دعني أقول أنها بمثابة رحلة انطلقت من القارة السوداء مروراً بفرنسا وأمريكا ورجوعًا إلى إفريقيا، لكنها ليست رحلة سياحية، هي رحلة معاناة، رحلة لاكتشاف الذات والبحث عن الوطن المجهول، رحلةٌ تتعرف فيها على الكثير من الشخصيات والكثير من المعاناة والألم والفقر، رحلةٌ تختصر وحشية البشرية لكنها تُظهر جانبًا من لطفهم أيضا.
تبدأ أحداث الرواية في المغرب، وتروي قصة “ليلى” هكذا أسمتها السيدة “لالا أسما” التي اشترتها من مجهولين اختطفوها في كيس أسود من أمام بيتها في الجنوب. كانت هذه السيدة تمثّل العالمَ بالنسبة لليلى فلم تعرف غيرها، إضافة إلى كنّتها وابنها اللذين كانا يجسدان معاني القسوة.
بعد وفاة السيدة تنطلق ليلى في رحلتها الطويلة في هذا الفضاء الواسع، إذ تغادر “بيت الملاح” حيث كانت تسكن. تلتقي الفتاةُ في فندقٍ بائسٍ في الناحية الأُخرى من المدينة “بالأميرات” هكذا كانت تسميهن، إذ كانت مداركها عن الناس محدودة جدا، بينما كنّ مجموعة فتيات بائسات يسكن في أحد طوابق الفندق، أحببن ليلى كثيرا وأحبتهن هي أيضا. لكنهن جلبن الكثير من المتاعب وحملن بها إلى طريق منحرف. بعد مرور زمن، تعيدها “زُهرة” -كنة السيدة لالا أسما- إلى بيتها فتعاملها كخادمة وتنهال عليها بالضرب والشتائم فضلا عن تصرفات زوجها “عبل” القذرة.
تُقرّر الهرب، تصل إلى “دوار تبريكة” حيث بيت “تغريدة وحورية” وهما من “الأميرات” اللاتي كنّ معها في الفندق وتقيم معهن. كان الحي فقيرا جدا، وساكنوه أنهكهم العوز، لكنّها كانت راضية.
بتشجيع من حورية بدأت ليلى بالدراسة فصارت تذهب كل يوم إلى المكتبة أين تعرّفت على الأستاذ “رشدي” الذي كان يتناقش معها حول الكتب والعديد من المواضيع الأُخرى. كما حضرت دروسًا في الفرنسية والألمانية، لكنها قررت التوقف بعد مدة بعد أن حاول أستاذ الألمانية “جورج شون” التحرش بها.
قررت حورية -الحامل- السفر نحو فرنسا بالتهريب وكانت تجمع المال لذلك وأخذت ليلى معها. هنالك في فرنسا تبدأ رحلة بؤس أُخرى؛ فبعد أن نجحتا في الوصول إلى باريس أقامتا في فندق تؤجره الآنسة “ماير” للسود ، تعرفت ليلى على “ماري إيلين” التي ساعدتها في الحصول على عمل في التنظيف في المستشفى فيما بعد، كما تعرفت على “نونو” الذي أصبح صديقها الحميم. بعد مدة طلبت منها الدكتورة “فروميجا” مديرة قسم العصبية أن تعمل لديها في المنزل. كانت السيدة وديعة وطيبة في بادئ الأمر وأحبتها ليلى كثيرا لكن الأمر تغير بعد أن اعتدت عليها في إحدى المرات.
تقرر الرحيل من المنزل، فتقيم رفقة نونو في شقة صديق له، كانت عبارة عن غرفة في مرآب تحت الأرض لا يرى النور أبدا. ظلت هنالك فترة طويلة حتى ولدت حورية وجلبتها وطفلتها إلى هناك.
خلال تلك الفترة تتعرف على الكثير من الأشخاص، “سيمون” وهي إحدى العازفات في المحطات والتي أحبتها وعلمتها العزف والغناء، “حكيم” صديق نونو الذي كان مخلصا لجذوره الإفريقية وكان يساعدها في الدراسة ويشجعها على التقديم للبكالوريا كطالبة حرة، الحاج “مافوبا” جد حكيم الأعمى والذي كان قناصا في الجيش الفرنسي تتعلق به وتداوم على زيارته حتى وفاته، “سارة” وهي مغنية في إحدى البارات كانت ليلى تذهب للاستماع إليها دائما و”خوانيكو” الصبي الغجري الذي تعرفت عليه مصادفة وكانت قد سافرت معه إلى نيس حيث يقيم خاله في مخيم، لكن حدثت معها الكثير من المشكلات والمصائب هناك فقررت العودة. ثم شدّت رحالها نحو بوسطن إذ كان جد حكيم قد ترك لها جواز سفر حفيدته مريم كي تستعمله كما حصلت على تأشيرة الاستبدال والإقامة عند سارة في بوسطن.
كان الوضع هادئا في بادئ الأمر عند سارة وصديقها “جوب“، حيث كانا يصطحبانها إلى النوادي وإلى الحفلات ويعرفانها على أصدقائهم. لكن الأمر تغيّر بعد أن حاول جوب الاعتداء عليها أثناء غياب سارة، فتخرج من المنزل. في تلك الأثناء تتعرف على “جان فيلان” في مقهى ثم تمضي اليوم معه. تقرر الرحيل إلى شيكاغو ثم تبدأ العمل في بار أحد الفنادق وتستأجر غرفة في روبسون.
تتعرف في تلك الفترة على “بيلا” الذي قادها للانحراف، فقد كان يهرب المخدرات والأمفاتين والبودرة ويتعاطى الإبر، يذهبان معا إلى البارات وتبقى في الخارج طوال الليل.
كما تتعرف على السيد “ليروي” الذي يعطيها الفرصة لتسجيل أسطوانة والتعاقد معه بعد أن أعجبته موهبتها وهي تغني وتعزف في البار الذي كانت تعمل فيه. ثم تكتشف أنها حامل من جان.
كانت قد صادفت بيلا متاعبُ مالية فقررا السفر إلى كاليفورنيا بسيارته لكنه تركها في المستشفى ورحل بعد أن أصابتها حمّى شديدة وفقدت جنينها.
هنالك تتعرف على الممرضة “ندى” هكذا أسمتها ، كانت تأتي لزيارتها قبل الليل وتجلس إلى جانبها على كرسي وتتبادلان الضحكات والكلام.
تخرج من المستشفى وتهيم في الشوارع بلا قرار حتى يمسك بها شخصان ويضعانها في شاحنة ثم تجد نفسها في غرفة صغيرة، أين كان البروفيسور “إدوارد كلين” يزورها كل صباح ويطرح عليها الاسئلة مثل: من أين أنت؟ وماذا حصل لك؟ واسم عائلتك؟ وعن الرجل الذي جعلها حبلى؟ كما كانت ندى تأتي لزيارتها هناك.
بعد ذلك عادت إلى نيس بعد أن أتى لها السيد ليروي بدعوة إلى مهرجان الجاز في نيس. لكنها غادرت قبل المهرجان.
رحلت أخيرا إلى المغرب نحو الجنوب، إلى الصحراء موطنها الأصلي، حيث قبيلتها قبيلة بني هلال التي اختُطفت منها قبل خمسة عشر عاما.
أنا الآن حرة، كل شيء يمكن أن يبدأ. مثل جدي الشهير بلال، العبد الذي حرره النبي وأطلقه في العالم، خرجت أخيرا من زمن العائلة ودخلت زمن الحب.
أبدع الكاتب “جان ماري غوستاف لوكليزو” وهو الكاتب الذي يحمل الجنسيتين الفرنسية والموريشيوية، بتجسيد المعنى الحقيقي للمعاناة والصراع من أجل البقاء في شخصيات عديدة بأسلوب لم يخلُ من العذوبة والسلاسة ناقلا أعينَ القارئ بين كلمات الرواية بتشويق وإثارة حقيقيّين.
تاركاً إيّانا متسائلين: ما ذنب أولئك المعذٌَبين في جحيم الأرض؟
تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.