عن المؤلف:
غسان كنفاني (1936-1972). أحد أشهر الكتّاب والصحافيين العرب في القرن العشرين، حيث يمثل نموذجًا خاصًّا للكاتب السياسي والروائي والناقد والقاصّ. يقول عنه الناقد الإنجليزي روجر ألن: “لم يستطع روائي تسليط الضوء على مأساة الشعب الفلسطيني في ميدان القصة بتأثير قوي كما فعل غسان كنفاني، فقد كرّس حياته في الواقع وفي الأدب القصصي لتصوير ظروف الفلسطينيين وتقصي المواقف العربية المتشابكة إزاءهم” (1)
ولد في عكا، شمال فلسطين، وعاش في يافا ثم نزح مع عائلته إلى لبنان بعد نكبة 1948م، ثم إلى سوريا. عمل معلّمًا في دمشق ثم في الكويت وبعد ذلك محرّرًا أدبيًّا في بيروت حتى استشهد سنة 1972، في انفجار سيارة مفخخة على أيدي عملاء إسرائيليين. أصدر غسان كنفاني حتى تاريخ وفاته المبكّر ثمانية عشر كتابًا، وكتب مئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني. ونال جوائز عالمية وعربية عديدة على كتاباته.
عن الرواية:
تعتبر رواية “رجال في الشمس” أول عمل فلسطيني يكتب التشرد والموت والحيرة ويطرحها كسؤال تاريخي، وهي أول عمل روائي منشور للكاتب. نُشرت أول مرّة في بيروت سنة 1963، عالجت بشكل أساسي أثر نكبة 1948 على الفلسطيني الذي فقد بيته ووطنه بين ليلة وضحاها وتحوّل إلى لاجئٍ لا يملك قوت يومه.
وفيها “يعطي غسان صورة للمنفى عارضًا في آن واحد كل بؤس الإنسان المنفيّ ومحاولاته الواهمة للهرب منه.” (2)
كما يصفها إحسان عبّاس بأنها: تشدنا إلى واقعيتها الدقيقة شدًّا مأساويًا متوتّرًا، بحيث ننسى أن نتساءل عن أي مدلول أو عمق رمزي وراء ذلك. (3)
تم تقديمها كفيلم سينمائيٍّ في دمشق عام 1972م تحت عنوان (المخدوعون).
كانت السيارة الضخمة تشقّ الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوّتهم وضعفهم وماضيهم ومستقبلهم.. كما لو أنها آخذة في نطح بابٍ جبّار لقدرٍ جديد مجهول.. وكانت العيون كلُّها معلّقةً فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية.
ص76
هم ثلاثة رجال، فرّقتهم الأعمار وجمعتهم المأساة، يوحدهم هدف “الوصول إلى الكويت”(4)؛ للعمل هناك، مع اختلاف دوافعهم وأحلامهم التي تنوعت بين مطامح نبيلة وتضحيات لأجل الأهل والأبناء، ومطامح أنانية لإرضاء الذات.
فصول الرواية:
تتوزع الرواية في سبعة فصول، الثلاثة الأولى تعرض حياة الأبطال الثلاثة كل على حِدة: أبو قيس، أسعد ومروان. والفصول الثلاثة الأخيرة تصف مراحل رحلتهم التي خاضوها: الطريق، الشمس والظل، القبر. بينما يشكل الفصل الرابع “الصفقة” جسرًا يصل أولها بآخرها، وهو يجمع الأبطال الثلاثة معًا، في نفس الرحلة ونفس الطريق. ويعرض صفقتهم مع المهرب الذي سيقودهم في رحلتهم.
بلغة سردية جميلة، وحبكة متماسكة، وطابع رمزي وكلمات إيحائية، ينظم الكاتب روايته القصيرة، معتمدًا على الاسترجاع الزمني أكثر من مرة. ويتنقل في وصف الأحداث بين الماضي والحاضر، مستخدِمًا الراوي العليم مما يبين للقارئ ظواهر الشخصيات وباطنها.
شخصيات الرواية:
-أبو قيس: كهلٌ فقد بيته وشبابه وشجرات زيتونه وأرضه التي ما زال قلبُه معلّقاً بها. جعله الكاتب رمزًا للفئة الفلسطينية البسيطة الساذجة، ومن خلال قصته يعرض الكاتب المراحل الهامة للطريق الذي شقّه أبو قيس والشعب الفلسطيني، بدءًا بالدفاع المستميت عن الوطن ثم التشريد والمعاناة، وتفكيره وبحثه عن حلول لأزمته، ويعرض نتائج تلك الحلول. فيوضح مدى الذلّ الذي عاناه اللاجئ المنفيّ من وطنه وأرضه في مخيمات اللجوء، من الفقر وفقد ماء الوجه، لكنه وبسبب كِبَر سنّه لا يجرؤ على السفر إلى الكويت -كما فعل الآخرون الذين عادوا منها أثرياء- في رحلة قد تكلفه حياته.
في السنوات العشر الماضية لم تفعل شيئًا سوى أن تنتظر.. لقد احتجت إلى عشر سنوات كبيرة جائعة كي تصدق أنكَ فقدت شجراتك وبيتك وشبابك وقريتك كلها. في هذه السنوات الطويلة شق الناس طرقهم وأنت مُقعٍ ككلب عجوز في بيت حقير.
لكن في النهاية، يعزّ عليه أن يمضي بقية عمره معتمدًا على المساعدات وطحين الإعاشة الذي يُهْرِق كرامته كلها لأجل الحصول على كيلو واحد منه؛ فيقرر أن يشقّ طريق الموت للخلاص من الموت! ويحمل سنيه على كتفيه، ويمضي عبر الصحراء للحصول على لقمة الخبز وإعانة أسرته.
–أسعد: رمز لفئة الشباب، لجأ إلى الأردن بعد الحرب، وكان ثائرًا يشارك في المظاهرات؛ فاعتقلته السلطات الأردنية، ثم صار مطاردًا فتهرّب إلى العراق وعانى من خداع المهربين أكثر من مرة، حتى أنه كان على شفا الهلاك لولا أنّ سائحًا أجنبيًّا مرّ به وأوصله بسيارته إلى العراق، وفي حوار السائح وزوجته أطلق الكاتب حوارًا إيحائيًّا، في ظاهره جرذانُ الصحراء، وفي باطنه بنُو الإنسان!
– إن هذه الصحراء مليئة بالجرذان، تراها ماذا تقتات؟!
أجاب بهدوء: جرذانًا أصغر منها.
مروان: فتى متهور لم يتم السادسة عشرة، كان يحلم بإكمال تعليمه المدرسي ليصبح طبيبًا، لولا الظروف التي جعلت والده وأخاه يتخلون عن الإنفاق على الأسرة؛ إيثارًا لمصالحهم، وتنصّلهم من مسؤولياتهم الثقيلة؛ فصار لزامًا عليه أن يغوص في المِقلاة كما غاص غيره! وكان يأمل الحصول على ثروة تعيل أمه وإخوته الصغار.
-أبو الخيزران: رجلٌ فلسطيني من بني جلدتهم يعمل سائقاً لشاحنة ماء، يملكها ثريّ كويتي معروف مما يجعل مرورها سهلًا عبر الحدود. يقوم أبو الخيزران بنقل الماء في خزانها الحديديّ في الظاهر، وفي الخفاء يعمل على تهريب البائسين إلى الكويت في هذا الخزّان.
أبو خيزران وإن اتخذه الكاتب رمزًا للقيادة التي غررت بالشعب، وقادته إلى طريق الهلاك تحقيقًا لمطامعها، إلا أنّه يكشف لنا عن ماضيه البائس، وكيف فقد رجولته حين كان يقاتل في الحرب، وانفجرت قنبلة من تحته..
عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيّع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتبا لكل شيء في هذا الكون الملعون.
وتتبدّى لنا حقيقة أبي الخيزران شيئًا فشيئًا، ليبين الكاتب لنا أنه لا يختلف عن غيره من المهرّبين، فهو شخص انتهازيّ جشع، فيقول على لسانه تصريحًا:
أنا لست أريد الآن إلا مزيدًا من النقود.. مزيدًا من النقود!
ص65
ويقول لمروان تلميحًا: أنا مبسوط لأنك ستذهب إلى الكويت؛ لأنك ستتعلم هناك أشياء عديدة. أول شيء ستتعلمه أن القرش يأتي أوّلًا ثم الأخلاق!
الرحلة:
يخوض الأبطال رحلتهم في حرّ آب وقيظه، متنقّلين من بؤس المخيمات وذلّها إلى بؤس الطبيعة وقسوتها، ومتجهين من البصرة إلى الكويت عبر الصحراء، التي أمعن الكاتب في وصف حرّها اللاذع وشمسها الحارقة، وهذه بعض الصور:
شقّ العالَم الصغير الموهن طريقه في الصحراء مثل قطرة زيت ثقيلة فوق صفيحة قصدير متوهجة.
ص76
حدّق إلى الخزان لحظة، وخيّل إليه أنّ حديده على وشك أن ينصهر تحت الشمس الرهيبة.
ص86
كانت خطة الهروب تقتضي اختباء الثلاثة في خزان الشاحنة قبل الوصول لنقطة الحدود بخمسين مترًا، ليخرجوا إلى سطحها بعد خمسين مترًا أخرى، وكان في الطريق نقطتا حدود.
رغم شعورهم بالعواقب غير المأمونة لرحلتهم، وقد صدمتهم شدة الحرارة داخل الخزان، فوصفها مروان بجهنم، وقال أسعد أنها فرن، إلّا أنّهم قبلوا بالأمر الواقع، ممنين أنفسهم بمستقبلٍ أفضل!
بعد عبورهم لنقطة الحدود الأولى، ورغم أن اختباءهم كان لدقائق معدودات، بدا أنهم مرّوا بموت حقيقي:
ولولا أنّ صدر مروان كان يرتفع ويهبط، ولولا أنّ أبا قيس كان يتنفس بصفير مسموع، لخُيّل إليه إذن أنهما ميّتان.
ص73
لمّا بقيت نقطة عبور واحدة تفصلهم عن الحلم، ولما رأوا أن القادم بالتأكيد لن يكون أسوأ مما مضى، فقد دخلوا الخزان رغم اشتداد لهيبه في قيظ الظهيرة.
وهنا يأتي دور رجال الحدود في النقطة الثانية، والذين وجدوا الوقت مناسبًا لممازحة أبي الخيزران والسخرية منه، وإلقاء النكات التافهة فيمر الوقت والدقائق حتى يخرج ويجد الرجال الثلاثة قد ماتوا اختناقاً من الحر. فتأمل كيف تتسبب نكتة سمجة في قتلهم.
-“لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟ لماذا لم تقولوا؟!”
صرخة أطلقها أبو الخيزران بعد أن سرق نقودهم، وألقى بجثثهم في مكبّ النفايات!
أهو سؤالٌ للاستنكارِ أم لإسكاتِ بقية صوت الضمير في داخله، وتبريرِ استهانته بأرواحهم ونفوسهم؟!
“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟” سؤال فلسفيّ، أطلقه الكاتب ليلقي اللوم أيضاً على الضحايا الذين اختاروا حلولًا فردية زائفة للهرب من بؤس المنفى، وليدعوَ أبناء شعبه للعمل الثوري، والذي تكامل في إطار سياسي قبل حرب 1967.
“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟” ربما لأن قدر العربيِّ دائمًا، أن يكون الموتُ عنده أهون من التخلي عن حلمه، ربما لأنهم حتى آخر نفس كانوا يتوقعون أن تنفرج فتحة الخزان.
ختامًا، هذه القصة وإن كانت تروي أحداثَ وظروفَ فئةٍ معينةٍ ومجتمعٍ بعينه، إلا أنها أضحت تمثل صورة للواقع الحاليّ الذي لا يختلف عنها كثيرًا -اللهم إلا وجهة السفر والطريق، فصار ركوب البحر بزوارق الموت وغرق مئات اللاجئين، بديلًا عن صحراء المهالك.. فهل سنبقى نقول كما قال أبو الخيزران: لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟!
الهوامش:
(1) روجر ألن: الرواية العربية، ص 112.
(2) حيدر بيضون: غسان كنفاني- الكلمة والجرح، جزء 77، سلسلة أعلام الأدباء والشعراء، ص58.
(3) إحسان عباس: الآثار الكاملة لغسان كنفاني، المجلد الأول، ص16.
(4) توجه الفلسطينيون للكويت؛ نظرًا لثروتها النفطية حيث كانت في بداية نهضتها، لكن الكويت حدّت من الهجرة حين ربطت ذلك بفيزا؛ مما جعلهم يتهربون إليها سرًا عبر الحدود.
إعداد: آية الشاعر & زين العابدين لطرش
تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.