دويان روسيل.
هناك طلباتٌ ملحةٌ وجديدةٌ تُقدَّم إلى المحللين النفسيين. هذه الطلبات تأتي بصيغة اِلتماسات من أجل النجدة: “ساعدني لأستيقظ من كابوس الجائحة الحالية!” حتى سلافوي جيجك اعترفَ مؤخراً بأنه يفكر في الخروج من منزله للإصابة بالفايروس غير المألوف كيلا يقلق منه بوصفه تهديداً يلوح في الأفق. هذه إحدى الطرق لخداع النفس من أجل أن تتغلب على ما هو واقعي، بيد إنها طريقة غير دائمية. وياللأسف! ليس هناك من استيقاظ من هذا الكابوس. فالاِستيقاظ منه لا يمكنه إلا أن يَعِدَ بأن الحلم سيستمر بشكل جديد.
إن هذا الكابوس يمثل عودة إلى لغز الدافع، عودة إلى استحالة تقديم معنىً تامٍ له. كما أنه يفتح إمكانية نسجِ حلولٍ جديدةٍ عبر العلم -الذي يتعامل مباشرة مع الشيء الواقعي- وعبر سلوكٍ يومي يتسم بالبراجماتية المفرطة. من المؤكد إننا نقترب بسرعة من نوع البراجماتية التي تعمل في الهند، حيث أنا أكتب حالياً. إذ ينخرط الهنود، بانتظام، في خطط فعالة للحفاظ على الحدود، ومفاوضات نشطة مع بيئتهم. وكما جادل ماكس فيبر بشدةٍ بالغةٍ منذ سنين عديدة: إن رأي الدارما الهندية Dharma في التناسخ يقتضي تأكيداً على دورة حياة لا تكف أبداً عن اِنبعاثات جديدة، الحياة التي لابدَ من أن يُوضع لها حد في نهاية المطاف. هذا حلمٌ بدأنا به للتو في أمريكا. إنه حلمُ القرن الواحد والعشرين بالواقعي، الذي تبحث كل ذات عن الموساة منه، ضمن العالم الفوضوي والقاتم.
لقد بلغت الضرورة الملحة أوجّها الآن مادام الطلب الذي يواجهنا يكشف عن نفسه أكثر فأكثر في حقيقته. وسط كل هذا، يصبح التحليل النفسي ملجأً عبر مقاومته النزوع إلى طلب أن تعزل الذات نفسها أكثر في الواقعي ذاته. مَن يرغب بالعيش في عالم يفرضُ خياراً بين العلم والوباء؟ إن الخيار الوحيد للذات اليوم هو أن تتوجه نحو العلم البراجماتي كاستجابةٍ للضرورة الملحة وإلا فالقفز في عالم من الحفاظ الثابت على الحدود إلى حد الإعياء والوحدة.
واحسرتاه! فالكابوس لا ينتهي أبداً.
يقاوم التحليل النفسي هذه الردود المزودجة ويعقد ميثاقا مع الكابوس بأن يضعه في خدمة قضية الحقيقة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن يتناسب الوباء مع كل الأحدثيات التي خرجت بها الجمعية العالمية للتحليل النفسي حديثا، والتي شهدت السنوات الأخيرة من عملها تطويرا لمفاهيم الضرورة والكابوس والهلع والواقعي واللغز وغيرها. فهذه الأحداثيات هي أحداثياتُ عالمنا البارد الجديد كما أنها تساعدنا في تحديد مكان لابتكار جديد.
ينبغي علينا اليوم أن نكتشف نمطا جديدا من التماسف [أي أخذ مسافة] من الواقعي دون أن نفقد بذلك الخيط الاجتماعي الناظم الخاص بنا. لقد واجه التحليل النفسي الفايروس المبهم باعتباره حجر الزاوية له وخيطا ناظما للصلة الاجتماعية الجديدة به. لذا، عندما قال فرويد وهو في طريقه إلى أمريكا – مع أنه ليس هناك من دليل يشير إلى أنه قد فعل ذلك حقا – “هم لا يدركون أننا نجلب لهم الوباء”. كان، بطريقة ما، يضع التحليل النفسي على جانب الوباء. هذا يكفي لإظهار أن الرفض اللاكاني للعلاج أو الصحة كهدف للتحليل النفسي هو في صميم الاكتشاف الفرويدي. يجب علينا، أي المحللون النفسيون، أن نكون متواضعين جدا، ما دام هدفنا ليس علاج الجموع من الوباء: إنما هدفنا بالأحرى هو إيجاد ما من شأنه، في الوباء، أن يتيح الوصول إلى حقيقة تحددنا ومن ثم استخدامها على صعيد المجتمع.
إن التهديد الحقيقي اليوم ليس بالضرورة الفايروس التاجي، إنما الشيء الواقعي نفسه، الذي يُفسح المجال لهذا الفايروس ومعه كل الأوبئة المرعبة والفوضوية الأخرى من الإدمان والوحدة والكآبة ونوبات الهلع.. إلخ. وبينما نحن نصم آذاننا عن الواقع أو نتجنبه (عبر تقنيات متنوعة لما يسمى بالسياسة الحيوية، من فحوصات درجات الحرارة والأقنعة والعزل الذاتي وغيرها)، فإننا نفشل بمواجهة البنيات التي تنتج هذه الأوبئة. إذا كانت المطارات ومحطات القطار قد اِعتادت أن تكون أمكاناً خاضعة لترسيم حدود، فإنها الآن صارت أمكانا ضبابية ومبهمة: حيث أن الحد الفاصل بين الذهان والعُصاب، كما هو حال حد الفاصل بين الخاص والعام، قد اِنهار. هذا الاِنهيار يفترض ضمنا أن ثمة من يهرعون لتنقيذ طرق جديدة لإدرة العالم والسيطرة عليه.
تقدم الرأسمالية اليوم نفسها، شأنها شأن الفلسفة البراجماتية التي تقف خلفها، على أنها ترياق للفوضى: فالعلم المنغمس في الواقعي من أجل إيجاد حلٍ، والسوق الحرة، والمفاهيم العلمانية-المسيحية الأخرى ذات التدخل المحايد، تندفع نحو الواجهة، في الوقت نفسه تقترح الروايات الأخرى أن الفايروس التاجي كان نتيجة لدكتاتوريات غير مُنازعة. الناجم عن ذلك أن الرأسمالية -والسوق الذي يدفع العاملينَ على اِختراع أداة أو حبة دواء أخرى، وعلى حلٍ سريع آخر..إلخ- تكون البديل المنطقي الوحيد. هذه الرواية لا تفكر إلا بالرأسمالية والدكتاتورية والبراجماتية والسلطوية، اللاتي يمثلن، من نواحٍ كثيرة اِستجابات عرضية لما هو واقعي. في الواقع، لم تكن البراجماتية فلسفة إطلاقا أكثر مما كانت الرأسمالية نظاما اقتصاديا وسياسيا. وإذا كان الفلاسفة الثوريون، بما فيهم، ماركس وباكونين، سريعين في التساؤل “ماذا عن البدائل؟”، فهذا لأنهم فشلوا أحيانا في رؤية أن الرأسمالية قد اتخذت موقع البديل. إنها البديل للسلطوية والدوغمائية والاشتراكية وهلم جرا. لا تقدم الرأسمالية نفسها عبر قناعتها الصريحة ولا عبرالحريات المتأصلة فيها وإنما عبر مقاربتها القيمة المالية للحقيقة ( إذا ما ستعرنا تعبير البراجماتيين الأمريكان). الحقيقة صحيحة، تحديداً، لأنها تنتج تأثيرا ذا قيمة ظرفية ما. إذ تقدم الرأسمالية اليوم، نفسها، على أنها البديل البراجماتي لأي قناعة مستدامة.
إن صدمة الرأسمالية لها جذورها ضمن الواقعي ذاته. فسواءٌ تعرضنا لكوارث بيئية أو اِنهيار للكوكب يلوح في الأفق، أو أزمات بايولوجية، فإننا نشهد، في كل الأحوال، العودة التي لاتنتهي أبدا إلى الواقعي. وعلى ما يبدو فأن هذا ما غاب عن ميشيل فوكو وأتباعه في الوقت الحاضر. فالعودة إلى الحياة العارية أو إلى السياسة الحيوية هي نظرة محدودة طالما أنها تركز على تقنيات الإدارة وتطرحها على الواجهة من دون أن تموضع تلك التقنيات بوصفها استجابات لنماذج المتعة الجديدة. ينبغي علينا مقاومة إغراء رؤية السياسة الحيوية بوصفها محاولة لإدارة الواقعي: إذ توجد، أيضا، اقتحامات للواقعي داخل أي محاولة كهذه لإدارته والسيطرة عليه.
هذا هو محرك السياسة اليوم، هذه هي حقيقة عصرنا.
تدقيق لغوي: حفصة بوزكري