حارس سطح العالم، أي صفحٍ بعد كل هذا التورط في المعنى !؟

بطاقة فنية

اسم الكتاب: حارس سطح العالم.
اسم الكاتب: بثينة العيسى.
عدد الصفحات: 317 صفحة.
نوع الكتاب: رواية.
دار النشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات تكوين.
سنة النشر: 2019.

عن الكاتب

بثينة وائل العيسى من مواليد الثالث من سبتمبر 1982؛ هي كاتبة وروائية كويتية حصلت على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال تخصص تمويل من كلية العلوم الإدارية في جامعة الكويت عام 2011.
عضوة في رابطة الأدباء الكويتية وكذا في اتحاد كتاب الإنترنت العرب. حازت على جائزة الدولة التشجيعية عن روايتها سعار التي صدرت عام 2005؛ صاحبة دار نشر وبائعة كتب ومنصة الكتابة الإبداعية.
من أعمالها: “ارتطام لم يُسمع له دوي”، “كبرت ونسيت أن أنسى”، “قيس ليلى والذئب”، “حاء”، “الحقيقة والكتابة”، “كل الأشياء”، “تحت أقدام الأمهات”، وآخر أعمالها رواية “حارس سطح العالم”.

عن الكتاب

عن الرقابة والسلطة:

“دع الناس في حالهم هادئين، ولا تفتح أعينهم فلو فتحت أعينهم سيشاهدون شرهم وبرودة حياتهم؛ دع عيونهم إذن مغمضة” زوربا اليوناني

في زمن ما من المستقبل في مكان يشبه كل الأماكن، نلمحُ أرنبا على عجلة من أمره، بقبعة سوداء وساعة في يده ينظر إليها كل ثانية، يدخل جُحر الحكاية ويدعونا لأن نتبع خطاه، مُلتفِتًا إلينا من خلفه ومنبّها إيّانا: “يجب أن تبقى دائما على سطح اللغة” تذكر ذلك جيدا.

في عالم ليس بجديد فيه أن تكون السلطة للحكومة دائما، عالم موحد المعالم، يرتدي سكانه بناطيل كاكية اللون وقمصان منشاة، عالم يقومُ على ثلاثة أفعال: اعمل، اتبع القوانين، أنجب! ولا صوت فوق صوت الدولة. وما يهدد صفوها سوى بقايا الماضي وأشباحه من عهد ما قبل الثورة الواقعية، تلك البقايا التي تظهر على شكل أفكار ممنوعة تحثُّ الشعب على التخيل. تستغلها فلول النظام القديم، معارضة النظام الجديد، أو ما يسمى في الرواية بالسرطانات.

كل فكرة قد تجد لها أصلا في كتاب، ولا أحد قادر على تخيل ما قد تفعله الكتب، فكان لزاما على السلطة أن تُنشئ “هيئة للرقابة” تسعى من خلالها لأن تنفي كل كتاب يتطرق إلى ثالوثها المحرم “الرب، الحكومة والجنس”. تنفي كل كتاب يحوى خيالا، ومنه كانت وظيفة مراقبي الكتب، حراس سطح العالم، عالم اللغة، ولكي تكون حارسا للغة عليك أن لا تتورط بالمعنى.

في عالم تسعى فيه الحكومة لأن تسعد شعبها تهتدي بطريقة ما إلى أن سعادة مجتمعها تكمن في وصايتها عليه ومنعه من التفكير، وهي بذلك تنقذه من فيض المعرفة المغرق لأصحابه. بينما تدعم كل كتب البوح المبتذلة، وما كان خاطرة عابرة، لا تصف في مصاف الأدب وغيرها مما يبيع الوهم للبشر.

عن الواقع والمخيلة:

“إن كل فكرة تعيسة لاحقها إنسان ما في لحظة من حياته كانت في الحقيقة إفرازا لا داعي له من مخيلته” الرقيب الجديد.

شعار الحكومة:
“الوجود الإنساني شقاء
أصل الشقاء هو الرغبة
أصل الرغبة هو المخيلة”

الخيال الإنساني أب الشرور، وفي لحظة ما ضاقت مجموعة بهذه الشرور وقررت أن تثور لتصنع عالما بلا شقاء، وحتى تفعل ذلك، زعمت أن الحل يكمن في استئصال الفساد من النظام القديم، في محو معالم العالم الأول، أين كان الإنسان كائنا طاغيا بمخيلته. أن تتخيل يعني أن تحاول الفهم؛ أن ترسم بُعدا ثانيا للواقع، وأن تسعى وراء الفكرة. هكذا قامت في يوم من الأيام ثورة واقعية على الخيال الإنساني، تهدف لصنع عالم واقعي، الكلمة فيه تعني الكلمة، لا تُؤَوَّلُ، لا مكان فيه للمجاز والاستعارات.

“فقد أصبح هدف النظام منذ ذلك الحين هو خلق إنسان قادر على العودة إلى بيته بعد يوم طويل من العمل غير راغب إلا بالعودة إلى بيته كانت تلك هي ذروة الكمال الإنساني”.

لطالما تجلت شطحات الخيال الفسيح في صوره البهية في الطفل، وحتى في عالم ما بعد الثورة الواقعية، ما يزال هذا الطفل يحتفظ بالقدرة على الدهشة لاكتشاف الأشياء ورؤيتها بطريقة مختلفة عن الواقع، قريبة من التأويل وقريبة من.. الخيال! تلك بقايا ذكريات العالم القديم، وقد بدا أنه لا مفر من هذه البقايا. يا له من أمر قد يرعب نظاما واقيعًّا جامدًا ويهدِّدُ كيانه!

لن تسمح السلطة الثورية في عالمها بمجال لنمو جذور نباتات الدولة القديمة الضارة والتي قد تكبر فتلتف عليها وتخنقها، تحاول التخلص من الرواسب والبقايا التطورية التي ما زالت تظهر في أطفال هذا الجيل، وتؤمن أنه بعد عدة أجيال، ستختفي تلك البقايا التطورية، وعليها اليوم أن تقطع ذيل القردة الذي يتدلى من تنورة طفلة تعاني تضخم المخيلة تخفي في دولابها ذئبا؛ في بطن الذئب جدة لذيذة لأنها تعرف حكايات كثيرة، الحكايات تغيُّر الإنسان.

لذا تضع الحكومة قوانين صارمة، تعليمات بإجراءات وقائية، إجراءات علاجية لذلك النوع المقاوم من الأطفال، قد يصل إلى اقتلاعهم من أحضان أهليهم وإرسالهم لمعتقلات يزينها الإعلام تحت مُسمَّى مراكز إعادة تأهيل. كثيرٌ من الأطفال لا يعودون.. هل تختفي المخيِّلة؟

تحت ظل الرواية والحكاية، لا مكان للبراءة:

على لسان إحدى الشخصيات تقول بثينة:
“إن كل حكاية هي عملية استعادة لحكايات كُتِبتْ، واستدعاء لحكايات لم تُكْتَب”
وبهذه الفكرة راحت تستدعي حكايتها الخاصة بوحي من روايات كلاسيكية متنوعة وقصص عالمية؛ فتارة يُخيَّل إليك أنك رُميت في عالم جورج أورويل وجمهورية الأخ الكبير بلباس موحد وصورة للأخ الكبير تحدق فيك في كل جدار؛ وأخرى في عالم فهرنهايت 451 حيث تحرق الكتب على لهيبها؛ وبين أروقة متاهة مقبرة الكتب المنسية لكارلوس زافون تحاول إنقاذ كتب مختوم عليها وصمة المنع، وبين لحظة وأخرى يقفز أمامك أرنب على عجلةٍ من أمره، تشك أنه من أرشد آليس نحو بلاد العجائب، تقرأ مع شخصية كذبته كأنك نطقت بها فتشعر بأن أنفك يطول كأنف بينوكيو، بينما زوربا يقتحم عليك القصة منذ البداية ويأجج فيك شعلة التمرد والحياة.

هكذا من وحي عوالم الكتب تكتب بثينة حارس سطح العالم، وفي رواية واحدة تأخذنا إلى بلاد الحكايا، تذكرنا بشخصيات رافقناها من قبل، فتعيد إلينا مشاعر عايشناها؛ أو هي تحدثنا عن شخصيات سمعنا عنها ولما نرافقها، فتعزف على وتر التطلع والتشوف لدينا لاقتحام عوالمها هي الأخرى.

بثينة وهي تعرج بنا إلى بلاد الحكايا تلك، تستقي منها لغتها، فتبدو لغة الرواية لوهلة وقد اكتست ألوانا عديدة، فلا تذكرك هذه اللغة بمكان، ولا بأصل ثابت أو هوية؛ هي لغة ملونة، قد تجعلنا نبحث عن بين درجات الألوان عن لغة الكاتبة، أتراها ذابت وسط المزيج؟ أم أنها تعمدت الرسم بألوان جديدة غير التي ألفتها؟

حارس سطح العالم، يحرس العالم من أن يسقط أحد أفراده في المعنى، عبر إحدى ثغور المخيلة ومزالق التأويل، ووكل ممنوع متحول إلى مقاوم ليثبت وجوده، كذلك تصرخ المخيلة عاليا في كيان القارئ، فتسافر نحو كل صوب موجهة من أحداث الرواية، فقد يتساءل قارئ وسط حبكة الأحداث، ويقول ما بال هؤلاء الثوريين لم يعدموا النظام القديم عن آخره؟ ولماذا احتفظوا بالكتب التي لن يقرؤوها وراحوا يراقبونها، وهم بذلك يصنعون السرطانات بأيديهم ويتركون ثغرات يثار بها عليهم؟ هل كان ذلك خوف السلطة من الاندثار الكامل للماضي؟ حتى وإن كانت في ظاهرها تسعى للتخلص منه؟ وهل يطوي ذلك بين ثناياه معنى من المعاني؟

وفي ظل أحداث ملاحقات السلطة المانعة للسرطانات المعارضة، ووسط هذه التساؤلات لا يمنع القارئ أن يتساءل: إلى أي مدى يمكن للأدب؛ القصة والحكاية، أن يغير الإنسان حقاً؟

على هامش الرواية:
تتضمن صفحات الكتاب رسومات متنوعة معبرة بشيء أو بآخر عن وقائع الأحداث الجارية داخل القصة ؛ مرسومة بتفان بيد الفنان الكويتي محمد المهنا.

هامش:
عنوان هذا المقال مُستلهمٌ من مقال “أن نسمي الأشياء بمسمياتها”، مقالات “حاء” بثينة العيسى.

إعداد : منال بوخزنة – قيس العايب.

كاتب

الصورة الافتراضية
Laib Kaisse
المقالات: 0

اترك ردّاً