قرّرتُ في الأيام الأخيرة أن أغيّر منظوري للحياة، فبدل أن أقضي يومي في الجلوس أمام شاشة الهاتف ونشر الكآبة وكأن العالم يحتاج مزيداً من التشاؤم، اخترتُ أن أجرب نقيض ذلك تماماً. الاندماج في الواقع وإضافة بعض التفاؤل واللّمسات الإيجابية الجميلة داخله، بمعنى أن أكون مواطناً صالحاً داخل البيت ومن ثَمّ المجتمع.
لا أذكر تحديدا كيف طرأت على عقلي فكرة إعادة دهن “حوش الدار” وتجربة فنون الرّسم على الحائط رغم أنّي لم أفعل ذلك قبلاً، ولابدّ من الاعتراف أنه لا علاقة لي بالرسم لا من قريب ولا من بعيد سوى أنّني أحببت رساماً. لكن الحياة تُتيح لنا تجربة الأشياء لأول مرة دائما، فَلِم لا أغتنم فرصتي هذه المرة.
كان صباحاً مشمساً بنسمة منعشة تُشجع على القيام بأعمال مبهجة، حملت فرشاة الدهن وبدأت العمل بكل مثابرة على أنغام “شوبان”، لا أعرف لِم هو بالتحديد مع أنّني غالبا أختار ألحاناً أكثر حماساً للقيام بأعمال شاقة، فالموسيقى تجعلك تستسلم لها وتتحكم بك وبانفعالاتك، ففي لحظة ما يصبح جسدك خاضعاً لنوناتها فقط دون سلطة عقلك الإدراكية.
كانت مقطوعة “نوكتيرن” تُعزف لحظتها وكانت تحركات يدي خاضعة لها، لا أنكر أنّني تخيلت حركات يدي مطابقة لعازف بيانو مشهور، ولا داعي لإخفاء حقيقة أنّي تصورت نفسي بدل “آدريان” وهو يؤدي دور “سبيلمان” في ذلك المشهد الرهيب وهو يعزف للكولينيل الألماني وسط الحرب والحطام، تصوراتي تلك جعلتني شديدة التركيز مع كلّ لمسة للفرشاة، فلابد أن يكون الحائط متناسقاً كمقطوعة شوبان المثالية دون نشاز.
تَطلّب الأمر مايقارب الساعتين من العمل المتواصل، لكنّ الرّوح الفنٍّية التي استحوذت عليّ آنذاك جعلتني أنسى الإرهاق ولفحات أشعة الشمس الحارقة التي تحوم فوق رأسي، كان كل ذلك مُستحقّاً وجديراً بالتضحية أمام نظرتي الجديدة التي تبنّيتها منذ يومين.
أخذني الحماس قليلاً كما تفعل بنا البدايات دوماً، لأصرّح لنفسي أن الحياة تستحق فعلاً، وأنّ العالم ليس أسوداً فقط بل يحتمل كل الألوان، يكفي الواحد منّا أن يزيل عصابة العينين ليرى الجمال حوله. لا يمكن لأحد لومي ساعتها على كل فكرة غبية تفوهت بها لنفسي، فكما قلت حماس البدايات قاتل، لذا لا يجب أن نتعصب حول الأشياء أو الأفكار التي نختارها قبل أن تُصقل فينا، ولو أن التعصّب كله مكروه، لكن الإغواء الذي تقدمه لنا الأفكار والتجارب الجديدة يجعلنا ننقاد عاطفيا خلفه دون تعقّل، وهذا ماحدث معي مع فكرة ”La vie est belle“.
أنهيتُ العمل وكانت شمس الظهيرة تتوسط السماء فوق رأسي تماماً، كناقوس يعلن نهاية دوام الكادحين في الأراضي القاحلة. كلّ ما علي فعله الآن هو أخذ قليل من الرّاحة وانتظار أن يجف الطّلاء لتتجلى اللّوحة الفنية التي رسمتُها بكل تفانٍ. استلقيتُ على ظهري وأنا كلي فخر واعتزاز بنفسي، وهذا شيء لم يحدث منذ زمن طويل. لم أستطع أن أغفو من شدّة الحماس رغم الإنهاك، فمددتُ يدي إلى سطح المكتب والتقطتُ رواية كانت تنتظرني لأعود إليها. “كل الأسماء”.. لا يمكن للحظ أن يحالفني لدرجة أن يرافقني سراماغو بروايته هذه لحظات الانتظار المبجّلة، فتحتُ الرواية عند فاصلة القراءة، وكان هناك ” دون جوزيه” هو الآخر يتطلع للسقف وهو سعيد بالإنجاز الذي حققه والجرأة التي امتلكها للدخول لمكان المحفوظات العامة ليلا وتسلُّق السلم في الظلام بكل شجاعة في سبيل إنجاح مهمته العظيمة، تشاركنا أنا وجوسيه نشوة الانتصار وكنا قريبيٰن من احتساء نخب تلك اللحظات السعيدة لولا ماحدث…
فُتح باب الغرفة على عجل، فقَطع عليّ انغماسي مع أفكاري تلك، ظهر وجه أمي من خلف الباب:
– دخلتي القش من الحوش؟
– واه، علاه؟
– ماكيش تسمعي فالرعد، غادي تصب النو
– ألاّ كيفاش، هذا وين كانت الشمس!
لم أَكد أكمل جملتي تلك حتى بدأ وابل من الأمطار الرعدية ينزل فوق رأسينا، كأن السماء كانت فقاعة ماء كبيرة انفجرت في تلك اللحظة. حَلّ صمت رهيب في الغرفة، لاشيء يُسمع سوى ضربات المطر في الخارج، أشك في أن “دون جوسيه” تبادل معي نظرات الخيبة والدهشة واكتفى بالصمت هو الآخر دون تعليق عن الحادثة. حملتُ نفسي المفجوعة مما يحدث ونزلتُ بأقصى سرعة للأسفل، فتحتُ باب المطبخ المطلّ على “الحوش” وبقيتُ أشاهد مايحدث – يا الرّب العالي، كلش راح! كأمّ أجهضت وفقدت جنينها أمام عينيها، كان الأمر مماثلا، هل ألعن حظي أم أنّ السماء قررت أن تلعب معي قليلا لعبة “الزكارة”؟ هل هو انتقام اللون الأسود أم مجرد حظ تعيس؟
اكتفيتُ بالجلوس ومشاهدة مايحدث في أقسى لحظات الاستسلام أمام الإرادة الإلهية، سيول المطر تجرف كل فكرة متفائلة كوّنتُها في رأسي خلال عملية الدهن، ومع صوت ارتطام حباتها بالجدران المصبوغة كنت ألعن كل حرف في تلك الجملة الغبية.. “La vie est belle”.
استمرّت الأمطار لساعات مُغرقة شوارع المدينة، لكن “الحملة” والغرق كانا آخر ما يمكنني التفكير فيه. كان علي أن أُنظف أرضية الحوش مما اقترفته يداي باسم الجمال والفن. ارتديتُ الزي الرسمي للأعمال الشاقة، “تريكو تاع خويا وسروال بيجاما قديم” يتوجب طيّه حتى الركبتين ليساعد على العمل أكثر، هذه البدلة مخصصة لأيام مميزة في السنة كصبيحة العيد الكبير ولأيام المحن كهذا اليوم.
رفعتُ شعري للأعلى قدر الإمكان، كان الجو لا يزال غائما واستمرّ رذاذ المطر بالنزول متمهلا لعله يصلح ما أفسدته الأمطار الغاضبة قبله، ربما محاولة من السماء لعقد صلح معي، فهي تدري أنّ شخصاً مثلي لا يمكنه أن يحقد على المطر. كالعادة كان ذوقي مخلصا لشوبان وتحفته “نوكتيرن”، انطلقت الألحان من هاتفي، اتخذتُ وضعية القرفصاء في وسط أرضية الحوش الغارقة في المياه. لو كان الأمر بيدي لاعتبرتها حفلة موسيقية في أجواء خيالية، موسيقى كلاسيكية رذاذ مطر وأرضية تطفو فوقها مجموعة ألوان تتمايل فوق سطح الماء، ولكنتُ أنا راقصة باليه تستعد في تلك اللحظة لبدء رقصة سولو مميزة للسهرة، فتبدأ بانحناءة كبيرة في وضعية القرفصاء دوماً، وتُحلّق عالياً كفراشة خرجت من شرنقتها مع تصاعد النغمات.
وكما هو متعارف عليه في الحفلات الراقية لا يمكن لسيدة أن ترقص وحدها دون مرافق، وهكذا كان الحال، بطبيعة الحال كنت لأختار رجل حياتي ليشاركني الرقصة. لكن مرافقي في تلك اللحظات الساحرة كان “حبيلة تاع أجاكس” ليزيل الطلاء العالق على الأرضية بسهولة، كان مرافقاً صالحاً ومتعاوناً لأقصى حدّ تتطلبه رقصة كتلك في وضعية صعبة مثل تلك. استمرّينا على تلك الحالة لمدة من الوقت، نرقص دون كلل، في كل مرّة يضغط العازف بشدة على لوحة البيانو يزداد ضغطي على قطعة الحديد بين يديّ ويزداد معها إصراري على إزالة كل البقع، كلما تصاعد اللحن تبعته حركات يدي بكل دقة حتى لا يهرب اللحن بعيدا ونرقص خارج الإيقاع.
كيف كان بإمكان العالم أن ينجو دون موسيقى ودون رقص؟ هل كان الحب سيبلغ درجاته دون رقصة مشتركة بين عاشقيْن على لحن يختارانه عنوانا لطريقهما؟ أبداً، الموسيقى قدمت للبشرية الكثير، فعلى عكس ما نعتقد لسنا من أوجد الموسيقى ولا من خلق أولى خطوات الرقص، كلّ ذلك كان موجودا قبلنا وسيستمر بعدنا، نحن فقط نترجم الموسيقى للحن ندركه بحواسنا ونُخضع الرقص لمقاييس وخطوات تجعلنا قادرين على تأديته، فلا يمكن للبشر أن يخلقوا الجمال بل يمكنهم فقط الانضمام إليه والإمعان فيه بكل جلال.
ارتفعت يد العازف وبقيتُ معلَّقة لبرهة في الفراغ لتهوي بعدها بكل شاعرية على مفاتيح البيانو لتعزف آخر نوتة معلنة نهاية الحفلة الحالمة، وبذلك انتهت آمالي لتلك الليلة، وككل مرة علينا أن نرمي بالأحلام المبهجة واللحظات السعيدة إلى بالوعة اللّاوعي الانساني حتى لا نعود لها يوماً، مُحوّلين كل ذلك إلى ذكرى مؤلمة هي الأخرى، كان علي أن أنظف الأرضية وأرمي بجملة الألوان تلك إلى البالوعة لتصبح كأجزاء حياتي مجرد ماضٍ لا يذكره أحد.
تدقيق لغوي: حفصة بوزكري