لاحظ عديد المعلقين الليبراليين واليساريين كيف أن وباء فيروس الكورونا يعمل على تبرير تدابير السيطرة والتنظيم وإضفاء الشرعية عليها، وهي التي لم يكن من الممكن التفكير فيها حتى الآن في مجتمع ديمقراطي غربي. ألا يُعدُّ الإغلاق التام لإيطاليا حلمًا استبداديًّا تحقّق؟ لا عجب في أن الصين (على الأقل كما تبدو الآن) أثبتت، وهي التي مارست بالفعل أساليب رقابة اجتماعية رقمية، أنها مجهّزة بشكل أفضل لمواجهة الأوبئة الكارثية. هل هذا يعني أن الصين هي مستقبلنا في بعض الجوانب على الأقل؟ هل نقترب من حالة استثنائية عالمية؟ هل اكتسبت تحليلات جورجيو أغامبين حقيقة جديدة؟
ليس مفاجئا وصول أغامبين نفسِه لهذا الاستنتاج، لقد تفاعل مع فيروس الكورونا بطريقة مختلفة جذريًّا عن غالبية المعلقين. واستنكر “إجراءات الطوارئ المحمومة وغير المنطقية وغير المبررة على الإطلاق التي تم تبنيها لوباء مفترض من الفيروسات التاجية”، وهو مجرد نسخة أخرى من الإنفلونزا، وسأل: “لماذا تبذل وسائل الإعلام والسلطات قصارى جهدها لخلق مناخ من الذعر، وبالتالي إثارة حالة استثناء حقيقية، مع قيود شديدة على الحركة وتعليق الحياة اليومية وأنشطة العمل لمناطق بأكملها؟ “
يرى أغامبين أن السّببَ الرئيسي لهذا “الرد غير المتناسب” يكمن في “الميل المتزايد لاستخدام حالة الاستثناء كنموذج تحكم طبيعي”. تسمح التدابير المفروضة للحكومة بتقييد حرياتنا بشكل خطير بموجب مرسوم تنفيذي: “من الواضح بشكل صارخ أن هذه القيود لا تتناسب مع التهديد الذي تشكله أنفلونزا طبيعية -وفقًا لمركز الإنصاف النرويجي- لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تؤثر علينا كل عام. / … / يمكنا القول أن ذريعة الإرهاب لم تعد صالحةً كمبرّر لاتّخاذ تدابير استثنائية، لهذا يمكن لوباء مُخترَع أن يوفّر الذريعة المثالية لتوسيع نطاق هذه التدابير بما يتجاوز أيَّ قيود. والسّبب الثاني هو “حالة الخوف التي انتشرت في السنوات الأخيرة في شكل وعي فردي والذي تُرجم إلى حاجة حقيقية لحالات الذعر الجماعي، وهنا، مرة أخرى، يعد الوباء ذريعة مثالية”.
يصف أغامبين جانبًا مهمًّا من طريقة سيطرة الدولة على الأوبئة الجارية. ولكن هناك أسئلة لا تزال مفتوحة دون إجابة: لماذا تهتم السلطة بتعزيز مثل هذا الذعر، الذي يصاحبه عدم ثقة المواطنين فيها “إنهم عاجزون، لا يفعلون ما يكفي، …” والذي يعيق التكاثر السلس لرأس المال؟ هل من مصلحة رأس المال وسلطات الدول أن تثير أزمة اقتصادية عالمية من أجل تنشيط حكمها؟ هل الإشارات الواضحة التي تشير إلى أنّ سلطات الدّول نفسها، على غرار المواطنين العاديين، تعيش حالة عذر، مدركةً تمامًا عدم قدرتها على السيطرة على الوضع- هل هذه العلامات هي مجرد خدعة؟
ردُّ فعل أغامبين هو الشّكل المتطرّف لموقف يساريٍّ واسع الانتشار لقراءة “الذعر المبالغ فيه” الناجم عن انتشار الفيروس كمزيج من ممارسة السلطة للسيطرة الاجتماعية وعناصر العنصرية الصريحة (“نلوم الطبيعة أو الصين”). ومع ذلك، فإن مثل هذا التفسير الاجتماعي لا يجعل حقيقة التهديد تختفي. هل يجبرنا هذا الواقع على تقييد حرياتنا بشكل فعّال؟ بالطبع، الحجر الصحي والتدابير المماثلة تحدّ من حريتنا، لذا هنالك حاجة إلى الكثير من أمثال جوليان أسنج لإظهار سوء استخدامها المحتمل. لكن مع ذلك، فإن تهديد العدوى الفيروسية أعطى دفعة هائلة لأشكال جديدة من التضامن المحلي والعالمي، بالإضافة إلى أنه أوضح الحاجة للسيطرة على السّلطة نفسها. النّاس على حق في تحميل السلطات المسؤولية: لديك القوة، الآن أظهر ما يمكنك القيام به! التحدي الذي تواجهه أوروبا هو إثبات أنّ ما فعلته الصين يمكن أن يتم بطريقة أكثر شفافية وديمقراطية:
اتّخذت الصين تدابير من غير المرجح أن تتحملها أوروبا الغربية والولايات المتحدة، ربما على حسابها الخاص. بصراحة، من الخطأ تفسير جميع أشكال الاستشعار والنمذجة بشكل انعكاسي على أنها “مراقبة” والحكم النشط على أنه “تحكم اجتماعي”. نحن بحاجة إلى مفردات مختلفة وأكثر دقة للتدخل “
كل شيء يتوقف على هذه “المفردات الأكثر دقة”: لا يجب أن تُختزل الإجراءات التي يتطلبها الوباء تلقائيًّا في النّموذج المعتاد للمراقبة والتحكم الذي ينشره مفكرون مثل فوكو. ما أخشاه اليوم أكثر من الإجراءات التي تطبقها الصين (وإيطاليا و …) هو أنها تُطبّق هذه الإجراءات بطريقة لن تعمل على احتواء الوباء، في حين أن السلطات ستتعامل مع البيانات الحقيقية وتخبّئُها.
يرفض كل من اليمين البديل واليسار المزيف قبول الواقع الكامل للوباء، حيث يقوم كل منهما بتخفيفه في ممارسة الحد من البناء الاجتماعي، أي شجبِه نيابة عن معناه الاجتماعي. يصرّ ترامب وأنصاره مرارًا وتكرارًا على أن الوباء هو مؤامرة من قبل الدّيمقراطيين والصّين لجعله يخسر الانتخابات المقبلة، في حين أن بعض اليساريين ينددون بالإجراءات التي اقترحتها الدولة والأجهزة الصّحية ويرون أنها تشوبها كراهية الأجانب، وبالتالي يصرون على المصافحة، وما إلى ذلك. هذا الموقف يخطئ المفارقة: عدم المصافحة والخوض في عزلة عند الحاجة هو شكل من أشكال التضامن اليوم.
من له اليوم إمكانية مصافحة ومعانقة الغير؟ إنهم أصحاب الامتيازات. يتألف كتاب بوكاتشيو “ديكاميرون” من قصص ترويها مجموعة من سبع شابات وثلاثة شبّان يحتمون في فيلا منعزلة خارج فلورنسا مباشرة هربا من الطاعون الذي أصاب المدينة. ستنسحب النخبة المالية إلى مناطق منعزلة وترفّه عن نفسها هناك لتروي القصص بأسلوب ديكاميرون. (يسافر الأثرياء بالفعل بطائرات خاصة إلى جزر صغيرة حصرية في منطقة البحر الكاريبي). بينما نحن، الناس العاديون، سيتعيّن علينا العيش مع الفيروسات، نحن الذين يردّدون علينا الصّيغة المتكررة بلا نهاية “لا داعي للذعر!” … ثم نحصل على جميع البيانات التي لا يمكن إلا أن تثير الذعر. يشبه الوضع ما أتذكره من شبابي في بلد شيوعي: عندما أكد المسؤولون الحكوميون للجمهور أنه لا يوجد سبب للذعر، أخذنا جميعًا هذه التأكيدات كعلامات واضحة على أنهم في حالة ذعر.
لكنّ الذعر ليس طريقة مناسبة لمواجهة تهديد حقيقي. عندما نتفاعل في حالة من الذعر، لا نأخذ التهديد على محمل الجد. نحن ، على العكس من ذلك، نستهين به. ما عليك سوى التفكير في مدى سخافة الشراء المفرط للفافات ورق التواليت: كما لو كان وجود ما يكفي من ورق التواليت أمرًا مهمًّا في خضمّ وباء مميت … لذا، ما هو ردّ الفعل المناسب لفيروس الكورونا؟ ما الذي يجب أن نتعلمه وما الذي يجب علينا فعله لمواجهته بجدية؟
عندما اقترحت أن فيروس الكورونا قد يعطي دفعة جديدة للحياة للشيوعية، كان مطلبي، كما هو متوقع، محطَّ سخرية. على الرغم من أنه يبدو أن نهجًا قويًّا تجاه الأزمة من قبل الدولة الصينية قد نجح -على الأقل أنها عملت بشكل أفضل بكثير مما يحدث الآن في إيطاليا- إلّا أنّ المنطق الاستبدادي القديم للشّيوعيّين في السّلطة أظهر أيضًا حدوده بوضوح. كان أحدها أن الخوف من نقل الأخبار السيئة إلى من هم في السلطة (والجمهور) يفوق النتائج الفعلية. كان هذا سبب اعتقال أولئك الذين أبلغوا عن فيروس جديد لأول مرة وهناك تقارير عن حدوث شيء مشابه الآن:
إن الضّغط لإعادة الصين إلى العمل بعد التوقف بسب فيروس الكورونا يؤدي إلى إحياء إغراء قديم: بيانات التطبيب، التي تُظهر لكبار المسؤولين ما يريدون رؤيته. هذه الظاهرة تنتشر في مقاطعة تشجيانغ، المركز الصناعي على الساحل الشرقي، في شكل استخدام الكهرباء. وفقًا لأشخاص مطلعين على الأمر، هناك ثلاث مدن على الأقل أعطت مصانع محلية أهدافًا لضربها لاستهلاك الطاقة لأنها تستخدم البيانات لإظهار عودة الإنتاج. وهذا ما دفع بعض الشركات إلى تشغيل الآلات حتى مع بقاء مصانعها فارغة.
يمكننا أيضًا تخمين ما سيحدث عندما يلاحظ من هم في السلطة هذا الغش: سيتم اتهام المديرين المحليين بالتخريب وستطالهم المعاقبة الشديدة، وبالتالي إعادة إنتاج حلقة عدم الثقة المفرغة … ستحتاج الصين لجوليان أسانج صيني ليكشف للجمهور هذا الجانب المخفي عن كيفية تعامل الصين مع الوباء. لذا، إذا لم تكن هذه الشيوعية التي أفكر فيها، فماذا أعني بالشيوعية؟ لفهم ما أقصده، يكفي قراءة الإعلانات العامة لمنظمة الصحة العالمية. هنا آخرها:
المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس قال يوم الخميس، أنّه على الرغم من أن سلطات الصّحة العامة حول العالم تمتلك القدرة على محاربة انتشار الفيروس بنجاح، فالمنظمة قلقة من أن مستوى الالتزام السياسي في بعض الدول لا يتماشى مع مستوى التهديد. يقول تيدروس: “هذا ليس تدريبا. هذا ليس الوقت المناسب للاستسلام. هذا ليس وقتا للأعذار. هذا وقتٌ لسحب كل المثبّطات. لطالما خططت الدول لمثل هذه السيناريوهات لقرون. الآن حان الوقت للعمل على تلك المخططات، يمكن جعل هذا الوباء يتراجع، لكن فقط من خلال منهجية جماعية منسقة وشاملة تُشرك الجهاز الحكومي بأكمله”.
قد يضيف أحدٌ أنّ مثل هذه المنهجية الشاملة يجب أن تصل لما هو أبعد من آلية الحكومات المنفردة: يجب أن تشمل التعبئة المحلية للأشخاص خارج سيطرة الدولة، وكذلك تنسيقا وتعاونا دوليا قويا وفعالا. إذا تم إدخال الآلاف إلى المستشفيات بسبب مشاكل تنفسية، فستكون هناك حاجة لزيادة واسعة في عدد آلات التنفس، وللحصول عليها، على الدولة مباشرة أن تتدخل بنفس الطريقة التي تتدخل بها في ظروف الحرب عند الحاجة إلى آلاف الأسلحة. ويجب أن تعتمد على التعاون مع دول أخرى. كما هو الأمر في الحملات العسكرية، يجب تبادل المعلومة، وعلى الخطط أن تكون منسقة بالكامل -هذا ما أعنيه بـ “الشيوعية” التي نحتاجها اليوم، أو كما قال ويل هوتون: “الآن شكلٌ من أشكال عولمة السوق الحرة، غير المنظمة، مع نزوعها للأزمات والجائحات، يحتضر بالتأكيد، ولكن يولد شكل آخر يعترف بالاعتماد المتبادل (الترابط) وأولوية العمل الجماعي القائم على الأدلة“. ما لايزال مهيمنا الآن هو موقف “كل دولة لنفسها”: هناك تحريمات دولية على صادرات المنتجات الرئيسية مثل المعدات الطبية، مع رجوع الدول عن تحليلاتها الخاصة للأزمة وسط النقص المحلي والعشوائي، ومناهج أولية للاحتواء.
وباء فيروس الكورونا لا يشير فقط إلى حدّ عولمة السوق، بل يشير أيضا إلى الحدّ الأكثر فتكًا للشعبوية القومية، الذي يلّحُ على السيادة الكاملة للدولة. لقد انتهى الأمر مع “أمريكا (أو أيّا يكن) أولا!” لأنه لا يمكن إنقاذ أمريكا دون التنسيق والتعاون العالمي. أنا لستُ طوباويا* هنا. أنا لا أناشد تضامنا مثاليّا بين الناس. على العكس، الأزمة الحالية تُظهرُ بوضوح كيف أن التضامن العالمي والتعاون هو في مصلحة بقاء كل منا وبقائنا جميعا، وكيف أنه الأمر العقلاني الوحيد والأناني للقيام به. والأمر لا يقتصر فقط على فيروس الكورونا: الصين نفسها عانت من أنفلونزا خنازير عملاقة، منذ أشهر مضت، وهي الآن مهددة بغزو الجراد. إضافة إلى ذلك، كما أشار أوين جونز، أزمة المناخ تقتل العديد من الناس حول العالم أكثر مما يفعل فيروس الكورونا، ولكن لا يوجد هلع حول ذلك…
من وجهة نظر موقف حيوي ساخرة، قد يميل المرء لرؤية فيروس الكورونا كعدوى مفيدة، تسمح للبشرية بالتخلص من كبير السن، الضعيف والمريض، مثل سحب نصف عشبة فاسد، وبالتالي يساهم في الصحة العالمية. النهج الشيوعي الواسع الذي أدافع عنه هو طريقنا الوحيد لنخلّف وراءنا هذا الموقف الحيوي البدائي. إن إشارات تقليص التضامن اللامشروط واضحة بالفعل في الجدالات الجارية. كما في الملاحظة التالية حول دور “الحكماء الثلاثة”، إذا أخذ الوباء منعطفا أكثر كارثية في المملكة المتحدة: “حذر كبار الأطباء من أن مرضى هيئة الخدمات الصحية الوطنية قد يُحرمون من الرعاية الصحية المنقذة لحياتهم أثناء التفشي الحاد لفيروس الكورونا في بريطانيا إذا كانت وحدات العناية المركزة تكافح للمقاومة. تحت ما يسمى بروتوكل “الحكماء الثلاثة”، ثلاثة من كبار الاستشاريين من كل مستشفى سيكونون مضطرين لاتّخاذ قرارات لترشيد الرعاية كأجهزة التنفس الاصطناعية والأسرّة، في حالة اكتظاظ المستشفيات بالمرضى.“ ما هي المعايير التي سيعتمد عليها “الحكماء الثلاثة”؟ التضحية بالأضعف والأكبر؟ ألن يفتح هذا الوضع المجال لفساد هائل؟ ألا تشير هذه الإجراءات إلى أننا نستعد لتشريع المنطق الأكثر وحشية للبقاء للأصلح؟ لذا، مرة أخرى، إن الخيار النهائي هو إما هذا أو نوع من الشيوعية المعاد ابتكارها.
ولكن الأمور تسير بشكل أعمق من ذلك بكثير، ما أجده مزعجا بشكل خاصّ هو كيف أن وسائل الإعلان لدينا، عندما تقوم بالإعلان عن إغلاق أو إلغاء معيّن، فإنها، كقاعدة، تضيف قيودا زمنيّة ثابتة: كصيغة “سيتم إغلاق المدارس حتى الرابع من شهر أفريل”. التوقع الكبير هو أنه بعد الذروة والتي ينبغي أن تصل سريعًا، ستعود الأمور إلى طبيعتها. في هذا المشهد، قد أُعلمت بالفعل أنه قد تم تأجيل ندوة جامعية إلى غاية شهر سبتمبر… المشكلة هو أنه، حتى عندما تعود الحياة إلى طبيعتها في نهاية المطاف، فإنها لن تكون نفس الحياة الطبيعية التي اعتدناها قبل تفشي المرض: الأشياء التي اعتدناها كجزء من حياتنا اليومية لن تكون مضمونة بعد الآن؛ سيكون علينا أن نتعلم العيش في حياة أكثر هشاشة مع وجود تهديدات ثابتة كامنة خلف الزاوية.
لهذا السبب، يمكننا أن نتوقع أن الأوبئة الفيروسية سوف تُؤثر على أكثر تفاعلاتنا الأساسية مع الأشخاص والأشياء الأخرى حولها، بما في ذلك أجسامنا: تجنب لمس الأشياء التي قد تكون (بشكل غير مرئيّ) “قذرة”، لا تلمس المشابك، لا تجلس في دورات المياه العمومية أو على المقاعد في الأماكن العامة، تجنب معانقة الآخرين ومصافحة أيديهم… وكن حذرا حتى بشأن كيف تتحكم في جسدك وحركاتك العفوية: لا تلمس أنفك أو تحك عينيك- باختصار، لا تعبث مع نفسك. لذا، ليست الدولة وحدَها والوكالات الأخرى من ستتحكم فينا؛ علينا أن نتعلم كيف نتحكم ونضبط أنفسنا! ربما، وحده الواقع الافتراضي ما سُيعتبر آمنا، والتحرك بحرية في فضاء مفتوح سيكون حكرا على الجزر المملوكة من طرف فاحشي الثراء.
لكن حتى هنا، على مستوى الواقع الافتراضي والأنترنت، علينا أن نذكّر أنفسنا أن مصطلح “فيروس” و”فيروسي”، في القرون الأخيرة كان يُستعمل بشكل أكبر للإشارة إلى الفيروسات الرقمية التي كانت تصيب فضاء الواب الخاص بنا والتي لم نكن واعين بها، على الأقل إلى أن تم إطلاق العنان لقوّتها التدميرية (لنقل وتدمير بياناتنا أو أقراصنا الصّلبة). ما نراه الآن هو عودة كبيرة للمعنى الحرفيّ الأصليّ للمصطلح: العدوى الفيروسية تعمل يدا بيد في كلا البُعدين، الواقع والافتراض.
لذا، سينبغي علينا أن نغير وضعنا الكامل تجاه الحياة، تجاه وجودنا ككائنات حية وسط أشكال الحياة الأخرى. بكلمات أخرى، إذا فهمنا “الفلسفة” كتسمية لتوجهنا الأساسي في الحياة، سيكون علينا أن نخوض ثورة فلسفية حقيقية. ربما يمكننا أن نتعلم شيئا ما عن تفاعلاتنا مع وباء فيروس الكورونا من إليزابيث كوبلر روس التي، في كتابها “عن الموت والموت”، اقترحت المخطط الشهير للمراحل الخمسة لكيفية تفاعلنا حيال معرفتنا بأننا نمتلك مرضا عضالا: إنكارٌ (يرفض المرء ببساطة تقبل الحقيقة: “هذا لا يمكن أن يحدث، ليس معي.”)؛ غضبٌ (والذي ينفجر عندما لا يعود بإمكاننا إنكار الحقيقة: “كيف يمكن أن يحدث هذا معي؟”)؛ مساومةٌ (الأمل في أن نتمكن من تأجيل الحقيقة أو تخفيفها: فقط دعني أعيش لأرى أولادي يتخرجون.”)؛ اكتئابٌ (خمود الرغبة: “سوف أموت، لماذا أتكبّد عناءً مع أي شيء؟”)؛ تقبّلٌ (لا يمكنني محاربته، قد يمكنني على الأقل الاستعداد له.”). لاحقا، كوبلر روس، طبقت هذه المراحل على أيِّ خسارة شخصية كارثية (بطالة، وفاة أحد الأحبة، طلاق، إدمان مخدرات)، وقد أكدت أيضا أنهم قد لا يأتون بالضرورة بنفس الترتيب ولا يخوض جميع المرضى جميع المراحل الخمس.
بإمكاننا تمييز المراحل الخمسِ ذاتِها حينما يواجه المجتمع أمرا صادما. لنأخد تهديد الكارثة البيئية على سبيل المثال: أولاً نميل إلى إنكارها ( إنه ذعر فحسب، ما يحدث هو فقط تقلبات مناخية معتادة) ثم يأتي الغضب (على الشركات الكبرى التي تلوث بيئتنا وعلى الحكومة التي تتجاهل المخاطر) تليه المساومة (إذا أعدنا تدوير مخلفاتنا بإمكانا كسب بعض الوقت؛ بالإضافة إلى وجود جوانب إيجابية لهذا: بإمكاننا زراعة خضروات في جزيرة غرينلند، ستكون السفن قادرة على نقل البضائع من الصين إلى الولايات المتحدة أسرع بكثير على الطريق الشمالي، وبسبب ذوبان التربة الصقيعية فإن أراضي جديدةً تصبح متاحة شمال سيبيريا)، متبوعة بالاكتئاب (لقد فات الأوان)، وأخيراً التّقبل: نحن نتعامل مع تهديد خطير وسنكون بحاجة لتغيير طريقة عيشنا بالكامل!
والأمر نفسه بالنسبة للتهديد المتنامي للسيطرة الرقمية على حياتنا: أوّلا، نميل إلى الإنكار (إنها مبالغة، جنون شك وارتياب يساري، لا يمكن لأي وكالة السيطرة على نشاطاتنا اليومية)، ثم ننفجر غضبًا (على الشركات الكبرى ووكالات الدولة السرية التي تعرف عنا أكثر مما نعرفه عن أنفسنا وتستخدم هذه المعرفة للسيطرة علينا والتلاعب بنا)، تليه المساومة (السلطات لديها الحق بتقصي أثر الإرهابيين ولكن ليس لديها الحق بانتهاك خصوصيتنا)، ثم الاكتئاب (لقد فات الأوان، خسرنا خصوصيتنا، ووقت الحرية الشخصية قد ولّى) وأخيراً التقبل: السيطرة الرقمية هي تهديد لحريتنا؛ يجب أن نقوم بتوعية العامة بأبعادها وأن يساهموا في محاربتها!
ينطبق الأمر نفسه في حقل السياسة على أولئك المصدومين من رئاسة ترامب: أوّلاً، كان هناك إنكار (لا تقلقوا، ترامب يتبجح فحسب، لن يتغير شيء حقّا إذا تولّى السلطة)، متبوعا بالغضب (على قوى الظلام التي مكنته من تولي السلطة وعلى الجمهوريين الذي يدعمونه ويشكلون تهديدا لأخلاقياتنا..)، ثم المساومة (لم نخسر كل شيء بعد، ربما يمكن احتواء ترامب، لنتسامح فقط مع بعض من تجاوزاته)، يليها الاكتئاب (نحن في طريقنا نحو الفاشية وضياع الديمقراطية في الولايات المتحدة)، وأخيراً التقبل: يوجد نظام سياسي جديد في الولايات المتحدة، انتهت أيام الديمقراطية الأمريكية القديمة، لنواجه الخطر ونخطط بهدوء لطريقة تمكننا من التغلب على شعبوية ترامب… في القرون الوسطى، كانت ردة فعل سكان مدينة انتشر فيها الطاعون بنفس الطريقة: أوّلاً الإنكار متبوعا بالغضب (على حياتنا المليئة بالذنوب والتي نعاقَب عليها أو حتى على إلهنا القاسي الذي سمح للأمر بالحدوث)، تليه مرحلة المساومة (ليس الأمر بذلك السوء، لنبتعد عن أولئك المصابين فحسب..)، ثم الاكتئاب (انتهت حياتنا)، ثم الانغماس باللهو على نحو مثير للاهتمام (بما أن حياتنا انتهت، لنستمتع بكل الملذّات التي مازالت ممكنة -الشرب، الجنس..) وأخيراً القبول: ها نحن ذا، لنتصرف كما لو أن الحياة تمضي بشكل طبيعي قدر المستطاع… هل هذه هي طريقة تعاملنا مع وباء كورونا المستجد الذي بدأ تفشيه في نهاية 2019؟
أوّلاً: كان هنالك إنكارٌ (لا يحدث أمر خطير، بعض الأفراد غير المسؤولين ينشرون الهلع)، ثم الغضب (عادةً بشكل عنصري أو مناوئ للحكومة من قبيل: الصينيون القذرون مذنبون، حكومتنا ليست ذات كفاءة…)، تليه مرحلة المساومة (حسناً، يوجد بعض الضحايا، لكنه أقل خطورة من فايروس سارس، ويمكننا تقليص حجم الضرر)، وإذا لم تنفع تلك الوسائل يبدأ الاكتئاب بالظهور (لا داعي لخداع أنفسنا، لقد انتهى أمرنا). لكن كيف سيبدو القبول هنا؟ من الحقائق الغريبة أن الوباء يعرض ميزة مشتركة بينه وبين الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة (في فرنسا، في هونغ كونغ..) : إنها لا تندلع ثم تنتهي: بدلاً عن ذلك تبقى هنا وتستمر فحسب. جالبة الخوف الدائم والضعف لحياتنا. لكن هذا القبول يمكن أن يسلك اتجاهين. يمكن أن يعني إعادة تطبيع المرض: حسناً، سيموت الناس لكن الحياة ستستمر، وربما سيكون هنالك بعض الجوانب الإيجابية… أو قبول يمكن (ويجب) أن يدفعنا لتحريك أنفسنا للتعامل بتكافل جماعي بدون هلع وأوهام.
يجب أن نتصالح مع أنفسنا فيما يجب علينا تقبله، بأن هنالك كائنات حية ميتة تتناسخ بغباء (الفيروسات) والتي لطالما كانت هنا وستبقى دائماً معنا كظل معتم، تظهر حينما لا نتوقع ظهورها، مشكّلة تهديدًا لنجاتنا. تذكرنا الأوبئة الفروسية بصورة عامة بالصدفة المحضة وعدم جدوى حياتنا، وبغض النظر عن مقدار العظمة الذي تبلغه البشرية، فإن كائنات طبيعية غبية مثل فايروس أو كويكب يمكن أن ينهي الأمر برمته. بالإضافة إلى الدرس الذي تقدمه البيئة بأننا “أي البشرية” ربما نساهم في هذه النهاية دون أن نعلم.
لتوضيح هذه النقطة، دعني أقتبس تعريفا شائعا: الفايروسات هي: أي عوامل معدية مختلفة، مجهرية عادةً تتكون من حمض نووي إما DNA أو RNA, داخل غلاف من البروتين، تصيب الحيوانات والنباتات والبكتيريا وتتكاثر داخل الخلايا الحية فقط، تعد الفايروسات وحدات كيميائية غير حية أو أحياناً كائنات حية، “هذا التقلب بين الحياة والموت أمر معقد؛ الفايروسات ليست حية وليست ميتة في المعنى المعتاد لهذه المصطلحات، إنهم الأحياء الأموات، الفايروس حيُّ نظرًا إلى قيامه بعملية الاستنساخ، لكن مستوى الحياة فيه صفر.
إنه كاركتير بيولوجي لا يقودنا للموت بقدر الحياة في أغبى مستوى لها من التكرار والتضاعف. أيًّا كان، الفايروسات ليست شكلا أوّليا من الحياة تطورت منه نماذج معقدة، إنها طفيلية، تستنسخ نفسها عبر إصابة كائنات حية متطورة أخرى (عندما يصيبنا فايروس نحن البشر نكون ببساطة آلاتها الطابعة). إنها بهذا التلازم من المتضادات _أولي وطفيلي _ الذي يبقي على لغز الفايروسات: إنهم حالة وصفها سكيلنغ (der nie aufhebbare Rest) تذكير بأدنى شكل للحياة ينشأ كمنتج من خلل في ميكانيكية أعلى من المضاعفة ويستمر بإلإصابة، وتذكير بأنه لا يمكن أن يعاد دمجه أبداً كلحظة تابعة لمستوى أعلى من الحياة.
وهنا نواجه ما يسميه هيجل “بالحكم المضارب” وهو تأكيد لهوية الأعلى والأدنى، أفضل مثال معروف لهيحل هو “الروح هي عظم” في تحليله للفرينولوجي في فينومينولوجيا الروح ومثالنا يجب أن يكون”الروح هي فايروس”. أليست روح الإنسان أيضا نوع من الفيروسات تتطفل على الحيوان البشري، تستغله لاستنساخها الذاتي وتهدد أحياناً بتدميره؟ وبقدر ما تكون أداةُ الروح هي اللّغةَ يجب أن لا ننسى بأن اللغة في أكثر مراحلها الأولية أيضاً شيء آلي يتضمن مجموعة من القواعد يجب علينا تعلمها واتّباعها.
ادّعى ريتشارد دوكينز بأن الأفكار هي فيروسات العقل، كائنات طفيلية تستعمر العقل البشري، تستخدمه كوسيلة لمضاعفة نفسها. إنها فكرة أنشأها ليو تولستوي. يعتبر تولستوي كاتبا أقل إثارة للاهتمام من دوستوفسكي، وهو واقعي عفا عليه الزمن ولم يعد هنالك مكان للحداثة في الأساس برأيه، على النقيض من المعاناة الوجودية لدوستوفسكي. ربما، مع ذلك، قد حان وقت رد اعتبار تولستوي الكامل، نظريته الفريدة للفن والإنسانية عامةً والتي نجد فيها أصداء أفكاردوكينز الخيالية “الفرد هو من أسلاف البشر مع عقل مصاب، مستضيف لملايين من التكافلات الثقافية، والعوامل المساعدة الرئيسية لها هي الأنظمة التكافلية المعروفة باللغات” هل هذه الفكرة من دينيت وليست من تولستوي؟ التصنيف الأساسي لانثربولوجية تولستوي هي العدوى: الإنسان بيئة فارغة سلبية متأثرة بعناصر ثقافية مثل العصيات المعدية حين تنتشر من فرد لآخر. وتولستوي يشرح الأمر هنا حتى النهاية: إنه لا يقابل انتشار العدوى الوجدانية هذا باستقلال روحي صحيح، إنه لا يقترح رؤية بطولية بتثقيف شخص ليكون مادة ناضجة ومستقلة وأخلاقية عن طريق التخلص من العصيات المعدية، الصراع الوحيد هو الصراع بين الخير والشر، المسيحية نفسها هي عدوى، وبالنسبة لتولستوي هي عدوى جيدة.
ربما هذا أفضل ما يمكننا تعلمه من الجائحة الفيروسية الحالية، حينما تهاجمنا الطبيعة بالفيروسات إنها بطريقة ما تعيد رسالتنا إلينا. الرسالة هي: أفعل بك الآن ما فعلته بي.
مترجم عن المقال الأصلي: من هنا.
*طوباويّ: رَجُلٌ طُوبَاوِيٌّ : مَنْ يُحَلِّقُ بَعِيداً وَيُنْشِئُ مُثُلاً وَيَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِهَا وَهِيَ بَعِيدَةٍ عَنِ الوَاقِعِ (قاموس المعاني)
ترجمة: بشرى بوخالفي، منال بوخزنة، سماح صلاح.
تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.