إن اللغة هي ذلك النسيجُ التركيبي المتنوِّعُ من الرموز والرسومات، في مفردات تشكِّلُ كلماتٍ تُصَفُّ في جُمَلٍ تخلُصُ إلى معانٍ يستعين بها البشر في التعبير عن أنفسهم وحاجاتهم، وهذا النسيج هو اللِّحاف الذي تلتحفُ به المعرفة؛ فخلف اللغة تكمن العلوم والمعرفة.
ثمَّة حول العالم من اللغاتِ ما يُجاوزُ خمسة آلافِ لغة، لكلٍّ منها خصوصيَّاتها، وتحوم حول أصلها الأول فرضيُّاتٌ عِدَّة، فما بين القول بخصيصتها البشرية وكونها طفرة نتج عنها ظهور اللغة فجأة، وبين القول بكونها نظامًا ثقافيًّا اكتُسِب من خلال التفاعل الاجتماعي، وبين النظرة الدينية، وكون اللغة تلقينًا إلهيا لآدم.
واللغة اليوم علمٌ واسعٌ بحياله، تندرج تحته أبوابٌ متعددة ونظريُّات، وفي هذا المقال سنتحدث بطريقة بعيدة من التخصُّصِ، قريبة من كونها توجيهًا للضوء نحو بعض النقِّاط المتفرقة في موضوع اللغة، وبشكلٍّ يخصُّ أكثر اللغة العربية.
يُعرِّف جرجي زيدان اللغة العربية، فيقول:
إحدى اللغات السامية وأرقاها مبنىً ومعنى واشتقاقًا وتركيبًا، وهي من أرقى لغات العالم … فقد تقدَّم أن اللغات على اختلاف أنواعها تنقسم إلى مرتقية وغير مرتقية، وأن هذه تقسم إلى متصرفة وغير متصرفة، وأن هذه تقسم إلى ثلاث طوائف كبرى: (1) الآرية (2) الطورانية (3) السامية، وفيها اللغات العربية والسريانية والعبرانية والفينيقية والقرطجنية والآشورية والبابلية وغيرها. وأرقى اللغات السامية اللغة العربية …
الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية، تاريخ اللغة العربية، جرجي زيدان.
حظيت اللغة العربية بعناية فائقة من طرف اللغويين، وغير اللغويين من المسلمين؛ لما لها من مكانةٍ ارتبطت بأسباب دينيَّة، فهي اللغة التي تنزَّل بها القرآن، ولعلَّ من تجليَّات هذه العناية، ما اتضَّح من الاهتمام والالتفات لقضية المبنى والمعنى في اللغة العربية، والعلاقة بينهما، فمنذ بدأت دراسات اللغة وفلسفتها ونشأتها ودلالتها على المعاني، كانت دراسة العلاقة بين الصوت واللفظ والمعنى، ومن الآراء فيها وجود صلةٍ بينهما، هي صلةُ أو مناسبةٌ وعلاقة وضعيَّة، أي أنَّ الكلمات قد اختِيرت لتناسبَ المعاني التي تصفُها، إيقاعًا وخيالًا، ووَقْعًا، فما كان قويًّا من المعاني، رافقه بناء دالٌّ على هذه القوَّة، وما كان ضعيفًا منه وافقهُ ما دلَّ على هذا الضعف.
يقول ابن جنيِّ:
” نضح الماء ونضخ، فالفعلان وإن تقاربا في أصل المعنى إلا أن بينهما فرقا هو أن النضخ بالمُعْجَمة أشدُّ من النضح، فإذا قيل: إن هذه العين تنضح أدى ذلك إلى معنى خروج الماء من العين من غير معنى الغزارة والشدة الذي يفهم من قولهم: هذه العين تنضخ”.
إشكالية زيادة المبنى ودلالتها على زيادة المعنى/ دراسة تطبيقية على السين وسوف في القرآن الكريم.
تنسابُ المعاني الرَّقيقة، في أثوابها الأنيقة، وتعبرُ وعي القارئ والمتلقيَّ للغة، لتوحي له بتلك الماهية الغرائبيَّة المتمثلِّة فيها، تتبادلُ الحروف مواقعها في أرقام ثلاثية، رباعية وخماسية، لتشكِّل كلمات متقاربة الملامح، مختلفة الصدى، وفريدة المعنى، وتتبادل الكلمات المواقع في الجمل، وتتبادل الجُمَلُ المواقع في الفقرات، لتصنعَ نصوصًا ترسمُ ملامحَ معانيَ محلِّقةٍ. تمتلك هذه المعاني القدرة على نقلنا من حالٍ إلى غيره. كيف تُحدث هذه اللبنات والاحتمالات المتجلية في كلمات، كلَّ هذه التغيرات على الكائن البشري؟
هذه الالتفاتةُ تجعلنا نرقبُ الكلماتِ ونتأمَّلُ إيقاعاتها باحثين عن شكلِ المعنى خلفها، وتدفعنا للتساؤل عن ماهية الكلماتِ، من أين قدُمت؟ وهل هي أشبه ما تكون بكائنات مستقلَّة؟ لها حضورها الذي يفرضُ شكلها الذي نعرفها عليه من رموزٍ؟
ويأخذنا ذكرُ الرموزِ للحديث عن الحروف، المكوِّن الأساسي للكلمات، وفي هذا الحديثِ نشيرُ إلى أنَّ التراث العربيَّ قد عُنيَ بهذا البابِ حتَّى جعلَ منه عِلمًا، فإن كان مبنى الكلمة ومعناها قد حظيا بعناية اللغويين، فقد حاز الحرفُ على اهتمامِ كبارِ الصُّوفيَّة ورُوَّادِ عالم المعنى.
فَرَاحَ مُحيي الدين ابن عربي (1165م -1240م)، “يرتكز على الحروف لبناء نظريَّة متكاملة عن المعمار الكوني، وتجليَّات هذا المعمار على كافة المستويات، الروحي منها والمادي، فنجده في كتابه “فصوص الحكم” وقد تطرق إلى مفهوم بالغ الأهمية، لا لدلالته الروحية العميقة فقط، بل ولارتباطه القوي بفكرة التأثير الصوتي والمعنوي، لكل حرفٍ مُفردٍ من حروف اللغة، على الكلمات التي يوجد فيها هذا الحرف. وقد لخَّص ابن عربي هذا المفهوم في عبارة بديعة، ساقها في كتابِه على النحو الآتي: “ولكلِّ حَرفٍ معنىً، بشكلهِ أو بالكلمة التي يكون فيها أولُ حَرفٍ أو الاثنين معًا … ومعظم الحروف دالة؛ لاشتراكها في الكلمة، في البداية أو في الوسط أو في النهاية. فالحرف مسيطرٌ على الكلمة من ألِفِها إلى يائها”. وبذلك تُعَدُّ هذه الفكرة الرائدة العبقرية، التي تفتَّقت عنها قريحة ابن عربي، نموذجًا مُبَكِّرًا ورائدًا من نماذج المُقَارَبة البُنْيويَّة لمُفردات اللُّغة، ودليلا على انتباه الفكر الصوفي إلى مفهوم الدلالة الوُجدانِيَّة لبِنْيَة اللفظة، وتأثير هذه البِنْيَة، نفسيًّا وجماليًّا على السامِع والقارئ لأيّ نَصٍّ، ملفوظٍ أو مكتوب.”(1).
هكذا نجدُ أنفسنا أمام بناءٍ متكاملٍ، هو اللغة، وكلُّ لبِنةٍ من لبناتِ هذا البناء مُستقلَّةٌ بذاتها في بناء كاملٍ خاصٍّ، وهو الحرف، ولعلَّ هالة الغرابة حول سرِّ اللغة وسرِّ الحرف، قد ألهمت أُدباءَ وكُتَّاب اليوم ليحوموا حولها، فنجد يوسف زيدان يفتتحُ بعضًا من كُتُبه بترانيم:
“الحرفُ سرٌّ رهيبٌ، لو ظهر
دوَّامات التَّدين، يوسف زيدان
لانهار الجِدَارُ وانبهر
الهادئُ والهانئُ والهائمُ والمقدَّرُ والمحتقر
ولَعَرفَ البشر
أن الحرفَ بحرٌ يدورُ بمحوره بئرٌ بغير قَعْرٍ أو مُستقر
واردُهُ يشربُ وربما يغرقُ
أو يُروَى
أو ينفجر
الحروفُ مِشرطٌ رهيفٌ لجراحٍ يُريح
أو يُردى
يَرْفع، أو يُزرى
وهو يرومُ، فيقتَدِر”
ونجدُ بثينة العيسى تُسمِّي كتابها “حاء”، وتقول فيه:
أحاول أن أتذوق كل حرفٍ على حدة، تفتنني قدرة الحرف على تولیدالكلمات. وأعرفُ بأنه مجرد صوت، تردّدات وذبذبات تنتشرُ في الفضاء، إلا أنَّ في وسعه أن یعكس الفكرة ویصنع الشعور. هل تساءلتَ مرة، لماذا كلما لحقت الهاء بالجیم، قسى المعنى؟ (جهد، جهل، جهم، جهش، جهنم، جهبذ.. ). هل
حاء، بثينة العيسى.
تساءلت من أین لحرف السین كل هذه القدرة على السیلان، ولماذا یشبه السؤال والسلوى؟ أنا لا أفهمُ ما یحدث هناك تحدیدًا، كیف یمكنك أن تضع صوتًا بجانب آخر وتشهد ولادة كلمة، وفي الكلمة ترى ألف كلمة أخرى. أریدُ أن أتهجأ الشّجن. الشین شِعر، الجیمُ جُب، النون نوى. أرید أن أتهجأ الوردة. الواو وُد. الراء رقة. الدالُ دلیل، التاءُ المربوطة
هي تلویحُ الید الأخیرة.
أرید أن أتهجأ الحنین. الحاءُ حرقة، النون نبع، الیاءُ ید.
أرید أن أمضي أیامي هكذا، أستخرج من كل كلمة، كلمات، أفكّك بها
شفرة الكون، وأفهم العالم.
إنَّه لمُبهرٌ كيف تكون اللغة شاعريَّة، ومعبِّرةً في ذاتها عن شاعريَّة المعاني، ومن المبهر قُدرة البشر على التقاطها، ومن الغريب والداعي للتساؤل: كيف تجعلنا اللغة نعبِّر عن مفاهيم جديدة لم نكن نعي وجودها؟ هل اللغة خلاقة للمعاني؟ أم أن المعاني تسكن القوالب في أوقات معينة؟ كيف يتطور وعينا نحن ككائنات تستعمل اللغة؟ بمفاهيم جديدة؟ وكيف يمكننا التعبير عن مفاهيم معقدة على مرِّ العصور؟
هامش
(1): مقال: “يوسف زيدان وحنين حائم حول حرف الحاء” د. ياسر منجي. (بتصرُّف).
مصادر
_ إشكالية زيادة المبنى ودلالتها على زيادة المعنى/ دراسة تطبيقية على السين وسوف في القرآن الكريم
_ مقال: “يوسف زيدان وحنين حائم حول حرف الحاء” د. ياسر منجي.
_ ويكيبيديا.
_ كتاب “حاء”. بثينة العيسى.
_ كتاب “الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية، تاريخ اللغة العربية”. جرجي زيدان.
إعداد وتدقيق: منال بوخزنة.