يعني أننا نتكلم حصرا عن الحساب الرياضي أو العمليات الميكانيكية. بل على العكس، فأي اختزال للمنطق وتحويله إلى فهم فقط لا يؤدي إلا إلى الصب في مصلحة العنف. لأن في تلك الحالة يصبح الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون موضع التفكير هو الكفاح المنظّم ضد الطبيعة. وبهذا تصبح محاولة بناء تاريخ فردي أو جمعي شيئاً لا معنى له. فليس من المفاجئ في عصر التنظيم هذا أن الشيء الوحيد الذي يقف في تناقض تام مع العقل هو الجريمة الوجودية أو العبثية التي لا تحمل أي معنى أو هدف؛ لأنه فقط في عالم من النضال المنظم ضد الطبيعة في عالم اختزل مشروعه المنطقي لهذا الكفاح فقط، يمكن تصور مفهوم الجريمة المطلقة -القتل من أجل القتل ذاته-.
ثالثاً، عندما يستولي الفكر الرياضي على اللغة، فسينتج نتائج تافهة. فمعرفة بنيان اللغة لا يقدمنا خطوة في مسار المعنى المنطقي. فموضع التساؤل هو معنى الخطاب، وليس بنيان لوحة المفاتيح التي يستخدمها. إن مشكلة المواجهة ما بين العنف واللغة ليست مشكلة بنيان معيّن، ولكن مشكلة معنى، مشكلة معنى منطقي، ويمكن صياغتها بقول أنّها الفهم الكامل المصنوع نتيجة بذل جهود دمج وتوحيد توليفة من علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، والوجود والمعنى، وأخيراً، ذات هذه العلاقة ما بين اللغة والعنف. يتم تعزيز الوهم الذي بموجبه يقوم الذكاء البنيوي باستنفاذ وإضعاف فهم اللغة، عن طريق الاعتقاد بأن المعرفة البنيوية بوضعها للذات موضع التساؤل بين قوسين تحررنا من أوهام التمركز حول الذات والنرجسية. ولكن الفهم الذي لا يشمل استيعاب موضوعه -في المعنى المزدوج للمصطلح، أي لا يخترق الموضوع ولا يؤطره بالمعنى- هو ذكاء ميت، ذكاء معزول. وبغض النظر عن المظهر، فهو لا يوفّر أي مقاومة أمام التوكيد العنيف والفوضوي للموضوع، بالخصوص لأن الموضوع قد تم فصله عن ميدان بحثه. فليس من المفاجئ أن أغلب مذاهب عبادة الشخصيات التي تخدر معتنقيها وتميت إحساسهم تزدهر بالخصوص حيثما تترنم أكثر إنكارات (الذات/الموضوع) تعصباً. هكذا يصبح كل ذكاء أداتي***، ولأنّه لا يفهم ما المفاهيم التي يحملها وينقلها، مشاركاً في عملية العنف، في عملية غير واعية وبليدة الحس من توكيد جزئية معينة. الذكاء الأداتي، والوجود البليد هما التوأمان اللذان تيتما بعد موت المعنى. ولهذا السبب فإن الطريقة الوحيدة لاستيعاب كل من الخطاب ونقيضه، العنف، هي عن طريق عملية فكرية حيث يفهم فيها المفكر ذاته داخل تاريخ ذا معنى.
ولكن كيف نعيش هذه الحالة الوسطية ما بين المعنى والعنف؟ لإجابة هذا السؤال علينا أن نسأل نفسنا ما هي المضامين العملية للتعارض الأولي ما بين الخطاب والمعنى. سأجمع بعض الجذور البسيطة للاستخدام السليم للغة في مواجهتها مع العنف.
يجب علينا أن نعتبر مسألة التعارض ما بين الخطاب والعنف هو أكثر التعارضات جوهرية في الوجود البشري، مسألة حقيقة موضوعية ولا تحتاج إلى إعادة التفكير. لأن إشارتنا وبشكل مستمر وغير منقطع لهذا التعارض الجوهري هو الشرط الوحيد لتمييز العنف حيثما يقع ومن أجل الاستعانة به أذا قضت الضرورة. فالشخص الذي لا ينأى يشير إلى العنف كنقيض الخطاب لن يضطر أبدا لأن يكون في وضع دفاعي، أو للدخول في جدل حول الموضوع، ولن يضطر للإيمان بأن العنف كان هو الحل حينما لم يكن. يجب أن تكون الاستعانة بالعنف ذنباً مقيداً، خطأ محسوبا؛ فالشخص الذي يسمي الأشياء بمسمياتها ويدعو الجريمة جريمة هو بالفعل على الطريق الصحيح نحو المعنى والخلاص.
ليس من الضروري فقط أن نحافظ على حقيقة لاعنف الخطاب حقيقة صارمة، ولكن أن نحملها معنى كفعل إلزامي: فمقولة “لا تقتل!” هي صحيحة في جميع الحالات، حتى حينما يكون تطبيقها مستحيلاً. فمن يحمل هذه المقولة في فؤاده يستمر في الاعتراف بالآخر ككائن عاقل ويسعى لتشريفه. بالإضافة إلى ذلك، سيحتفظ لنفسه بإمكانية. . . الدخول من جديد في نقاش مع خصمه: ولن يقوم في حالات الحرب وتحت أي ظرف بأفعال تجعل عملية السلام والصلح مستحيلة. وبهذه الطريقة يمكن لضغط أخلاقيات الاعتقاد أن يفرض نفسه على أخلاقيات المسؤولية. تحتفظ شهادة الرجل غير العنيف بمكانها في التاريخ. فعن طريق إشاراته التي تقع خارج حدود الزمان والمكان يبين الرجل غير العنيف للجميع هدف التاريخ وهدف العنف ذاته.
لا تعارض المجموعة الثانية من الاستنتاجات الأولى: فالاعتراف بالعنف أينما نراه، وحتى اللجوء إليه عند الضرورة، لا يستبعد تقدير مكانة شهادة الرجل غير العنيف في التاريخ، فلو كان اللاعنف وحده من ينتمي لأخلاقيات الاعتقاد، فعندها لن يكون باستطاعة أخلاقيات الاعتقاد أخذ مكان أخلاقيات المسؤولية. إن الجدل ما بين أخلاقيات الاعتقاد وأخلاقيات المسؤولية يعبر عن موقفنا حتى بالفضاء الما بين العنف والخطاب.
القاعدة الثالثة للاستخدام السليم للغة يخص ما أسميه الاستعمال غير العنيف للخطاب ذاته. يوجد العنف في الخطاب على شكل الاعتقاد بأن شكلا أو نمطا معيّنا من أنماط الخطاب يهيمن على ميدان الكلام كله. لكي يكون اللاعنف في الخطاب علينا أن نحترم التعددية والتنوع في اللغة. هذا يعني أن نترك أنماط الخطاب في أماكنها المناسبة: ها هنا لغة الحساب الرياضي وجميع لغات الفهم، هناك المعنى المنطقي ومشروعه الشمولي، في مكان آخر التأويل الأسطوري واللغة النبوية، والتي تفتح أعين الإنسان لأصول المعنى الذي لا يحوطه الإنسان بعلمه ولكنه [المعنى]يحيط بالإنسان.
الطريقة الوحيدة للبشر للعمل معاً من أجل معنى منطقي هو أن يحترموا تنوع، وتعددية، وهرمية اللغة.
- الكوجيتو ويعني التفكير، وفي الفلسفة تستخدم هذه الكلمة للإشارة لمقولة ديكارت الشهيرة “أنا أفكر أذا أنا موجود” فديكارت يؤكد أن ذاته موجودة وهذا أول الأشياء التي يعرفها وأكثرها بساطة وسؤال الكوجيتو يمثل الحجر الأساس أو المبدأ الذي يجب أن نبدأ منه، فديكارت هنا من الواضح يستخدم ذاته كحجر أساس لكي يبني عليها فلسفتها بعض الفلاسفة يستخدمون الرب أو غيره كحجر أساس.
- الأحكام التأليفية القبلية. وهي الأحكام التي تجمع ما بين التجربة الحسية والتصورات القبلية الثابتة. تعد الأحكام القبلية المشروع الثوري الذي قدمه كانط للفلسفة.
- الذكاء الأداتي، وهو التوجه لإقصاء التوجهات التأملية والفلسفية من العقل، وتصوره كجهاز عملي وظيفته أن يخلق أفضل الطرق وأسرعها. فالذكاء الأداتي وضيفته فقط العمل على خلق أدوات أسرع وأكثر كفاءة وأطول عمراً. أنه ذكاء عملي صناعي من أجل خلق منتجات أفضل وليس ذكاء روحي من أجل تحقيق وعي ذاتي.