هذه العاصفة لن تدوم. لكن الاختيارات التي نقوم بها الآن قد تؤثر على حياتنا في السنين القادمة.
تواجه البشرية في هذه اللحظة أزمة عالمية. وربما الأزمة الأكبر في جيلنا. فالقرارات التي ستتخذها الحكومات والأفراد في الأسابيع القادمة ستقوم على الأغلب بتحديد شكل العالم لسنين قادمة. فهذه القرارات لن تحدد شكل نظامنا الصحي فقط، لكن أيضاً اقتصادنا، سياستنا، وثقافتنا. علينا أن نتصرف بشكل سريع وحازم. وعلينا أن نأخذ في عين الاعتبار الآثار بعيدة المدى لأفعالنا. عند اختيارنا للبدائل، يجب أن نتساءل ليس فقط عن كيفية تجاوزنا لهذه الأزمة الراهنة، بل أيضاً عن شكل العالم الذي ننوي أن نعيش فيه بعد انتهاء هذه العاصفة. نعم، هذه العاصفة ستزول، البشرية ستنجو، وأغلبنا سيبقى حياً – ولكننا سنعيش في عالم مختلف.
العديد من الإجراءات الطارئة والمؤقتة ستصبح دائمة وحتمية في حياتنا. فهذه هي طبيعة الحالات الطارئة. فهي تسرع الآليات أو العمليات التاريخية. القرارات التي تأخذ في الأيام العادية سنواتٍ من التشاور، يتم تقريرها في ظرف ساعات. ولأن مخاطر عدم القيام بأي شيء أكبر، يتم رمي تقنيات غير ناضجة أو حتى خطرة في حيّز التنفيذ. دول بأكملها تصبح خنازير اختبار لتجارب اجتماعية على نطاق واسع. فماذا يحدث عندما يعمل الجميع من بيوتهم ويتواصلون فقط عن بعد؟ ماذا يحدث عندما تنتقل مدارس وجامعات بأكملها إلى التدريس الرقمي؟ ففي أوقات طبيعية، لن تقوم الحكومات، أو المؤسسات المالية أو الهيئات التدريسية بالموافقة على مثل هذه التجارب، لكن هذه ليست بأوقات طبيعية.
نحن نواجه خيارين مهمّين ومحدّدين في هذا الوقت المأزوم. الأول هو الخيار بين المراقبة الشُمولية “التوتاليتارية” وبين تمكين المواطن. والخيار الثاني هو بين العزلة الدولية وبين التلاحم الأممي.
المراقبة من تحت الجلد:
على جميع السكان الامتثال لبعض القوانين، لأجل إيقاف هذا الوباء. هناك طريقتان لتحقيق ذلك. الأولى هي أن تُراقب الحكومة الشعب، وتُعاقب أولئك الذين يخالفون القواعد. اليوم، ولأول مرة في تاريخ البشرية، يمكن مراقبة الجميع طوال الوقت بفضل التكنولوجيا الحديثة. لم تستطع الكي جي بي قبل خمسين سنة أن تراقب 240 مليون مواطن روسي لمدة 24 ساعة في اليوم، ولم يمكنهم حتى الحلم بمعالجة كل المعلومات التي يقومون بجمعها. فقد اعتمد الـ كي جي بي على عملاء ومحللين بشريين، ولم يستطيعوا زرع عميلٍ بشريّ كي يلاحق كل مواطن. أما الآن يُمكن للحكومات الاعتماد على المستشعِرات المنتشرة في كل مكان وعلى الخوارزميات الفائقة بدلاً من خيالات من لحم ودم.
فالعديد من الحكومات قامت بالفعل بنشر أدوات جديدة من المراقبة في إطار معركتهم ضد وباء الكورونا. وأكثر هذه الحالات تمّيزًا هي الصين. فعن طريق مراقبة دقيقة للهواتف الذكية الخاصة بالمواطنين، وباستخدام مئات ملايين من كاميرات التعرف على الوجه، وإلزام المواطنين بالتحقق والتبليغ عن درجة حرارتهم وحالتهم الصحية، فالحكومة الصينية لم تقم بتحديد الحالات المشتبه بحملها للفيروس بسرعة فقط، لكن قامت أيضاً بتتبع حركاتهم لتعيين أي شخص كان على تواصل معهم. بالإضافة إلى أعداد كبيرة من التطبيقات التي تُحذّر المواطنين من قربهم من أشخاص مصابين بالفيروس.
“الآن يمكن للحكومات الاعتماد على المستشعرات المنتشرة في كل مكان وعلى الخوارزميات الفائقة بدلاً من كيانات من لحم ودم”
هذا النوع من التكنولوجيا ليس حِكراً على شرق آسيا. فقد قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتخويل وكالة الأمن الإسرائيلية بتفعيل تكنولوجيا مراقبة كانت مخصصة في العادة لأجل محاربة “الإرهابيين” لتعقب “المصابين بفيروس كورونا”. وعندما رفضت اللجنة البرلمانية المسؤولة عن هذا الشيء السماح بهذا الأمر، قام نتنياهو بدفعها للتنفيذ مع “مرسوم الطوارئ”.
وقد تُجادل بأنه ليس هنالك شيء جديد في هذا. ففي السنوات الأخيرة قامت كل من الحكومات والشركات باستخدام العديد من التقنيات المعقدة لكي تتعقب، تراقب، وتتلاعب بالناس. ولكن إن لم نكن حذرين فإن هذا الوباء قد يكون نقطة تحوّل مهمة في تاريخ الرقابة. ليس فقط كونها ستجعل من الطبيعي نشر أدوات المراقبة واسعة النطاق في بلدان كانت تعارضها إلى اليوم، لكن لأنّها تُمثّل تحولا رهيبا من المراقبة “من فوق الجلد” إلى المراقبة “من تحت الجلد”.
فحتى هذه اللحظة، عندما يقوم إصبعك بلمس شاشة هاتف الذكي ويضغط على رابط ما، فالحكومة تريد أن تعرف ما الذي ضغطت عليه بالضبط. لكن مع فايروس كورونا، فقد تحوّل نطاق الاهتمام. فالآن الحكومة تريد أن تعرف درجة حرارة اصبعك وضغط الدم تحت جلدك.
حلوى الطوارئ:
إحدى الطوارئ التي نواجهها في العمل على موقفنا من المراقبة هي أنه لا أحد منا يعرف بالضبط كيف تتم مراقبتنا، وما قد تأتي به السنوات القادمة. تتطور تكنولوجيا المراقبة بسرعة فائقة، وما كان يبدو أنه خيال علمي قبل 10 سنوات هو اليوم أخبار قديمة. كتجربة فكرية، تخيل حكومة افتراضية تطلب من كل مواطن أن يرتدي سوارا بيولوجيا يراقب درجة حرارة الجسم ومعدل ضربات القلب على مدار 24 ساعة في اليوم. البيانات الناتجة يتمّ تجميعها ثم تحليلها بواسطة خوارزميات حكومية. ستعرف الخوارزميات إذا ما كنت مريضا حتى قبل أن تعرف أنت ذلك، وستعرف أيضا أين كنت ومن قابلت. على هذا النحو يمكن تقصير سلاسل العدوى بشكل كبير، وحتى قطعها تماما. إن مثل هذا النظام يمكن أن يوقف الوباء من خلال آثاره في غضون أيام. يبدو رائعا، أليس كذلك؟
الجانب السلبي من هذا، بالطبع، أنه سيعطي الشرعية لنظام مراقبة جديد “مرعب”. إذا كنت تعلم، مثلا، أنني نقرت على رابط فوكس نيوز بدلا من رابط سي أن أن، يمكن أن يُعلِمك شيئا عن آرائي السياسية وربما حتى شخصيتي. ولكن إذا تمكنت من مراقبة ما يحدث لدرجة حرارة جسدي وضغط دمي ومعدل ضربات قلبي أثناء مشاهدة مقطع الفيديو، فيمكنك معرفة ما الذي يجعلني أضحك، وما الذي يجعلني أبكي، وما الذي يجعلني غاضبا جدا جدا.
من المهم أن نتذكر أن الغضب والفرح والملل والحب هي ظواهر بيولوجية مثل الحمى والسعال. يمكن لنفس التكنولوجيا التي تُحدّد السعال أن تحدد الضحكات أيضا. إذا بدأت الشركات والحكومات في حصد بياناتنا البيومترية جميعا، فيمكنهم بذلك التعرف علينا على نحو أفضل بكثير مما نعرف أنفسنا، ومن ثم لا يمكنهم فقط التنبؤ بمشاعرنا ولكن أيضا التلاعب بها وبيعنا أي شيء يريدونه – سواء أكان ذلك منتجا أو سياسيّا. المراقبة البيومترية قد تجعل أساليب Cambridge Analytica لاختراق البيانات تبدو وكأنها شيء من العصر الحجري. تخيل كوريا الشمالية في عام 2030، عندما يضطر كل مواطن لارتداء سوار بيومتري على مدار 24 ساعة في اليوم. إذا استمعت إلى خطاب القائد العظيم والتقط السوار علامات مؤشرة على الغضب، فقد انتهى أمرك.
يمكنك، بالطبع، أن تجعل قضية المراقبة البيومترية بمثابة إجراء مؤقت يتم اتخاذه أثناء حالة الطوارئ، تزول حالما تنتهي حالة الطوارئ. لكن التدابير المؤقتة لها عادة مقرفة في الدوام بعد حالات الطوارئ، خاصة وأن هنالك دائما حالة طوارئ جديدة تكمن في الأفق. على سبيل المثال، أعلنت بلدي إسرائيل، حالة الطوارئ خلال حرب الاستقلال عام 1948، والتي بررت مجموعة من الإجراءات المؤقتة من الرقابة على الصحافة ومصادرة الأراضي إلى قوانين خاصة لصنع الحلوى (أنا لا أمزح). لقد تم كسب حرب الاستقلال منذ فترة طويلة، لكن إسرائيل لم تعلن أبدا انتهاء حالة الطوارئ، وفشلت في إلغاء العديد من الإجراءات “المؤقتة” لعام 1948 (تم إلغاء مرسوم الحلوى الطارئ في عام 2011).
حتى عندما تنخفض الإصابة بفيروس كورونا إلى الصفر، يمكن لبعض الحكومات المتعطشة للبيانات أن تجادل بأنها بحاجة إلى إبقاء أنظمة المراقبة البيومترية في مكانها لأنها تخشى حدوث موجة ثانية من فيروس كورونا، أو لأن هناك سلالة جديدة من فيروس إيبولا تتطور في وسط أفريقيا، أو لأن . . . لقد فهمتَ الفكرة. كانت هناك معركة كبيرة تدور رحاها في السنوات الأخيرة حول خصوصيتنا. قد تكون أزمة فيروس كورونا هي نقطة التحول في المعركة. فعندما يُتاح للأشخاص الاختيار بين الخصوصية والصحة، فإنهم عادة ما يختارون الصحة.
شرطة غسول اليدين:
أن تخيّر الناس بين العزلة والانفراد وبين صحتهم لهو صميم المشكلة. حيث أن هذا في الواقع تخييرٌ جد خاطئ، لأننا نستطيع في الحقيقة امتلاك كليهما، في آن واحد، دون حاجتنا للاختيار. نحن نستطيع الحفاظ على سلامتنا وردع هذه الجائحة من مواصلتها في التفشّي دون حاجتنا إلى تلك الرقابة الصارمة للأنظمة الشمولية، بل بحاجتنا إلى توعية المواطن. في الأسابيع القليلة الغابرة، كانت هناك أمثلة عديدة ناجعة عن احتواء الفيروس، والتي وصلنا صداها من بلدان مثل كوريا الجنوبية، تايوان، وسنغافورة، حيث أنه وبالرغم من اعتمادها على بعض أساليب التتبع، إلا أنّها اعتمدت على كمٍّ هائلٍ من الفحوصات والتبليغ الصادق من طرف المرضى واستعدادية مواطنين ذوي وعي كبير بطبيعة الفيروس، كافة، دون استثناء، إلى التكاتف والتلاحم.
الرقابة المركزية وفرض عقوبات قاسية ليسا السبيل الأوحد لضمان استجابة واعية من طرف المواطنين، فعندما تمنحهم، بكل شفافية، جل المعلومات العلمية الهامة، وتجعلهم يثقون فيما تقدمه لهم هذه السلطات العمومية، فإن المواطنين سيفعلون ما يجب عليهم فعله دون حاجتهم لـ “أخ أكبر” يراقب، بنظرات ثاقبة، كل تحركاتهم. ولك فقط أن تتأمل في تلك الحركة الصغيرة: غسل اليدين بالصابون، والتي تُعتبر، على صغرها وتفاهتها، من أعظم التطورات التي لمستها البشرية عندما يتعلق الأمر بالنظافة الشخصية، إنها تُنقذ ملايين البشر سنويا. تم اكتشاف هذه العادة الصغيرة فقط مؤخّرا، في القرن التاسع عشر، من قبل العلماء، فقبل ذلك، كان الأطباء والممرضون ينطّون من عملية إلى أخرى دون غسل أيديهم، ولك أن تتخيل تداعيات ذلك. أما اليوم، فمليارات الناس يعتمدون هذه العادة، وبشكل يومي، ليس لأنهم خائفون من شرطة غسول اليدين، ولكن لأنّهم يعُون جيّدا الحقائق. أنا أغسل يديّ لأني سمعت عن الفيروسات والبكتيريا، وأعي تماما الأمراض التي يمكن أن تطالني بسبب هذه الكائنات الصغيرة، وأعلم أيضا أن الغسول سيتخلص منها.
لكن، وحتى تصل لهذا المستوى من التواطؤ والتعاون والوعي، عليك أن تثق أولا. الناس الآن في أوج حاجتهم للوثوق بالعلم، بالسلطات العمومية، وبالإعلام. على مدى السنوات الماضية، قد لعب السياسيون دورا زلقا وغير مسؤول في تشويه ثقتنا بالعلم، بالسلطات العمومية وبالإعلام، الآن، ونفس هؤلاء الأشخاص، يمكن أن يتبادر إليهم أن يروّجوا لما هو أبعد وأعتى، وأن يتسلّقوا سلّم الحكم الاستبدادي مجادلين أنه لا يمكن الوثوق أبدا في أن يفعل العامة ما هو صائب.
إن الثقة التي تآكلت على مر السنين من الطبيعي أن يصعب استرجاعها بين عشية وضحاها، لكن هذه الأوقات التي نمر بها ليست أبدا بأوقات عادية، ففي حالة أزمات كهذه، يمكن للآراء أن تتغير بسرعة كذلك، إذ يمكن لك أن تدخل في نقاش عقيم مع إخوتك لسنوات، لكن عندما تقتحم طارئة ما حياتكم، سيظهر لك فجأة خزان من الثقة وروح المودة والإخاء، فتهرعون لمساعدة بعضكم البعض. فبدل أن تبني نظامَ مراقبةٍ متشدّدًا، لم يفت الأوان بعد لأن تقوم بترميم ثقة الناس المهترئة بالعلم، بالمؤسسات العمومية وبالإعلام. علينا كذلك استغلال ما نملكه من تكنولوجيا، شرط أن تُمكِّن المواطنين من المواجهة والتصدي للفيروس. أنا في صف أن تتم مراقبة حرارة جسدي وضغط دمي، لكني لست مع أن يتم استغلال هذه المعلومات لبناء سلطة قاهرة وقوية، إنَّما أنا مع أن أتمكن شخصيا من الإقدام على قرارات رزينة ومتوازنة، وكذا أن تتمكن هذه التكنولوجيات من تحميل السلطة مسؤولية قراراتها.
فإذا كان بإمكاني معرفة حالتي الصحية على مدار الساعة، يمكنني حينها إذا أن أعرف ما إن أصبحتُ خطرا صحيا على الآخرين وكذا معرفة ما هي تلك العادات التي أوصلتني لذلك. وعلاوة على هذا، فعندما يكون بإمكاني الولوج وكذا تحليل إحصائيات معتمدة عن مدى سعة انتشار فيروس كورونا، فهنا سأتمكن من الحكم عما إذا كانت السلطات تخبرني بالحقيقة وعما إذا كانت تتخذ الإجراءات اللازمة للتصدي للجائحة. ففي الغالب، وعندما يتم الحديث عن هكذا مراقبة، فيجب علينا أن نتذكر أنه، ومثلما تقوم الحكومات باستخدام هذه التكنولوجيات لمراقبة الأفراد، فإن الأفراد بإمكانهم، كذلك، مراقبة السلطات تباعا. وبالتالي يمكننا اعتبار أن هذه الجائحة هي تحدٍّ كبيرٌ في وجه المواطنة. في الأيام المقبلة، على كل فرد منا اختيار أن يثق بالمعطيات العلمية وبخبراء المنظومات الصحية على أن يستسلم لنظريات مؤامرة لا أساس لها من الصحة أو أقوال سياسيين عمتهم بصيرة خدمة مصلحتهم، وإذا فشلنا في اتخاذ القرار الصائب، فسنجد بأننا تخلينا عن أكثر حرياتنا قيمة ونحن نعتقد أننا نقوم بحماية صحتنا بدل عن ذلك.
نحتاج إلى خطة عالمية:
الخيار الثاني الأكثر أهمية والذي يجب علينا اتخاذه يقبع بين سياسة العزلة العالمية التي تنتهجها الدول الآن وبين التكاتف على نطاق عالمي بامتياز، إذ تعتبر كل من الجائحة والأزمة الاقتصادية المترتبة عنها مشاكل عالمية، وحلها يكمن في مواجهتهما على نحو فعال عن طريق اتحاد وتكاتف دولي لا غير.
بادئ ذي بدء، علينا نشر جل المعلومات الصحيحة غير المضللة عبر جميع أنحاء العالم، فهنا تقبع أفضلية واستعلاء البشر على هذا الفيروس، ففيروس كورونا في الصين وفيروس كورونا في الولايات المتحدة لا يمكن لهما مشاركة المعلومات عن كيف ينقلان العدوى للبشر، لكن، ومن الجهة المقابلة، يمكن للصين أن تمد الولايات المتحدة بمعلومات جد قيمة عن كيف يمكنها التعامل مع الفيروس والحد من انتشاره، وما اكتشفه طبيب في ميلان صباحا يمكن له أن ينقذ حيوات في طهران مع حلول المساء، وعندما تتردد المملكة المتحدة في أي من القرارات التي يجب عليها العمل بها، يمكن أن تستشير كوريا التي واجهت نفس المشكلة الشهر الفارط، لكن، ولكي يمكن أن يحدث هذا فعليا، على روح التكاتف، الثقة، والتعاون أن تعم حول العالم.
على الدول أن تكون على أتم الاستعداد لمشاركة المعلومات بكل انفتاح، وأن تطلب النصح بكل تواضع وأن تثق، كذلك، بما يقدم لها. علينا أيضا أن نبذل مجهودات عالمية جبارة في سبيل تصنيع وتوزيع الأجهزة الطبية، خاصة لوازم الفحوصات وأجهزة التنفس، فعوضا عن قيام كل دولة بهذا في شكل محلي منعزل يجردها من كل المعدات التي تملك، التكاتف العالمي سيسرع، بشكل عظيم، في تصنيع هذه المعدات حتى يتم انقاذ العديد من الناس وتوزيعها بشكل عادل. فمثلما تقوم الدول بتأميم قطاعات الصناعة المهمة خلال فترات الحرب، فحرب البشر ضد هذا الفيروس يمكن لها أن تحتاج ل “أنسنة” خطوط التصنيع المحورية. فدولة غنية وبحالات طفيفة للفيروس يمكنها أن تبعث بمعدات قيمة لدولة فقيرة بحالات ضخمة، مع ثقتها بالطبع، أنها وعندما تدخل في حالة نقص المعدات، ستتلقى نفس الدعم من دول أخرى.
يمكن لهذا أن يطال أيضا الطواقم الطبية، فالبلدان التي لا تملك نسبة ضخمة من المصابين يمكن لها أن ترسل طاقمها الطبي إلى البلدان الأكثر تضررا، وهذا لسبيين: حتى يقوموا بتقديم الإعانة اللازمة وكذا حتى يكتسبوا الخبرة، وكذا، إذا تغير توجه الجائحة إلى البلدان التي بعثت بطواقمها الطبية، يجب أن تتلقى نفس الدعم هي الأخرى.
التكاتف العالمي ضد الوباء وعلى الصعيد الاقتصادي أيضا مطلوب، وبشدة. إذ أنه وبالنظر إلى طبيعة الاقتصاد العالمي وسلاسل الإمداد، فإذا قامت كل حكومة بالتفرد في التصرف بغض النظر عن حكومات أخرى، سيودي هذا بنا، حتما، إلى انتشار الفوضى وتعميق الأزمة. نحن نحتاج إلى خطة موحدة وعالمية، ونحن بأمس الحاجة لها الآن وبسرعة.
هناك أيضا حاجة ماسة أخرى ألا وهي التوصل إلى اتفاقية عالمية تخص السفر، فتأجيل معظم الرحلات الدولية لأشهر سيتسبب في مصاعب جسيمة وسيعيق تغلبنا في الحرب ضد الفيروس. على البلدان أن تتكاتف لتسمح، على الأقل، لمجموعة من المسافرين المهمين أمثال العلماء، الأطباء، الصحفيين، السياسيين، ورجال الأعمال أن يتمكنوا من عبور الحدود. يمكن لهذا أن يحدث عن طريق التوصل إلى اتفاقية دولية لفحص هؤلاء المسافرين مسبقا في بلدهم الأصلي. فإذا كنت تعلم أن هؤلاء القادمين إلى بلادك قد تم فحصهم وهم لا يحملون الفيروس، فستكون أكثر تقبلا لاستقبالهم.
لكن، ولسوء الحظ، لا يتخذ أي بلد هذه الإجراءات حاليا، لقد أصاب المنظومة الدولية شللٌ مشتركٌ، لا يوجد هناك أي صدى لأفراد عقلاء في الضواحي. توقعت أن أرى، في ظرف أسابيع مضت، ملتقيات طارئة لقادة دوليين للتوصل لاتفاقية موحدة تعرج على ما ذكرناه آنفا. قد تمكن القادة السبعة من تنظيم ملتقى عن بعد، لكنه لم يسفر عن أية نتائج مرجوة.
في الأزمات السابقة (أزمة 2008 الاقتصادية وتفشي وباء الإيبولا سنة 2014)، تحلت الولايات المتحدة الأمريكية بصفة القائد الدولي، لكن السلطة الأمريكية الحالية قد تخلت عن صفة السيادة تماما، فقد اعترفت بوضوح كامل أنها تهتم بعظمة أمريكا أكثر بكثير من اهتمامها بمستقبل البشرية. قد تخلت هذه السلطة عن أقرب حلفائها، فعندما قامت بحظر كل الرحلات من وإلى الإتحاد الأوروبي، لم تأخذ حتى عناء إخبارهم سلفا دع عنك أن تدعوهم إلى مناقشة تداعيات ذلك. كما أنها قامت كذلك بتلفيق فضيحة لألمانيا عن طريق ادعائها بأنها ضخت ما يقارب المليار دولار في شركة صيدلية ألمانية لتحتكر حقوق لقاح الفيروس. وفي الحقيقة، حتى إذا قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتغيير تصرفاتها والقدوم بمخطط دولي، قليلون هم من سيمتثلون لأوامر قائد معروف بعدم تحمله للمسؤولية، وبعدم اعترافه بالأخطاء التي يرتكبها وكذا بقائد يقوم دائما بنسب كل الأحقية إليه مع قيامه بلوم الآخرين بشكل دوري.
إذا لم يتم ملء الفراغ التي خلفته الحكومة الأمريكية من طرف بلدان أخرى، فلن تكون التداعيات محدودة فقط بتفشي الفيروس واستقوائه، بل بدوام تأثيره السلبي على العلاقات الدولية لسنين قادمة، لكن، وبالرغم من كل هذا، علينا أن نعي جيدا أنه ومع كل أزمة جديدة هناك فرصة ما تلوح في الأفق، فلنتمنَّ أن هذه الجائحة ستمكننا من فهم الخطر البالغ الذي يترصدنا بسبب الانشقاق الدولي.
على البشرية أن تختار: هل سنختار المضي قدما نحو طريق الانشقاق أم أننا سنختار التكاتف والوحدة الدولية، فإذا قمنا باختيار الأولى، هذا لن يساعد فقط في تطويل أمد بقاء هذه الأزمة ولكنه سيتسبب على الأغلب بتداعيات كارثية شديدة الوطأة على مستقبلنا، ولكن إذا اخترنا الثانية، الوحدة الدولية، فهذا لن يقتصر فقط على كونه انتصارا ضد الفيروس لكنه سيعد أيضا انتصارا ضد جل الأوبئة القادمة والأزمات التي يمكن لها أن تطالنا في القرن الواحد والعشرين.
يوفال نوح هراري، مؤلف كتاب “العاقل” و”الإنسان الإله” و”21 درسا للقرن الواحد والعشرين”.
ترجمة: سجاد ثائر، بن زرقة رقية، عمر دريوش
تعديل الصورة: لطفي عابر
♥️
بارك الله فيك عمر، ترجمة رائعة وسلسة وممتعة رغم زخم وثقل المحتوى.
مقال جيد