قصّة وعِبرة:
يحكي (ألفونس دوده) في قصّته الدرس الأخير حكاية الصبيّ (فرانز) الذي كان مهملًا في تعلّم دروس لغته الفرنسية، وغيرَ مبالٍ بها، وحين ذهب مرّةً إلى المدرسة، تفاجأ بعددٍ من الرجال يجلسون في الصفّ على المقاعد الخلفية يستمعون لدرس الفرنسية، وقبل أن يُفيق من دهشته، سمع أستاذه يقول إنّ هذا آخر درسٍ لهم بالفرنسية؛ لأنّ الألمان اِحتلّوا بلدهم. وحين يسأل الأستاذُ الصبيَّ (فرانز) ويجده جاهلًا بلغته ومشتقّاتها، يصيح به بغضبٍ ومرارة: “إنّه لمن سوء حظّنا نحن الألزاس أنّنا نُؤجِّل دروسنا إلى الغد. والآن يحقّ لهؤلاء الألمان أن يقولوا لنا: ماذا؟ تدّعون أنّكم فرنسيون، وأنتم عاجزون عن التحدّث والكتابة بِلُغتِكم؟! ثمّ يستطرد مخاطبًا الحضور:
إنّ الناس إذا اِستُعبدوا لمدّةٍ طويلة، يسرعون للتمسّك بِلُغتهم كما لو كانت بمثابة المفتاح الذي يُخلّصهم من السجن.
مفهوم الّلغة:
الّلغة هي الوسيلة التي يتبادل الأفراد من خلالها أفكارهم، ويُعبّرون عن آرائِهم ويتحاورون ويتفاهمون في شتّى أمور حياتهم، وبالتالي، كلّما كانت الّلغة مشتركة ومعروفة أو متشابهة -بين الأفراد والشعوب من جهة، وبين الشعوب وماضيها وتراثها من جهةٍ أخرى- كان التواصل والتفاهم بينهم أكثر سهولة، ويكون أصعب كلّما اختلفت الّلغة وتباعدت مفرداتها، واختلفت مشتقّاتها وألفاظها.
بعض صفات الّلغة التي عُرفت بها:
–الّلغة مرآة الشعوب؛ تنعكس فيها صورة ثقافتها وحضارتها، وعاداتها وتقاليدها، وتبرز فيها عقائد الأمّة وخصائصها العقلية، ومستوى تفكيرها ومنهجه، وتفسيرها لظواهر الكون وفهمها لما وراء الطبيعة.
– ّالّلغة كائنٌ حي، فهي تعيش وتنمو وتفنى أيضًا، فمن الطبيعيّ اِختلاف الّلغة من عصرٍ إلى عصرٍ يتبعه، وإدخال تطوّراتٍ عليها بما يُناسب متطلّبات العصر الجديد واِتساع حضارته وزيادة حاجاته، وكذلك اِندثار مصطلحاتٍ قديمة لم تعد متداولة.
ولهذا يتصارع أنصار الجديد والقديم في كلّ عصر، الأوّل يُطالب بالتجديد الكامل لّللغة ونبذ القديم منها، والثاني يدعو للتمسّك بالّلغة القديمة والحفاظ عليها، فتختفي لغة وتُمحى آثارها وتحلّ مكانها أخرى. وعلى ذكر التجديد والابتكار في الّلغة، يقول جبران خليل جبران:
إنما اللغة مظهرٌ من مظاهر الابتكار في مجموع الأمّة، أو ذاتها العامّة، فإذا هجعت قوّة الابتكار توقفت اللغة عن مسيرها، وفي الوقوف التقهقر، وفي التقهقر الموت والاندثار. (1)
لكنّ شأن اللغة العربية شأنٌ آخر، فهي تتّصل بكتابٍ مقدّس، تعهّد الله بحفظه على مدى الزمان قرنًا إثر قرن، ولولا ذلك لزالت كغيرها من اللغات.
ولذلك قالوا بأنّ فهم اللغة العربية الفصحى والإلمام بها هو واجبٌ دينيّ، فكلّما زادت معرفتك بها زاد فهمك لدينك وأحكامه ومقتضياته بالشّكل الصحيح الذي جاء به، وأنّ ضعف الاعتقاد من ضعفِ اللغة، ومن قرأ التاريخ في الإسلام وتدبر آثار القرآن، يجد أن شدّة الإيمان كانت عند شدّة الفصاحة، وأنّ خلوص الضمائر يتبع خلوص اللغة.
مثالٌ على لغاتٍ اِختفت ولم تعد متداولة:
-اللغة الجرمانية للقبائل الجرمانية (الغوط) التي أغارت على إيطاليا في القرن الخامس عشر، فتركت لغتها، وأنِست إلى الحضارة الرومانية، فاختاروا اللغة اللاتينيّة لوضع كتبهم وتأليفها، وذابوا فيها؛ حتى ذهبت جنسيتهم وذهبوا على أثرها!
واللاتينية، فقد استفاضت في أوروبا حتى خرجت منها الفرنسية والطليانية والإسبانية وغيرها، وكان منها علمي وعامي بلغة العلم ولغة اللسان، ثمّ أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلف منها في مناطق هذا الجيل، ما لا تعرف له شبيهًا في المتباعدات المعنوية، حتى كأن بين اللغة واللغة العدم والوجود! (2)
وما اللغة السنسكريتية عنهما ببعيد!
العوامل المؤثرة في اللغة وتطوّرها:
تتأثر اللغة بالعوامل البيئية والاجتماعية وكلّ ما يحيط بها، وخير شاهد على ذلك، اللغة العربية؛ فإنّ اِنتقال العرب من همجية الجاهلية إلى حضارة الإسلام، ومن حضارتهم المحدودة في عهد الأمويين إلى نهضتهم في عهد العباسيين، كلّ ذلك أثّر في نهضة لغتهم، ورقيّ أساليبها، وإليك مثال على تأثر اللغة بالانتقال من البداوة إلى الحضارة، وهو الشاعر عليّ بن الجهم الذي قدم من البادية، ووقف يمدح الخليفة العباسي قائلًا:
أنتَ كالكلبِ في حفاظك للودّ
وكالتّيسِ في قِراعِ الخُطوبِ
أنتَ كالدّلوِ لا عدمتُكَ دلوًا
مِن عَظيمِ العَطَا قليل الذنوب!ِ
ثمّ عاش لمدّة عامٍ في قصرٍ بالرصافة، فقال مادحًا الخليفة نفسه:
عيونُ المَها بين الرصافةِ والجسرِ
جلبنَ ليَ الهوى مِن حيثُ أَدري وَلا أدري!
لكن كيف تؤثّر اللغة في استقلال الشعوب؟ وكيف تعز الشعوب وتُذلّ بحفاظها على لغتها أو إهمالها؟
يصف الرافعي اللغة بأنّها صورة وجود الأمّة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسِها، ويقول إن:
الدقّة في تركيب اللغة دليل على دقة المَلَكات في أهلها، وعُمقها هو عمق الروح ودليل الحسن على ميل الأمة إلى التفكير، والبحث في الأسباب والعلل، وكثرة مشتقّاتها برهانٌ على نزعة الحرية وطماحها؛ فإنّ روح الاستعباد ضيق لا يتّسع، ودأبه لزوم الكلمة والكلمات القليلة. (3)
ولأن المستعمر يدرك أهمية اتصال الشّعب بلغته، فإنّ أوّل ما يحاول فرض لغته وجعلها اللغة الرسمية، مثلما فعلت إسبانيا في مستعمراتها في أمريكا اللاتينية، وبريطانيا التي فرضت لغتها الإنجليزية في مستعمراتها كالهند ونيجيريا وجنوب أفريقيا، أو يجعلها اللغة الثانية؛ كالإنجليزية في العراق ومصر والأردن وغيرها، والفرنسية في دول المغرب العربي.
ومن أكثر آثار الاستعمار ونتائجه وضوحًا، أنّ الكثير من كبار كتّاب المغرب العربي لا يكتبون بلغتهم العربية، رغم أنّها لغةٌ عالمية والمؤلّفات المكتوبة بها تثري المكتبات، بل يكتبون بالفرنسية ويشتهرون بها وتعجّ المكتبات الفرنسية بكتبهم ومؤلّفاتهم، كالكاتب المغربيّ الطاهر بن جلّون، وعبد الكبير الخطيبي، والكاتب الجزائريّ كاتب ياسين، ومحمد ديب، والكاتب التونسي عبد الوهاب المدبّ، وغيرهم.
وإنّ المشكلة الحقيقية ليست في تعلّم لغاتٍ جديدة، أو التعرّف على ثقافات عديدة، لكنّ الطّامَّة الكبرى أن نُهمل لغتنا ونمنح الاهتمام كلّه لغيرها في الحديث والكتابة والتعبير، حتى نذوب فيها، وننسى هويتنا وانتماءنا ونقطع الصلة بماضينا وتراثنا ونَسَبِ آبائنا.
ما الحلّ إذن؟! وكيف نحمي لغتنا ونحافظ عليها؟
-أوّلًا: أن نتبادل الحديث بها.
فالشرط الأساسي لحياة اللغة هو التكلّم بها لا رسميًا، فكثيرًا ما تعيش اللغة بدون أن يكون لها سندٌ تحريريّ، ولكن من المستحيل أن تنشأ لغة أو تبقى بدون أن يكون لها مظهرٌ صوتيّ. (4)
-والحلّ الآخر نستخلصه من اِقتباسٍ لجبران:
وحياة الإنسانِ موكبٌ هائل يسير دائمًا إلى الأمام، ومن ذلك الغبار الذهبيّ المتصاعد من جوانب طريقه تتكوّن اللغات والحكومات والمذاهب، فالأمم التي تسير في مقدّمة هذا الموكب هي المبتكِرة، والمبتكِر مؤثّر؛ والأمم التي تمشي في مؤخّرته هي المقلِّدة، والمقلِّد يتأثّر. فلمّا كان الشرقيّون سابقين والغربيّون لاحقين كان لمدنيّتنا التأثير العظيم في لغاتهم. وها قد أصبحوا هم السابقين وأمسينا نحن اللاحقين، فصارت مَدَنِيَّتُهم، بحكم الطبع، ذاتَ تأثيرٍ عظيم في لغتنا وأفكارنا وأخلاقنا. (5)
علينا إذن -نحن العرب- الإفادة من مدنية الغرب، وحضارته ولكن بحذرٍ، فنأخذ ما يناسبنا فقط، ويوافق مجتمعاتنا والصورة التي نحافظ بها على تراثنا وأصالتنا؛ كي لا تضيع هويتنا وننسى اِنتماءنا وأخلاقنا. ثم نُطوّر لغتنا؛ حتى لا نكون كالعجوز الذي فقد أضراسه، أو كالطفل بلا أضراس! كما وصف جبران حال الشرق.
المراجع:
- جبران خليل جبران: (البدائع والطرائف، ص55)
- مصطفى صادق الرافعي: (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ص91)
- مصطفى صادق الرافعي: (وحي القلم ج3، ص39)
- د.علي عبد الوافي: (علم اللغة، ص269)
- جبران خليل جبران: (البدائع والطرائف، ص56)
تدقيق لغوي: بن يمينة هاجر
رأي الكاتب لا يعبر بالضرورة عن سياسة النقطة الزرقاء