هل نحن بحاجة إلى عصر الأنوار؟

ساهم فكر الأنوار في استقلال الفرد ضد السلطة والدين، ودافع عن فكرة الصالح العام والكونية، والمبادئ أيضا، وقد دامت حركة الأنوار أكثر من قرن في الواقع، وتتطور في عدة دول، ودخلت حربا مع آراء متناقضة، قد يكون فكر الأنوارأكثر تعقيدا من أن يُعرَّف في بضع كلمات قليلة، وقد نهضم حقه إن اختزلناه في تيار فكري أحادي الجانب فقط، بل يحيلنا فكر الأنوار على عصر التأليف والتركيب، فهو فكرٌ كما قال فيه (تيزفيطان تودوروف):

” يتشرب فكر الأنوار الإرث الفكري الذي ظهر في أوروبا منذ نهاية العصر الوسيط حيث ترسخت مقوماته خلال عصر النهضة والقرن السابع عشر“

وقد استفاد أيضا فكر الأنوار من العقلانية والنزعة التجريبية وجعلهما ميزانا وفكرا منفصلا بدل الجمع بينهما، وهذا ما نراه لوهلة ويثبت أن فكر الأنوار في جوهره معقّد التركيب.

يدافع فكر الأنوار عن العقل والأهواء والروح والجسد، الفنون والعلوم، مرورا بالفلسفة والآداب والقانون والرسم، والسِّمَة المُميّزة في فكر الأنوار أنه خلق ديناميكية في الفكر إضافة إلى ذلك جعل الأفكار تهجر عالم الكتب ليتم تطبيقها عمليا في الحياة اليومية، ليجعلها في سبيل خدمة الفرد والمجتمع.

يرى الفرنسيون أن فكر الأنوار كان من صنيعتهم، ولكن العاقل (الباحث في النقد الحضاري خصوصا إدوارد سعيد) يرى بأنه بدأ بذوره الأولى في ما وراء بحر المانش أو في ايطاليا، ثم تعمقت ونضجت في وقت لاحق في ألمانيا، أما عنها في الشأن الفرنسي فساعدتها ظروفٌ تاريخية وسياسية، نفكان لفكر الأنوار أن وَلَج فرنسا بفضل عقول من الطراز الغالي كفولتير (وجماعة الموسوعيين التي كان لها فضل كبير في انتشار فكر الأنوار) وحتى كُتَّاب العقد الاجتماعي والنزعة الكانطية التي جعلته حركة نقدية أكثر منها فكرية.

وتعتمد فكرة الأنوار الثقافية (بالدرجة الأولى) على أنها فكرة استقلالية، وإمكانية التحرر من الوصاية التي تُفرضُ على كل فرد (أحادية التفكير وحتى الإحساس)، فالمسيحية كانت تفرض هذا التفكير الأحادي على المجتمع الأوروبي بأكمله، هذا الشيء الذي جعل فكر الأنوار يعيد نظرته إلى الدين وفي مكانته التي يحتلها داخل الوسط الاجتماعي، وحتى التحرر من المعرفة المُغَلَّفة فكان أُولى اهتمامات فلاسفة التنوير، فتحرُّرُ المعرفة من كل رقابة إيديولوجية، كان بمثابة نجاح مُدَوٍّ، ثم الانتقال بالتجربة في مجال السياسة والقانون والتربية والتعليم.

خصوصا القانون الذي كان أولى القرارات، لتحرير الفرد الأوروبي وإعادة صياغة القانون واسترجاع سيادة الشعب، بل وحتى تشريع قانون يضمن لكل فرد حرية حياتية وسياسية واجتماعية، واختيار الأشخاص الذين يقودونه، وهذه الاستقلالية لبناء الدولة الحديثة كانت فكرة متقدمة وطموحا كبيرا، وشغفا لدى فلاسفة فكر الأنوار (صياغة جديدة لمفهوم الدولة غير مفهوم الإمبراطوريه الرومانية) ومراقبة الفرد للسلطة لبناء الدولة كان أمرا ضروريا، فلا تكون سلطات مطلقة، وحرية فردية تخضع للصالح العام، ولم تكن الاستقلالية المُرادُ بها مطلقة ولا حتى مقيدة، بل هي نوع من كبح المصلحة الشخصية فقط، فرفاهية الشعب تُدْلي بظلالها الوافرة على الفرد باعتباره نواة للمنظومة الاجتماعية.

فكان العقل التنويري يرى بنظرة نسبية بعد قراءة فاحصة للتاريخ والحضارات، ولم يبدأ مشروع فكر الأنوار من واقع اجتماعي وحسب، بل كان تراكمات ثقافية وسياسية واجتماعية، والمعطى الراهن (في أوروبا آنذاك) كان الوقود الذي حرك عجلة فكر الأنوار، وسمح بإعادة رسكلة الأفكار من جديد ووضعها ضمن نسقها التاريخي (بعد التفكير فيها ونقدها).

هذه مجرد نظرة لإرهاصات فكر الأنوار في بداياته، وكيفية تَشَكُله والمبادئ التي صاغها لأجل دفع عجلة الفكر والفكر الجمعي خاصة. ما يهمنا هو هل نقتدي بفكر الأنوار ومبادئه التي حركت العقل الأوروبي بسرعة فائقة اختزلت زمنا كان يمكن أن يدوم فيه التعفن الفكري لعصور وحقبات متتالية، وعيش حالة ركود أخرى وهمجية.

يبقى السؤال مطروحا يبحث عن جواب، أمام واقعنا الذي يشهد ركودا فكريا رهيبا، ولا أقصد بالركود عدمَ وجود أفكار أو عقول مستنيرة، بل ركودا بالنسبة للإنتاجية، نحن شعوب مستهلكة فقط، وهذا راجع لعدة أسباب، أهمها الشرط والوضع التاريخي، الذي كان وباءً علينا، فكان الاستعمار قد حطم كل مقومات أي دولة كان يدخلها، باعتباره فردا أوروبيا راقيا، يعمل على تنوير أبصار المُسْتَعْمَرْ الذي يعيش التخلف في كل مناحي الحياة ( هذه الفكرة استعملها الاستعمار لتبرير احتلاله للدول).

وهذا ما كرس فيما بعد سيكولوجية بدأت تَدُبُّ في نفوس الأهالي (l’indigène) المُسْتَعْمَرة بما أسماه مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار، هذه السيكولوجية -القابلية للمستعمر- كانت تراكما تاريخيا بالدرجة الأولى، وهي عملية ممنهجة لقتل العقل العربي، وزرع ثقافة أخرى بدل ثقافته الأصيلة، وتحطيم كل الأواصر والروابط الثقافية للمُسْتَعْمَرْ مع ماضيه وتاريخه وثقافته التي عادة ما تكون روحه والمادة الدَّسِمة لإعادة إحياء كل حضارة، بالبناء الذي يعتمد على الإسمنت المتين ألا وهو تاريخه، لبناء مرحلة جديدة تاريخية بمعطيات الراهن والبعد الثقافي أيضاً.

كل هذه الأشياء ساهمت في تعطيل العقل المُسْتَعْمَرْ ونَفْيِهِ الى خانة المجهول واللاوعي التاريخي، بذلك كل أمة تصبح قابلة لتجديد نفسها ولكن تجد نفسها قد اصطدمت بثقافة واحدة أمامها وهي ثقافة الاستعمار.

ولبناء نظرة جديدة بالمعطيات الحاضرة يجب البحث عن المحرك الأساسي لكل أمة أو حضارة، وأرى أنه يجب وضع العقل المنطقي المحرِّكَ والقوة التي بها نستطيع البناء من جديد بعد الانهيار الدراماتيكي، ولذلك أريد وضع فكرتي حول عصر الأنوار وماذا يمكن أن نستفيد منه.

بشرط وضع الرهان الثقافي والاجتماعي في صورة استثنائية، فالحياة الأوروبية وتاريخ أوروبا ليس تاريخ وثقافة البلدان العربية هناك اختلافٌ كبير وجوهري، لكن هناك أسسًا، يمكن وضع خطوط حمراء تحتها، منها الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، فبدل إعادة النظر فيها والوقوف على ظروفها الخاصة، رحنا نتبع من ثقافتنا بدون إعادتها ضمن قوالب جديدة بمعطيات الراهن والبعد الحضاري.

فعصر ما بعد الاستعمار وعصر الاستعمار، ليس حاضرنا اليوم، فاليوم هو عالم العولمة والتكنولوجيا، فيجب البحث عن صياغات جديدة تخدم الراهن ليس هضم للثقافة وحسب، كذلك في الشق الاجتماعي، وهو الأهم في بناء الدولة الحديثة والحضارة، فالمجتمع يعتمد على الديالكتيك الهيجلي ( قصدت هنا بأن كل مجتمع راقٍ هو مجتمع استطاع التعايش مع مختلف الأيديولوجيات وبناء نسق واحد مُجْتَمَعِي).

فالعصبية القبلية كان لها نصيب كبير في ثورات الشعوب ضد بعضها، وحتى انهيار مجتمعات في مستنقع الحرب الأهلية، وهذا يعود في الأساس حسب علماء الاجتماع إلى الظلم الاجتماعي الذي تمارسه سلطة ما على فئة ما من المجتمع، وهذا الظلم واللاعدل يتجسد في ضغينة قد يتوارثها جيل بعد جيل، سواء شعوريا أو لاشعوريا.

إذن السلطة قد تكون المحور في الاضطرابات الاجتماعية والسياسة بالدرجة الأولى، فهي تحمي الرقعة الجغرافية من الاستعمار، والأهم هي ميزان العدل والمساواة في المجتمع، فإقصاء فرد أو مجموعة كان هو المحرك الأساسي لفتيل حرب طائفية تتناحر فيما بينها (تحت غطاء الهوية) فيما كان الأفضل لها أن تتعايش كل أطياف المجتمع تحت سقف القانون والعدالة، فلا فرد تظلمه الجماعة، ولا الجماعة تخضع لطمع وشجع الفردانية.

أما من جانب الحرية والديمقراطية، فالفرد له الحق المطلق في اختيار من يراه قادرا بكفاءة لقيادته، وليس عليه الخضوع لمنطق القبيلة، والانتخابات النزيهة والديمقراطية كفيلة بذلك على أن تضع الرجل المناسب في المكان والزمان المناسبين، فقد يتطلب لدولة ما رجل سياسي اقتصادي بدل أن يكون سياسيا فقط، نظرا لعدة أسباب وظروف قد تكون طارئة، وقد تكون حالة شاذة في بعض البلدان، لكنها يمكن أن تكون في بلداننا العربية.

والأهم أيضا من كل هذا لبناء عقد اجتماعي متين، لا يكون إلا بتوفر قيمة مهمة وهي احترام تعدد الثقافات وضمِّها إلى القيمة الكونية (على رأي فلاسفة التنوير) والعمل على اعتبار النجاح الاقتصادي وسيلة وغاية (ولا أوافق بعض فلاسفة التنوير الذي يقولون بأنه يجب أن يكون النجاح الاقتصادي وسيلة فقط لا غاية لأنها ستكون بإفرازات دكتاتورية جديدة اقتصادية، وتعزل بل وتكبح طموح الفرد في التطلع إلى الثراء، فهذا حافز له ودعم إضافي يعود عليه بالربح وعلى المجتمع أيضا مادام تُقَيّده قوانين، وقد خالفتهم المقولة الرأسمالية “اتركه يعمل اتركه يمر” لأنه تم عزل الفرد عن نفسه وسيطر عليه المجمتع سيطرة جعلته تابعا له فقط).

المصادر:

– تزيفيطان تودوروف “تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية”.
-مالك بن نبي “مشكلات الحضارة”.

تدقيق لغوي: منال بوخزنة.

كاتب

الصورة الافتراضية
Saadna Wail
المقالات: 0