حَدّق في اللَوحةِ .. تُحدِقُ فيك .

“خلق الرب الإنسان؛ لأنه يُحبُ الحكايا “
إليي فيزال

كانت تتأمل سقف المتحف مليًّا؛ شاردة الذهن في تلك اللوحة الجدارية الساحرة بألوانها التي استعارتها من الطبيعة حتى غارت منها؛ وأشكالها وشخوصها التي رُسمت ملامحهم بدقة؛ بين صياح وخوف؛ فرح وضحك؛ شرود وصمت ارتياب وحيرة؛ حتى لتحسب أن رُوحًا دبّت بداخلهم.

– “لا تحدقي طويلا فى اللوحة حتى لا تلتفت إليكِ “.
آلهة الأوليمبك ..

سمعته كصدىً يقترب منها فأيقضها من شرودها الذي لم تعرف كم دام وقته.
*عفوًا ؟

– اللوحة تصور آلهة الأوليمبك للفنان الإيطالي جوليو مورانو في جبل الأوليمبك الذي يصل الأرض بالسماء؛ والمقولة محرّفة لنيتشه.

*نعم مذكور ذلك في كتاب الإرشادات لكن نيتشه غير مذكور معها.

تنهد بأسى.

– كتاب الإرشادات لا يُعول عليه، يذكر العناوين فقط، لا يذكرُ القصص والأساطير، الإنسان بلا قصة كالسمك بلا ماء والطائر بلا جناح.

*مممم يبدو ذلك!

-ما الذي يجذبكِ في هذه اللوحة بدوتِ شاردةً فيها؟

*فضول .. وكما يقول صديقك نيتشه
“صوت الجمال همسًا يتكلم، إنه لا يتسلل إلاّ إلى الأرواح اليقظة “كأنني أسمعها تناديني، وفي كل مرةٍ أتأملها توحي لي بشيءٍ خفيٍ جديد.
-صديقنا نيتشه يضيف أيضًا : “لقد اخترعنا الفن لكي لا نموت من الحقيقة”

يصمت لبرهة ثم يسأل:
-هل لديكِ متسعٌ لخرافة جديدة؟

*في حياتي ما يكفي منها؛، ولا حرج إن أضفتُ خرافةً أخرى.

-هل سمعت من قبل بأسطورة بروميثيوس؟

*أنر بصريتي بها.

-بروميثيوس لا يظهر في هذه اللوحة، رغم أن له دورًا كبيرًا في الأساطير اليونانية القديمة، توجد لوحة أخرى بعنوان “سقوط الجبابرة” تُصور المعركة التي هزم فيها العمالقة “Titans” على يد آلهة الأوليمبك بقيادة الإله زيوس، هذه المعركة التي فصلت في حكمهم للكون بعدما دامت سنين طويلة.

*وما دخل بروميثيوس بهذه المعركة ؟

-لا تستعجلي، القادم آت!
بروميثيوس كان من الجبابرة؛ باللغة اليونانية اسمه يعني “البصيرة”، وكان له من اسمه نصيب فقد تنبأ بانتصار زيوس على العمالقة، فانضم إليه وبشره بنبوءته. ولأن هذه النبوءة صدقت،كنوع من الشكر كافأه زيوس بمهمة خلق البشر بينما وكّلَ أخوه إيبمثيوس بمهمة خلق الحيوانات.

*عجيب أمر زيوس، ألم يكن هو الإله الأعظم! كان يمكنه أن يخلقهم بنفسه دون الحاجة إلى غيره؟
-ربما كانت لديه اهتمامات أخرى، فأصحاب السلطة مشغولون دوما ولكل إله هبته، كما ترين في اللوحة زيوس برمحه فهو إله البرق والرعد، يوجد أيضًا أخوه هاديس إله العالم السفلي وأفروديت إلهة الجمال والحب وآثينا بخوذتها إلهة الحكمة والحرب وهيفيستوس بمطرقته إله النار، لا علينا الآن من الآلهة وهباتهم.

*نعم أرى ذلك، أكمل أكمل، آسفة على المقاطعة.

-خلق إيبمثيوس الحيوانات ولسرعته في العمل فقد وهبها قدرات متنوعة: للطير وهبَ الأجنحة، وللسمك زعانف وقدرة على العيش تحت الماء، للنمر والكلب أنيابًا ومخالب، كل حيوان وهبهُ ما يضمن بقاءه من جلدٍ ووبرٍ يقيهم البرد ويساعدهم على العيش والتعايش. بينما بروميثيوس فقد كان أبطأ منه فخلق البشر على هيئة تشبه زيوس لكن لا قدرات لهم.

*هل كانوا ذكورًا و إناثًا؟

-لا تذكر الأسطورة هذا التفصيل؛ لكن هناك حكاية أخرى ضمن هذه الحكاية، فكل حكاية تلد لنا حكاية أخرى حتى تفنى النجوم.
غار زيوس من البشر لذا فقد أنزلهم للأرض وجعل منهم فانين بأن خلق لهم الموت حتى لا يزاحمه أحد في ملكه وجعلهم عبيده؛ لا يعيشون إلا تحت رحمة إله يعبدونه فيقدمون له القرابين والأضاحي ويهابونه ويطلبون الرحمة والقوة منه وحده.
ولأن بروميثيوس أحب البشر وتعلق بهم فلم يعجبه ما قام به زيوس؛ الذي فرض عليهم القرابين. وأراد أن يكون للبشر سمةٌ مميزة عن غيرهم من الكائنات.

*العقل؟

-التفكير والمعرفة. أراد أن يهزم زيوس بأفكاره لا بقوته، فقسّم أضحية القربان على جزئين، في أحدها وضع اللحم في أسفل الصحن وغطاه بما لا يُأكل، وفي الآخر جعل العضام في الأسفل والشحوم فوقها، اختار زيوس الطبق الثاني لوقوعه في فخّ المظاهر، غضب عندما اكتشف أن بروميثيوس خدعه، فحرم النار على البشر.

*يقال بأن النار هي محركُ الحضارة.

-صحيح؛ النار بالنسبة للبشر بأهمية الماء والهواء؛ تملّك البشر بعد حرمانهم منها الخوف وتلحفهم الصقيع والبرد في العراء.
ولأن بروميثيوس ساءه حالهم فقد عصى زيوس مرة أخرى؛ صعد لجبل الأوليمبك هناك حيث تُصنع النار ويصنع الإله هيفستوس أسلحة الآلهة وصواعق زيوس. سرق بروميثيوس جذوة من النار وقام بإخفائها في نبتة وقدمها للبشر، ومنذ ذلك اليوم بدأ صراع البشر بينهم وقامت حضارات وسقطت أخرى، فالنار مهيج الحضارات الأولى ومطفئها على حد سواء، دون أن ننسى صيد الحيوانات وشواءها لتبلغ روائحها قمة جبل الأوليمبك وتداعب أنوف الآلهة.

*وزيوس ماذا فعل؟

-كانت هذه الفعلة القطرة التي أفاضت الكأس، فعوقب بروميثيوس بربطه بطرف جبل وفي كل يوم يأتي غرابٌ لينهش كبده، ليتجدد فيما بعد ويعاد نفس الشيء في اليوم الموالي، كان عقابًا أبديًّا.

*كما حصل مع سيزيف؛ يبدو أن زيوس لا يعرف عقابًا آخر غير العادة والإعادة ونزع المعاني من الأشياء بتكرارها اللامتناهي.

– صحيح؛ العبثية في أبهى صورها.

*لديّ سؤال يراودني؛ أستغرب لماذا لم يقتل زيوس بروميثيوس؟ ضربةٌ واحدة برمحه كانت كفيلة به.

-سؤال وجيه، لكن بروميثيوس كان خالدًا، ولا يموت إلا إذا قتله خالدٌ مثله يتركُ له مكانه، والذي كان فيما بعد هرقل بن زيوس.

عم صمتٌ مهيب بينهما دام لدقائق، حتى لكأن الكلام فرغ من الكلام، وبقيا يتأملان اللوحة بافتتانٍ طفولي واللوحة بدورها تُحدق فيهما.
أطلق ضحكةً مكتومة، قطع بها حاجز الصمت.
*هل أطلق أحدهم نكتة لم أسمعها؟

-نعم.

*أضحكنا معكَ إذًا!

-همس لي بها بيكاسو في أذني.
وضحك مرة أخرى ..
قال لي:
“الإعجاب هو أن تقف خمسة ساعات أمام لوحة جميلة في المتحف، أما الحب فهو أن تقف خمسة دقائق فقط وتذهب، ثم تعود لسرقتها في الليل “

أطلقت ضحكتها فبدتْ وكأنها تُجمّعُ الأطفال فيها؛ ولها نغمة موسيقية عذبة تطربُ لها أذنُ السامع.

*هذا يعني أنه علينا أن نخطط الليلة لسرقة المتحف كاملًا.

-لقد بدأتُ بالتخطيط فعلًا.

*وما هي خُطتك إذا؟

-بعدما نكمل بقية الحكاية.

*ظننتها انتهت!

-ألم أقل لك أن كل حكاية تلد حكاية أخرى حتى تفنى النجوم؟
أخبريني أولًا ما اسمكِ؟

* ماريا.

-سانتا ماريا؛ اسمٌ جميل ومناسب لجو الأساطير الذي دخلناه.

*ماذا عن إسمك؟

-سأتركه لآخر الحكاية.
ركزي قليلا في اللوحة، ألا ترين بأنه في أسفل الجبل هناك بشرٌ ينظرون إلى أعلى؟

*نعم يبدو ذلك، كأنه هاوية نيتشه هي التي تحدق بنا.

-صحيح، الإله زيوس ولأنه كثيرُ التفكير في مُلكه، ويخاف من تحقق نبوءة بروميثيوس الذي أخبره بأن أحد أبناءهِ سيقتله وقد كان سعيدًا بمصير البشر وحياتهم وراضٍ عن قَدره، فأراد زيوس أن يعرف من أخيه إيبميثيوس هوية الوريث الغدار الذي سيقتله؛ وأن ينتقم من البشر أيضًا. أمر ابنه هيفيستوس أن يخلق له إمرأة وأمر كل إله أن يهبها شيًئا منه.
فهي أول إمرأة فانية تُخلق على الأرض، نفخ هيفستوس الروح فيها وجعل جسدها جذابًا فاتنًا ليغطي قبحهُ بجمالها، من أفروديت وُهِبت الحب وإبداء العاطفة، من هيرميس اكتسبت إتقان اللغة، آثينا وهبتها الحكمة والاهتمام بالتفاصيل، وهيرمس وهبها اسم “باندورا” والذي يعني (التي مُنحت كل شيء)

*وماذا عن زيوس؟

-زيوس كريمٌ جدًا، وهبها شيئين: سمة الفضول من زوجته هيرا التي استقرت بروحها وأشعَلت فيها شعلة المعرفة والاكتشاف والتي قادتها بلهفةٍ نحو العالم وأسراره، وصندوقًا صغيرًا مزخفًا ومُحكمَ الإغلاق.
نزلت باندورا إلى العالم الأرضي حيث البشر، وجدت إيبميثيوس الذي كان حزينًا على مصير أخيه، وقعت باندورا في حبّه وتزوجا.
باندورا كانت سريعة الملل رغم حبها للمعرفة، تعتاد الأشياء وتملها كحالنا نحن البشر؛ شعلة الفضول توجهَت كلها نحو الصندوق الذي أوصاها زيوس بعدم فتحه أبدًا وأنه ليس لأعين البشر أن تراه، تتخيل ما الذي يخفيه في داخله ولماذا ولاّها على حفظه؟ وما الذي لا يمكن للبشر رؤيته؟
كان للصندوق قوةً تجذبها وصوتًا يناديها.

تضحك ماريا وتقول له:
*باندورا تُشبهنا حقًا، لا شيء كفيل بقتلنا نحن معشر النساء كفضولٍ لا نُشبعُه معرفة. أتساؤل إن كان الفضول نعمةً أو نقمة؟

-ولهذا أمر زيوس بخلقها، فلو كانت رجلًا لربما نسي أين وضع الصندوق كما ينسى أين وضع جواربه.

علا صوت الضحك القاعة ثم توقفا في لحظة واحدة.

قالت هامسةً : أكمل أكمل.

-في يومٍ من الأيام أصابها الفضول بالجنون، لم تستطع منعَ نفسها من الاقتراب من الصندوق خُفيةً عن ايبميثيوس وإلقاء نظرةٍ خاطفةٍ عليه.
في لمح البصر خَرجَ دخانٌ أسودُ قاتم كاليل يدور في الهواء ويُصدر أصواتًا مرعبةً تصّمُ الآذان حاولت باندورا إغلاقه لكنها لم تستطع.
وضع زيوس في الصندوق كل الشرور وأصناف المعاناة التي منذ خروجها تملكت جنس البشر وعمّت الأرض من قتل وسرقة وفقر؛ تكبر وجشع وشهوة وأنانية وغيرها من الشرور.

*وماذا حصل لباندورا؟

– أصابها الهلع وصارت تبكي، لكنها سمعت صوتًا موسيقيًا لا يزال قابعًا في قلب الصندوق، عذبًا وينادي باسمها فتحت الصندوق فإذ بشرارة بيضاء كنجمة تُشعُ بعثت الطمأنية في قلب باندورا.

*ما الذي تمثله هذه الشرارة؟

– الأمل.
لذلك كُتب على البشر أنه حتى في أصعب الحالات لا يغادر الأمل قلوبهم؛ فالأمل فسحة الحياة.
سألتِ إن كان الفضول نعمةً أو نقمة؟ الفضول هو ما يجعل من البشر بشرًا كما الحكايات، فضولنا يقودنا للمعرفة التي منحها بروميثيوس للبشر رغم ما تحمله من مخاطر لكنها ما يميزهم عن غيرهم من الكائنات الأخرى.

*يذكرني هذا بقصة إيفا أو حواء مع شجرةِ المعرفة.

-بتعبير شيكسبيري مُحرف “نحن مصنوعون من مادة القصص نفسها”

*القصائد نصوصٌ مقدسة لا يجوز تحريفها.

سَمِعتْ صوتًا يناديها من بعيد.
آنستي عذرًا لقد انتهى دوام فتح المتحف اليوم؛ يمكنك العودة في الغد ونأسف لمقاطعتك عن تأملك.
استيقظت من شرودها وتنبهت إلى أنه لم يكن أحدٌ بالجوار؛ تلفتت من حولها بارتياب وكأنها تلاحق بقايا حلم يقظة تحسبهُ حقيقة.
ضحكت بصوتٍ مسموعٍ تعجب له الحارس.
لملمت أشياءها وحدقت في اللوحة لآخر مرة، بدت وكأنها تحدقُ فيها فعلًا.
في طريق خروجها اعتذرت منه وأخبرته بأن الوقت سرقها ولم تنتبه.
سألها إن كانت لوحدها فقد سمع -كما في كل مرةٍ تعود فيها إلى المتحف وتجلس لتأمل اللوحة مليّا- صوتها تضحك وتتكلم وكأن شخصًا ما كان يرافقها؟
ضحكت مرةً أخرى وأجابته -كما في كل مرة- أنها كانت لوحدها، ودّعته بابتسامة واعدة بالرجوع.
زخاتُ مطرٍ خفيفة كانت تداعبُ شوارع المدينة، في طريقها نحو شقتها كانت تتساؤل بداخلها: هل أكلتُ دوائي اليوم؟
وذلك الغبي لم يخبرني اليوم أيضًا باسمه!

تدقيق لغوي: سليم قابة.

كاتب

الصورة الافتراضية
Laib Kaisse
المقالات: 0

اترك ردّاً