برز الراي من البداية في سماوات الموسيقى وأبهر الناس، جلب الإنتباه بآهات شيخاته، كسر الطابوهات، تبنى عذابات وشجون نسيها الرسمي من الفنون، فتصدى لها. أغنية كصرخة في وجه الجراح، فهل نستطيع أن ننكر أنه أضحى نموذجا للجرح المعلن والانسانية؟ من منا لم تزيّن ألحان الراي أعراسه وتواسيه في محنه؟
من أين انطلقت الأغنية الرايوية وكيف نالت هذه الشهرة؟ نستعرض في هذا المقال باقتضاب قصة نشأة الراي كفن موسيقي مستقل، ووصوله إلى العالمية، بغض النظر عن واقعه اليوم الذي يصفه البعض بالمبتذل والبعض الآخر بالعلامة البارزة للأغنية الجزائرية المعاصرة.
البداية والنشأة؟
كانت البداية مع الأغنية البدوية، التي عرفت انتشارا في مدينة وهران (غرب الجزائر)، وما جاورها من مدن وأرياف، كتعبير عن الذات وعن هواجس القبيلة في ثلاثينات القرن العشرين وكذلك كنوع من الرفض للاستعمار تختلجه مسحة صوفية. كان يطلق على رواد هذه الأغنية الشيوخ. لكن يؤكد الباحث في التراث والفن ميمون الراكب “أن الأغنية البدوية المتأثرة بنصوص الملحون ظلت حبيسة القبيلة، كتعبير عن الذات، وعما يخالجها في إطار النظام القبلي”.
بعد الاستقلال ومع اكتساح الأغاني الخارجيّة (من مصر، اسبانيا .. ) الساحة الفنية الجزائرية، أصبح هذا النوع من الموسيقى على وشك الاندثار لكنه استمّر في الأعراس والمناسبات كمثال الشيخ الصنهاجي (مغني)، لطفي العطار (عازف قيثار فرقة راينا راي الشهيرة) …
اختلفت الآراء والأقاويل في أصل التسمية “الراي” وتعددت التأويلات. يقول لطفي العطار، أن انطلاقة فرقة راينا راي في باريس في ثمانينات القرن العشرين اضطرّهم إلى تصنيف الموسيقى من أجل تسويق ألبومهم الأول “يا زينة ديري لاتاي” فاختاروا تسمية “الراي” لكي يعبر عن هذا النوع من الموسيقى.
كما يفنّد ياسين بوغازي حكاية تسمية الراي بإسم المغنية الوهرانية راينات داود كما يشاع وأن الخرافة قائمة فقط على تقارب التسمية، ويؤكد أن سبب التسمية يعود إلى تلك الذاتيات والفرديات في نقل ما تستشعره ذواتهم، وفي الدلالات والمعنى، يحمل الكثير من محفزات الحرية في التعبير والتناول الشعريّ والموسيقيّ.
يقول سعيد خطيبي في كتابه (أعراس النار.. قصة الراي) أن موسيقى الراي تستمد بعض جذورها من الأغنية الوهرانيّة نسبة إلى مدينة وهران في شمال غرب البلاد وكانت البداية على أيدي ”الشيخات“ أما الحصاد والشهرة العالمية فنالها نجوم الجيل الجديد الذين يطلقون على أنفسهم ”الشاب“ و”الشابة“ تمييزا عن الجيل المؤسس.
لماذا الأغنية الرايوية؟
الراي جاء ليحكي حال الناس وقتها ويكون اللسان الناطق عن آلامهم، معاناتهم وفرحهم، دليل ذلك المزيج الذي عرفته الأغنية من لغة عربية فصيحة إلى دارجة وفرنسية، إضافة أن أغلب الذين اتجهوا نحو “الراي” حبّا في الموسيقى وطلبا للمال محاولين الوصول إلى بيوت العائلات وقلوبهم.
و يؤكد ياسين بوغازي أن هذه الأغنية أصبحت تنتشر بين ريعان الأرياف وأخذت كل مرة تحمل أعباء من الانسانية الشعرية التي تلج إلى الأنفس بسهولة كمناجاة الأحلام الممنوعة وعذابات عاطفية واجتماعية وآراء أخرى كانت كثيرا ما تأخذ من جلد الذات بالشعر مساحات كبيرة، و بهذا حفر خط الراي منذ البداية منهجه الغنائي أول ما قام على روح شجن الهامش ذلك الزاخر بتركة تراث أشعار كان لا يأبه لها.
ويرصد سعيد خطيبي في كتابه جهود نساء أسهمن في تطوير الراي بكثير من ”الجرأة في طرح مواضيع غابت عن الفضاءات الرجالية خصوصا فيما يتعلق بمحاولات الكشف عن عمق الأحاسيس والبوح بحالة الكبت الجنسيّ“ ومن هؤلاء سعيدة بضياف الشهيرة بالشيخة الريميتي (1923-2006) التي يصفها بأنها ”امرأة صنعت تاريخ جيل كامل من النساء الجزائريات … حاكت تجربة موسيقية امتدت على طول أكثر من 50 سنة رسمت بطاقة هوية بلدها الجزائر“ وكانت تردد أن الشقاء علمها الاحترام والحشمة والغناء.
في تسعينيات القرن الماضي وفي خضم الحرب الأهلية كانت الأغنية الرايوية الملجأ السري لشباب ذلك الوقت وكذا العائلات، واختلفت مظاهر الحياة كثيرا خاصة في وهران، حتى عادات الفرح والغناء لم تعد بارزة.
وفي النهاية جاءت القشة التي قسمت ظهر البعير، إذ تم اغتيال مطرب الراي المعروف “الشاب حسني” لتعلن بذلك نهاية قصة نجوم الراي في وهران، والذي كان من نتائجه سفر فنانين آخرين أمثال خالد ومامي والزهوانية وكثير غيرهم إلى باريس هربًا من الإرهاب الذي بات يكسو الجزائر.
كيف استطاعت الأغنية الرايوية الوصول إلى العالمية؟
يقول خطيبي إن موسيقى الراي هي ”الطابع الموسيقي الجزائري والعربي الوحيد الذي استطاع في وقت قياسي بلوغ الذروة العالمية“ حتى إن القاموس اللغوي الفرنسي (لاروس) أدرج كلمة (الراي) بداية من عام 1998.
إدخال الموسيقى العصرية على الكلمات القديمة، وكذلك انتقال العديد من مغنّي الراي للعيش خارج الجزائر ومحاولتهم تلمّس الانتماء إلى الوطن عبر استحضار تلك الأغاني ساهم في انتقال الراي من الأغنية البدوية إلى العالمية، ويرى أيضا الباحث ميمون الراكب أن احتضان بعض الشركات لبعض الأسماء كخالد ومامي في الخارج كان له دور، خاصة بعد تنظيم أول مهرجان للراي في باريس سنة 1987.
أكد الرايويون أنهم صمدوا و أبقوا الراي أغنيتهم المعجزة تقول ما نستحي وما نخشى من أحزاننا وأفراحنا، ونقف الآن أمام منجز موسيقي عامر بالقصص والحكايات والمغامرات، استطاعت أن تكون رسالة لمن يتقاسمون معهم وقائعهم ضمن نطاقهم الجغرافي والانساني.
- المصادر:
- هنا
- سعيد خطيبي ( أعراس النار.. قصة الراي ) ، منشورات البيت 2010.
- يسين بوغازي (الراي الأغنية الجريحة.. شجن الهامش )
- هنا
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي
مراجعة: عمر دريوش