تُعرف أيضاً باسم “أناركية” (وأحياناً تترجم خَطَأً فوضوية)، تم تعريف اللاسلطوية “Anarchism” بطرق كثيرة من قبل مصادر مختلفة كلياً، فالكلمة “Anarchism” مشتقة من الكلمة “Anarchy” والتي بدورها مشتقة من مصدرين اثنين في اللغة الإغريقية، فهي مكونة من الكلمتين الإغريقيتين ” αν” (وتعني : غياب “وتلفظ آن”) و” αρχη” (وتعني السلطة أو الحكومة “وتلفظ آركي”).
وما يزال التعريف القاموسي إلى اليوم يعرف اللاسلطوية “Anarchism” على أنها غياب الحكومة. هذه التعاريف القاموسية لللاسلطوية المعاصرة مبنية على كتابات وأفعال اللاسلطويين في الماضي والحاضر، إذ يفهم كل من اللاسلطويين ومؤرخي اللاسلطوية، والموسوعات والقواميس الدقيقة، أن كلمة اللاسلطوية تمثل نظرية واقعية. أما الوسائط السطحية، مثل الإعلام، تقوم بإساءة استعمال مصطلح اللاسلطوية وبالتالي، تولد سوء الفهم.
أحد أهم القواميس المعاصرة، قاموس ويبستر الدولي الثالث” Webster’s Third International Dictionary”، يعرف اللاسلطوية بدقة واختصار كـ ” نظرية سياسية تعارض كل صور الحكومة والقيود الحكومية وتروج للعمل التطوعي والتعاون بين الأفراد والجماعات في سبيل تلبية احتياجاتهم.” تعرف القواميس الأخرى اللاسلطوية بتعاريف مشابهة. يعرف قاموس بريتانيكا- ويبستر” Britannica-Webster dictionary” اللاسلطوية كـ “نظرية سياسية تدّعي أن كل السلطات الحكومية غير ضرورية وغير مرغوب بها وتدعو لمجتمع مبني على التعاون الحر للأفراد والجماعات.” تعرف القواميس الصغيرة مثل قاموس ويبستر الجامعي المساعد” New Webster Handy College Dictionary” اللاسلطوية ك “مذهب سياسي مبنيّ على إلغاء كل الحكومات.”
هذه التعاريف القاموسية المتشابهة تعكس أن تطور نظرية اللاسلطوية قد أصبح ممكنا نتيجة جهد المثقفين والحركات اللاسلطوية. ونتيجة لذلك فإن التعاريف القاموسية، على الرغم من أنها أمينة، إلا أنها لم تمس إلا القشرة الخارجية لللاسلطوية. في الواقع، قام البروفسور نعوم تشومسكي برفض قيام قاموس ويبستر الجامعي المساعد بوصف اللاسلطوية بـ “مذهب سياسي” فوفقا لتشومسكي “.. اللاسلطوية ليست مذهباً. إنها بالغالب نزعة تاريخية، نزعة أفكار وأفعال، والتي بدورها تملك طرقا عديدة للتطور والتقدم والتي أظن أنها ستستمر كحلقة وصل أبدية للتاريخ البشري”.
تعاريف أخرى معاصرة لللاسلطوية تم شرحها بدقة، ليس ككلمة، بل كتاريخ وأشخاص وأفكار لهذه الحركة. في الواقع تقدم موسوعة اليسار الأمريكي ” The Encyclopedia of the American Left” ثلاث صفحات عن تاريخ اللاسلطوية، ولكنها لا تعرفها ولو لمرة واحدة.
استخدم الناس لفظة “الاشتراكية التحررية” ” Libertarian Socialism ” قبل ظهور كلمة “اللاسلطوية” “Anarchism” وهي تعني نفس الشيء. تم استعمال لفظة” الاشتراكية التحررية ” بشكل واسع من قبل الراديكاليين المكسيكيين في بداية القرن الثامن عشر. يعتبر وليام غودوين أول لاسلطوي في التاريخ وأول من كتب عنها. ولد غودوين سنة 1756 في وأيسبيش، عاصمة شمال كامبريدج شير. تزوج غودوين بالنسوية ماري ولستون كرافت ورزق بابنة، ماري شيللي-مؤلفة رواية فرانكشتاين-. قدم غودوين فكرته عن اللاسلطوية لأول مرة في كتابه العدالة الاجتماعية “Political Justice” المنشور سنة 1793. على كل حال، تم نسيان غودوين، وبعد موته أصبح جوزيف برودون شخصية لاسلطوية بارزة. قام كتابه “ما هي الملكية؟”?What is Property” بتشكيل معنى أعظم لكلمة اللاسلطوية، فاللاسلطوية ليست رفضا للسلطة المؤسساتية ولكن نظرية تعارض ملكية الأرض والممتلكات كذلك.
أزهرت اللاسلطوية كنظرية محكمة عندما بدأ اللاسلطويان الروس ميخائيل باكونين (1814-1876) وبيتر كروبوتكين (1842-1921) بالكتابة وإلقاء الخطب والمحاضرات. كان لباكونين تأثير كبير على العالم كما قام بتقديم اللاسلطوية للكثير من الأشخاص، حيث كان كروبوتكين أحد الأشخاص المتأثرين به. وهو الذي ساهم بدوره بتطوير النظرية اللاسلطوية بشكل كبير، كما قام بكتابة العديد من الكتب عن اللاسلطوية مثل المساعدة المتبادلة “Mutual Aid”، وحقول ومصانع ووُرَش العمل “Fields, Factories and Workshops”والاستيلاء على الخبز ” The Conquest of Bread “.قام كروبوتكين بكتابة أول تعريف قاموسي موضوعي لللاسلطوية في النسخة الحادية عشر للموسوعة البريطانية-موسوعة بريتانيكا- في 1910. شغل تعريفه خمسة عشر صفحة. وقد بدأ تعريفه بتقديمه كلمة اللاسلطوية كالآتي:
هذا الإسم المطلق على مبدأ نظرية حياتية وسلوكية، وبموجبه يصور المجتمع في ظلها من دون وجود حكومة -ويتم الوصول إلى التآلف في مثل هذه المجتمعات، لا عن طريق الخضوع للقانون، ولا عن طريق الطاعة لأي سلطة، بل عن طريق التفاهم الحر الذي يتم بين الجماعات المختلفة، الإقليمية والمهنية، وتنشأ هذه العلاقات بشكل حر لغرض الإنتاج والاستهلاك، وكذلك لارضاء الحاجات والطموحات المختلفة للفرد المتحضر، في مجتمع مبني على هذه الأسس، سيقوم التعاقد الحر الذي بدأ بتغطية جميع جوانب الحياة بالتوسع وأخذ دور أكبر بحيث يستبدل كل العلاقات الأخرى.
خلافاٌ لكروبوتكين، قام ليو تولستوي بتوسيع الأفكار التي تشكل اللاسلطوية، وقام كذلك بتقديم اللاسلطوية المسيحية (والتي تعني الايمان بالله ولكن رفض سلطة الكنيسة). وقد كتب تولستوي أثناء توسع اللاسلطوية “أن اللاسلطويين على حق بأن غياب السلطة لا يمكن أن يُنتج عنف أسوء من العنف في ظل الحكومات والأوضاع الحالية.”
بدأت اللاسلطوية بالظهور مع بداية القرن العشرين كما أصبح تعريفها محكما نتيجة ظهور الكُتاب والحركات اللاسلطوية. توسعت اللاسلطوية في أمريكا بشكل كبير نتيجة سجن ثمانية لاسلطويين في شيكاغو سنة 1886. لقد أنتجت حادثة “مساجين هاي ماركت” (1) ” Haymarket Eight ” عدداُ من اللاسلطويين مثل فولتارين دي كلير ولوسي بارسنز التي ولدت عبدة لكنها أصبحت بعد ذلك لاسلطوية وخطيبة مفوهة وعاملة ثائرة، لدرجة أن شرطة شيكاغو قامت بوصفها بأنها “أخطر من ألف مثير للشغب.” بالاضافة الى إيما غولدمان التي أصبحت جزءاٌ من الحركة اللاسلطوية حيث كان يُطلق عليها “عاهرة اللاسلطوية الملعونة”، قامت غولدمان بتوسيع معنى اللاسلطوية وقامت بتقديم مجموعة من أكثر الأفكار اللاسلطوية النسوية أهمية في التاريخ وقد استمرت هذه الأفكار إلى يومنا هذا نتيجة لعملها.
كان لأليكساندر بيركمان -زميل غولدمان القديم- دور كبير في تعريف كلمة اللاسلطوية، قام بكتابة كتاب عنوانه “مبادئ اللاسلطوية” ” ABC of Anarchism “، عَرَّف وشرح فيه معنى اللاسلطوية وما يزال هذا الكتاب يُقرأ إلى يومنا هذا. كتب بيركمان: “اللاسلطوية تعني أنه عليك أن تكون حرا، أنه لا يمكن لأحد استعبادك، أو السيطرة عليك، أو سرقتك، وفرض نفسه عليك. إنها تعني أن تكون حراُ للقيام بالأشياء التي ترغب في القيام بها، وأنه لا يجب عليك فعل شيء لا ترغب بفعله.”
لقد تم تطبيق اللاسلطوية عبر التاريخ بشكل عملي وقد بين هذا الشيء أن اللاسلطوية ليست فكرة نظرية فقط. لقد كان واضحا التأثير التعاوني لللاسلطوية في كومونات باريس في بداية القرن التاسع عشر، وقد نجح التنظيم الثوري في صفوف طبقة العمال المكسيكية المتمردة بفضل لاسلطويين مثل ريكاردو فلوريس ماغون وثوريين مثل أيمليانو زاباتا، وقد أثبتت ثورة 1936-1939 في اسبانيا امكانية أنتاج اللاسلطوية في مناطق صغيرة من العالم. ويمكن رؤية اللاسلطوية بشكل عملي اليوم في أماكن مثل شركة موندراجون(2)، في اسبانيا حيث يعمل اللاسلطويون بشكل جماعي وبحرية بعيداُ عن السلطة.
على الرغم أن الكثيرين يفهمون اللاسلطوية بمعناها الأصيل (الذي تم تعريفه في القواميس وعن طريق اللاسلطويين)، لكن كثيراُ ما تستعمل وتفهم هذه الكلمة بشكل خاطئ. بسبب التهديد الذي شكلته اللاسلطوية، قديماُ إلى اليوم للسلطة القائمة، تم إساءة استعمال هذه الكلمة لكي تدل على العنف والفوضى. وقد عبر عنها جورج ودكوك أحد مؤرخي اللاسلطوية
فكرة أن اللاسلطوي هو شخص يرمي القنابل ويريد تدمير المجتمع بالعنف والإرهاب لهي من أكثر الأفكار العبثية على الإطلاق.وكون هذه التهمة تلقى الآن ضد اللاسلطويين على رغم من أنهم من الأشخاص القلائل الذين لا يرمون أو يساعدون رامي القنابل , يظهر وبشكل يثير الاستغراب عمى واضح لدى منتقدي هذه النظرية.” لقد تم نفي الرأي القائل بأن اللاسلطوية هي عبارة عن فوضى منذ زمن بعيد على يد أليكساندر بيركمان حين كتب:
يجب أن أخبركم ما ليست عليه اللاسلطوية. أنها لا تعني القنابل, أو الإفلات الأمني , أو الفوضى. أنها ليست السرقة أو القتل. أنها ليست حرباُ بين بعضنا البعض. أنها ليست العودة للبربرية أو للحالة الهمجية للإنسان . اللاسلطوية على العكس من كل هذا.
أن الاستخدام الخاطئ لكلمة اللاسلطوية يُصعب في كثير من الأحيان محاولة محو الأفكار النمطية المرتبطة بهذه الكلمة.وليس من المستغرب أن يطلق نعت “فوضى تامة” ” complete anarchy ” من قبل الأعلام على أحد بلدان الشرق الأوسط التي تعاني من اضطرابات نتيجة الغزو الأمريكي ,هذه الجملة تقوض التعريف الصحيح لللاسلطوية ولكل من كدح ولازال يكدح لجعل كلمة اللاسلطوية تحمل معناها الحقيقي اليوم.
لا يزال اللاسلطويين المعاصرين يعملون بجد كي تحافظ اللاسلطوية على مصداقيتها وتاريخها. تحاول اللاسلطوية اليوم إيجاد حلول لمشاكل السلطة، ليس سلطة الدولة فقط، بل بالاضافة إلى سلطة المنظمات وكل أشكال الهيمنة المباشرة بين الأفراد والمؤسسات. بعض اللاسلطويين مثل أل. سوزن براون قاموا بتقديم أفكار مثل الوجودية الفردية، بينما حافظ آخرون على ولائهم للاسلطوية النقابية والصراع الطبقي.
انتشرت اللاسلطوية عبر العالم عن طريق الموسيقى أيضاٌ مثل فرقة كراس” Crass “، الذين قاموا بالترويج لللاسلطوية ولمكافحة التمييز بين الأنواع ودفعوا العمال وأعضاء المجتمع لكي يكونوا مكتفين ذاتياُ. يقوم لاسلطويون آخرون مثل لورينزو كومبا يرفين، عضو سابق في جماعة الفهد الأسود، بتقديم طرق جديدة للتنظيم ومحاربة العنصرية بشكل مباشر. بالإضافة لذلك، دخلت اللاسلطوية في خضم المشاكل البيئية بفضل أفكار اللاسلطويين- البيئيين وبفضل المنظمات ذات الفكر المتحرر مثل “الأرض أولاُ!” كذلك نرى لاسلطويين يعملون للحفاظ على اللاسلطوية حية ومنتشرة حول العالم بشكل نظري وعملي، وذلك عن طريق الجرائد مثل “الحب والحنق” ” Love and Rage ” في المكسيك والولايات المتحدة، وناشري الكتب اللاسلطوية مثل “AK Press” في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وكذلك جماعات دعم المساجين السياسيين مثل الصليب الأسود اللاسلطوي ” the Anarchist Black Cross “.
كما وُثق أعلاه، كلمة اللاسلطوية تملك تاريخا طويل.على الرغم من أن الكلمة اشتقت ببساطة من اللسان الإغريقي, ألا أن الفلسفة والأفعال اللاسلطوية عبر التاريخ والحاضر هي ما أعطت لكلمة “اللاسلطوية” معناها الحق. أن التعاريف القاموسية كما ذكرت، تنصف اللاسلطوية أحياناً، ولكنها بعيدة عن الكمال. لقد كان الاستخدام الخاطئ لكلمة اللاسلطوية مشكلة كان على اللاسلطويين التعامل معها طوال القرن الماضي بسبب الاستخدام الخاطئ لهذه الكلمة، وبسبب التعاريف القاموسية المتواضعة، والتفسيرات المختلفة لللاسلطوية، يمكن للكلمة أن تحمل أكثر من معنى، ولكن يمكن إيجاد المعنى الحقيقي لللاسلطوية في تاريخ اللاسلطوية، والكتابات اللاسلطوية، والممارسات اللاسلطوية.
الخطوة القادمة, خطوتك أنت!
المصدر: هنا
مراجعة: نصرالدين بلبكري.
(1) قضية سياسية حيث تم سجن ثمانية لاسلطويين زوراً بتهمة إلقاء قنبلة على مجموعة من الشرطة أثناء أحدى المظاهرات وقد سببت هذه الحادثة في وقت حدوثها في 1886 تعاطفاً كبيراً العمال بصورة عامة واللاسلطويين بشكل خاص. وقد سمي الأربعة الذين تم أعدامهم والسجين الذي أنتحر بشهداء شيكاغو” Chicago Martyrs”.
(2) Mondragon هي عبارة عن مؤسسة فدرالية تعاونية عمالية أسست سنة 1956 يقع مقرها في اسبانيا ولا تتبع النهج الرأسمالي بل تتبع النظرية اللاسلطوية بتعاملها مع عشرات آلاف العمال الذي يعملون تحت ظلها. وتعد مثال قوي على نجاح النظرية اللاسلطوية في المجال الاقتصادي.