يتداخل مفهومان خاطئان بشكل واضح خاصة عند التحدث عن الحركة الإنسانية في عصر النهضة الأوروبية، أولاً: الخلط بين الإنسانية والنظرية الرومانسية لعصر النهضة؛ وثانيًا: تحديد إنسانية عصر النهضة مع الأيديولوجية الحديثة للإنسانية العلمانية.
اخترع المؤرخون والنقاد من العصر الرومانسي المصطلحين “النهضة-Renaissance” و “الإنسانية-Humanism” – وكلاهما مرتبطان بالمصطلحات المستخدمة بالفعل خلال القرن الرابع عشر حتى السابع عشر ولكنهما متمايزان. يشير “عصر النهضة” بالنسبة لهؤلاء العلماء الجدد إلى فترة من التغيير الكارثي عندما بدت الحضارة الأوروبية من وجهة نظرهم أنها “ولدت من جديد” بعد ألف عام تقريبًا من الركود والغموض. وبالمثل دلت “الإنسانية” على اكتشاف الإمكانات البشرية بعد فترة تم قمعها، وتحرير الفرد من قيود التسلسل الهرمي المؤسسي والفكري. وقد تمت مراجعة هذين المفهومين خلال القرنين الماضيين بصورة كاملة.
عصر النهضة – عندما لا يتم تجنب المصطلح بالكامل – يُفهم الآن بشكل عام لوصف التغييرات في الثقافة الفنية والفكرية التي حدثت خلال القرن الرابع عشر حتى أوائل القرن السابع عشر. تُفهم الإنسانية الآن على أنها حركة فكرية نشأت في الجيب الحضري لشمال إيطاليا، والتي تم تنشيطها من خلال الدراسة المكثفة للتقليد اليوناني الروماني أو التقليد الكلاسيكي.
إن الإيديولوجية الحديثة لـ “الإنسانية العلمانية” والتي تسمى أحيانًا ببساطة “الإنسانية” أو كما يفضل بعض أتباعها، تنبع من قراءة خاطئة للتنوير وما بعد التنوير لإنسانية عصر النهضة. إنها معنية بالاحتفال والتقدم للوجود البشري الذي تعتبره مكتفيًا ذاتيًا غير مقيد بالقيود الفلسفية أو بشكل قاطع بتدخلات من العالم الإلهي. لقد كان مؤخرًا هدفًا للجدل المسيحي المحافظ، الذي يفسر الإنسانية الحديثة العلمانية على أنها معادية بطبيعتها للرؤية المسيحية العالمية. ومع ذلك، فإن النزعة الإنسانية في عصر النهضة لم تكن بالتأكيد علمانية -كما لم تكن أي حركة ثقافية أخرى في عصر النهضة- ولكنها مشبعة بالأحرى بالفكر المسيحي والحساسية الدينية.
إحياء التراث اليوناني والروماني:
حركة الانسانية في جوهرها كانت الالتزام بالتقاليد الكلاسيكية والإرث الأدبي والفلسفي للعصور اليونانية واللاتينية. لقد عرف المؤلفون المسيحيون في القرون الثلاثة الأخيرة من العصر الروماني هذا التقليد تمامًا، ودمجه مع التقليد المسيحي المزدهر مما أدى إلى اندماج التقاليد الكلاسيكية والمسيحية. نقلت أعمالهم التعبدية واللاهوتية هذه الثقافة الهجينة إلى القراء الذين يمكنهم الوصول إليها بين القرنين الخامس والخامس عشر: عصر العصور الوسطى تقريبًا.
كما واجه علماء العصور الوسطى بشكل مباشر تلك الأعمال المتاحة لهم من الماضي القديم ما قبل المسيحي. في أوروبا الشرقية استمرت دراسة النصوص اليونانية الموجودة في إطار مسيحي، دون انقطاع من العصور القديمة.
في أوروبا الغربية حيث فقدت المعرفة اليونانية إلى حد كبير، نجت اللغة اللاتينية على الرغم من اختزال اللاتينية كوسيلة مشتركة للتواصل. في الوقت نفسه قام الكتبة الرهبانيون بنسخ وإعادة نسخ الكتب القديمة التي تم تخزينها في المكتبات الرهبانية وإنتاج نسخ مخطوطة.
العصور الوسطى وعصر النهضة الأوروبية:
وهكذا استمر التقليد الكلاسيكي في الغرب، محفوظًا في مستودعات رهبانية متأصلة في فكر اللاهوتيين المسيحيين، ومعروضًا في حفنة من الكتب اللاتينية التي يتم قراءتها بشكل متكرر ومنتشرة على نطاق واسع (ومن أشهر المؤلفين شيشرون، لوكيوس وفيرجيل).
الحماس الدوري للكلاسيكيين تم تحديده على أنه فترة ما قبل النهضة (Proto Renaissance): عصر النهضة الكارولنجية في القرن الثامن؛ عصر النهضة الأوتونية (Ottonian Renaissance) في القرن التاسع؛ و”عصر النهضة في القرن الثاني عشر” عميق للغاية لدرجة أنه بالنسبة لبعض العلماء لم يكن ممهد لعصر النهضة الإيطالية فحسب بل هو البداية الفعلية للنهضة الأوروبية ككل.
ورث عصر النهضة في القرن الثاني عشر الاهتمام المتجدد بالنصوص الكلاسيكية ودراسة وشرح كتب القانون المدني الروماني في إيطاليا. وترجمة معظم أعمال أرسطو إلى اللاتينية من النسخ اليونانية والعربية. غيرت هذه الأعمال الأرسطية هياكل الدراسة الجامعية خاصة في فرنسا وإنجلترا، حيث ولدت مرحلة العصور الوسطى المميزة للفكر الفلسفي الأوروبي المعروف باسم “السكولائية” (أو المدرسانية، من سكولا: مدرسة باللغة اللاتينية). ومن الجدير بالذكر، أن المدرسانية ولدت من نفس الطفرة من الاهتمام في البقايا الأدبية من العصور القديمة الكلاسيكية التي من شأنها أيضًا أن تولد الإنسانية.
وعبر عنها الكاتب هاشم صالح بمفهوم آخر، انقسمت العصور الوسطى الأوروبية إلى عصرين: العصور الوسطى الأولى (بين القرنين الخامس والعاشر) وهي العصور الأكثر ظلاماً وقتامة، والعصور الوسطى الثانية (بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر) بالاضافة إلى العقلية السحرية أو الخرافية ظهرت بذور العقلانية والمنهجية الجديدة المشهورة باسم السكولائية.
الحركة الإنسانية في شمال إيطاليا ثم باقي أوروبا:
بدأت النزعة الإنسانية في عصر النهضة في شمال إيطاليا في العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر مع -مرة أخرى- الدراسة المكثفة والتقليد للنصوص الكلاسيكية: “العودة” إلى القدماء ليس بمعنى العودة إلى الماضي الماضي، ولكن من “استرداد” أو “الإحياء” ؛ وتتمثل في التحقيق وفهم وتقليد عمل القدماء، قام إنسانيو عصر النهضة بايقاظ الحضارة الأوروبية واستكمال إحياء الثقافة اليونانية والمسيحية التي بدأها آباء الكنيسة في القرون الأخيرة من العالم القديم، وتنشيط تقريبًا كل أبعاد الثقافة بما في ذلك السياسة والفلسفة والدين والفنون.
من إيطاليا حيث ازدهرت الإنسانية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر سافرت الحركة إلى ما وراء جبال الألب للسيطرة على جزء كبير من أوروبا في القرن السادس عشر واتخذت شكلًا وتلوينًا مختلفًا في بيئات اجتماعية وسياسية وثقافية متنوعة. بحلول أواخر القرن السادس عشر، كما قال المؤرخ والكاتب تشارلز نويرت (Charles Nauert): “كانت الإنسانية في كل مكان” متورطة في المنتج الثقافي للمبدعين من جميع الأنواع الذين لم يكونوا على وجه التحديد إنسانيين؛ في حين أن هؤلاء القلة الذين كانوا إنسانيين من حيث المهنة قد تحولوا إلى التخصص في الدراسات الكلاسيكية واللغوية، لذلك توقعوا احتراف تلك المجالات من العلوم الإنسانية المألوفة تمامًا اليوم.
المصادر:
-Scott, Hamish, ed. The Oxford Handbook of Early Modern European History, 1350-1750: Volume II: Cultures and Power. OUP Oxford, 2015, p 22-23
– هاشم صالح: مدخل إلى التنوير الأوروبي، دار الطليعة، 2007، ص29.