إيميلي راب بلاك وليسا غلات حول موازنة الهلع والتنفس
ليلة أمس قبل أن أنام وضعت مذكرة ذهنية بأن أخبر زوجي دايفيد أنه في حال إذا ما أُصبت بالعدوى وكنت من تعيسي الحظ الذين لن يستطيعوا التنفس، أنه ربما يجب عليه أن يمتنع عن إخبار الأطباء والممرضات عن كل حالة جسدية لدي. كنت في تلك اللحظات قبل النوم، طامعة في الوقت، وقلقة حول إذا ما وجب أن اتنافس من أجل جهاز للتنفس. كنت متأكدة بأني سأخسر المنافسة أمام من هم أصغر مني سناً ببضع سنوات أو من لم يمروا بالمراحل الأولى لسرطان المبيض والعلاج الكيماوي الذي مررت به منذ ثلاث سنوات أو أمام من مازالت تملك طحالها. الآن، أشعر بالذنب لأني أردته أن يكذب، ولرغبتي في استمرارية حياتي، ولم أذكرها (تقصد المذكرة الذهنية).
إنني، وكحال الجميع، مرتعبة من فكرة عدم القدرة على التنفس. إنه أكثر خوف بدائي. إنه كل كابوس غرق. كل صوت أخير يصدر منا. إنه ما أستمع إليه ليلاً عندما يكون دايفيد نائما، وضيق تنفسه يوقف شخيره ويشهق، باحثاً عن نفس.
إنه الصوت الذي استمعنا له أنا وأخي عندما شاهدنا والدينا يموتان، توفيت والدتنا سنة 1998، ووالدنا في السنة الماضية، إنه ما شَهدناه، صدرهما يعلو ويهبط معه، صراعهما من أجل تنشق البعض منه، لأخذه إلى الداخل.
كما أن لدينا تسمية حتى للكيفية التي يتغير بها التنفس عندما يحين موعد مغادرتنا للحياة. “جلجلة الموت قد بدأت” نقول، تعال سريعاً.
**
كنت في كل ليلة، عندما كان ابني رونان على قيد الحياة، أضعه في السرير وأشاهد صدره يعلو ويهبط بعمق، في بعض الأحيان بنفس متقطع، أفكر أنها لربما تكون آخر مرة أراه فيها يتنفس، وتتداخل تقريباً تلك الفكرة مع أُخرى: ربما يكون من الأفضل إذا توقف عن التنفس الأن، قبل أن يفقد كل وظائفه الحيوية. فكرة متوحشة، فكرة رحيمة. بعدها أحمل حاسوبي وأسجل دخولي إلى مجموعة الأمهات الأخريات اللائي يحتضر رضائعهن وأطفالهن بمرض “تاي ساشس”، مرض جد خطير، قاتل وسريع بنحو سخيف، أشبه بالإصابة بالطاعون: إذا أصبت به، فالموت حليفك.
قالت لي صديقتي رايتشل بأنه سُرق مني وكان ذلك صحيحاً. لن يكون هناك أحداث مهمة، لا حوارات، لا مشاريع فنية، لا علامات في الرياضيات، لا جامعة، لا شريك سيء أو جيد، لا شيء.
كان ابني ليبلغ سن العاشرة في هذا الشهر، لكنه لم يصل أبدا إلى سن الثالثة. في المرة الأولى التي خطوت فيها إلى مجموعة للأطفال المصابين وأوليائهم، كانت هنالك أم تنهض بين الحين والآخر وتُخرج أنبوباً من الحقيبة الخلفية للكرسي المتحرك الخاص بطفلها، فاتحة فم إبنها المتثاقل. تدخل الأنبوب حتى الرئتين وتضغط زر التشغيل لجهاز الشفط ثم الصوت: صاخب مثل صوت جزازة عشب تتحرك بعنف تحت الماء حينما يدخل السائل إلى الحقيبة التي تقوم الأم لاحقا بالتخلص منه في الحمام. وكان الصوت يتكرر كل بضعة دقائق. قلت لأحدى الأمهات التي مات إبنها منذ 20 سنة، يبدو الأمر كما لو أنهم يغرقون، قالت، إنهم كذلك.
**
خلال الأشهر الستة التي كنت أتلقى فيها العلاج الكيمياوي، دخن زوجي كميات وفيرة من الحشيش. غالباً ليلاً، لكنه كان يبدأ أحياناً بعد الظهر. قبل أن أُصاب بالمرض، كان رجلاً يدخن الحشيش لبضع مرات. ولكن بعد تشخيصي، اشترى جهاز (vaporizer) وهو نوع من السجائر الإلكترونية – جهاز صغير، مستدير ونحاسي مثل مركبة فضائية مصغرة. كان يربطها بالكيس المستخدم لطبخ الديك الرومي، إذ يقف عند دولاب المطبخ ببجامته القطنية وقميصه الأسود، ثاقباً فوهة الكيس منتظراً إياها أن تمتلئ بالدخان. نجلس أحياناً لمشاهدة التلفاز ثم يذهب ظانةً إياه ذاهباً إلى الحمام. لكنه يستغرق وقتاً طويلاً، ثم أسمع صوت هسهسة الجهاز.
خلال فترة علاجي، كنت أشعر أحياناً بالغثيان، دوماً صلعاء، بلا حواجب أو رموش، كانت رموشي أكثر ما افتقدته فحالما تفقدهم تصبح لهم وظيفة جلية. بينما كانت عيناي جافة وتشعرني بالحكة. كان زوجي يحتفظ دائماً بكيس الدخان ذاك إلى جانبه وعيناه حمراوتان دوماً. كانت لفحة دخان من هذا الكيس كافية لأن تصيبني بالنشوة بينما لفحتان منه تصيبني بالاضطراب. لذا غالباً ما أبقى بعيدةً عنه. لكن زوجي كان يدخن كيساً إثر كيس إثر كيس _بينما كنت بدوري مغيبة أيضاً في معظم الأحيان بسبب العلاج الكيمياوي. نجلس معاً أحياناً لمشاهدة التلفاز على الأريكة. لا يمكنني رؤيته أحياناً بسبب طريقة جلوسنا، لكني أسمع صوت خشخشة الكيس عندما يرفعه إلى وجهه واسمع صوت التنشق القوي لرجل يحاول البقاء على قيد الحياة.
أمسكت بيدها، سحبتها بعيداً عن كرسيها، وقلت، أخرجي.
إذا وصلت رائحة التبغ إلى رئة ابني فإنها ستقتله.
**
اعتاد مدربي أن يقول لي أثناء ممارستي التمارين الرياضية باستخدام الصندوق “box workouts” يجب أن تحبسي أنفاسك. في سبيل تحسين أدائي كمتزلجة منحدرات. كنت جيدة، لكنه أخبرني أنه بالإمكان أن أكون أفضل، وبالتأكيد وددت ذلك أيضاً. كان هناك صندوق خشبي بسيط، كالذي تستخدمه تقريباً عندما تنتقل من المنزل او كالذي تجمع فيه أغراض المطبخ. أسميه صندوق القيء.
كان الروتين بسيطاً، ولكن قاسياً: القفز أعلى الصندوق، الركض حوله، القفز فوق الصندوق لمدة شعرت بأن لا نهاية لها لكنها كانت 45 دقيقة. كرهته. الجزء الأسوء كان الدقائق العشر الأولى، عندما يستحيل التنفس إلى هلع، ويخفق القلب بقوة داخل القفص الصدري. أعلى وأسفل، أعلى وأسفل. أسرع، أسرع.. ومن ثم تسيطر العضلات على الحركة، ويكون التنفس شيئاً ثانوياً، يواصل الجسد التحرك بغض النظر عن أي شيء.
سقطت متزلجة أعرفها أثناء سباق وكسرت رقبتها. بعد ذلك، كلما أضع خوذتي وأقف، بانتظار الطيران كما أسميه، يصبح تنفسي متخبطاً وغير منتظم، وكأنه يعمل بهمة ضدي. حاولت الطيران على أية حال، لأني أردت أن أكون عظيمة، لكن بعد ما حدث للمتزلجة والتي كانت أفضل مني بمراحل -إذ صدمت رقبتها وماتت، شعرت بالهلع وحسب. في إحدى أشواطي الأخيرة تقيأت في خوذتي وقضمت شفتي. حينما وصلت إلى قمة الجبل، خلعت خوذتي وبصقت كل الدماء والقيأ على الثلج الأبيض وقلت، بلغت نقطة النهاية، لم أقدر على التنفس، ليس بإمكاني مواصلة فعل ذلك بعد الآن.
**
كنّا أنا وصديقتي سوزان، أستاذتين في نفس المدرسة، نقضي أيّامنا بين نفس الفصول. وحين بدأت فوضى كوفيد-19 هذه، حين لم يستسلم الكثير من الأذكياء والوقورين للخوف بعد، كنت مرتعبة بالفعل. قبل ذلك، وقبل أن ينتشر الحديث حول الحجر الصّحي وإغلاق المدارس، حين كان يُسخر من أولئك النّادرين الذين ارتدوا كمّامات، نسي أحدهم جهاز تنفسّه داخل حجرة الفصل.
كنتُ جالسة مع تلاميذي في دائرة، بينما يقرأ أحدهم تعبيره بصوت مرتفع، أغالب نفسي على الحضور الذّهني والتركيز؛ لكنّني كنت أتشتّت سريعا حين يقع نظري على جهاز التّنفس ذاك. ألقيت نظرة عليه، وزاد ذلك من رعبي. خلال فترة الاستراحة، اتّصلت بسوزان وأنا في ساحة المدرسة.
“هل هو أزرق؟” سألتني وهي تذكّرني بالرّبو الذي تعاني منه، وهو مرضٌ أنساه دومًا، إذ أنها لا تذكره إلا نادرا. “أنا لا أعلم” أجبتها. “هل ستأتين إلى هنا؟”، كانت تسألني. لكنّني لم أستطع العودة لأنّ درسي القادم كان في بناية أخرى. إلّا أنه كان بإمكاني أن أعود، أن ألتقطه وأرميه داخل محفظتي. فكّرت طويلا في جهاز التنفس ذاك، كيف كانت سوزان ستحتاجه وتستعمله للتنفس، وكيف كان ذلك اللون الأزرق شبيها بلون زهور الذّرة.
**
كانت تلك السّيدة قادمة من خدمة التبرعات الطّبية لتحضر خزان الأوكسجين إلى منزلي، تنبعث منها رائحة التبغ، رائحة حادّة ونافذة. كانت بدينة ومتعرّقة، وهي تتأفّف بينما تسحب الخزان من خلفها. حين مرّت أمام كيس الفاصولياء حيث اعتاد رونان أن يجلس حين لا يكون نائما، صدرت قعقعة قويّة نتيجة احتكاك عجلات الخزّان مع الأرضية الخشبيّة الصّلبة. أطلقت حكمي عليها مسبقا لكونها بدينة، وبسبب الرّائحة التي كانت تفوح منها، وقلت لها: “ابني يعاني من حالة مرضيّة تنفسيّة حادّة، وهناك لافتة “يمنع التّدخين” على النّافذة”. نظرت إلي بعينين رطبتين وقالت: “أنا لا أدخّن الآن، أليس كذلك؟”، ثم جلست على طاولة المطبخ وطلبت أن أوقع عقد إيجار عبوة الأوكسجين التي أحضرتها مع مجموعة من أنابيب الأنف الجلديّة النظيفة. بدأت بتوقيع الأوراق، وإذا بها تسعل. انطلقت شرارة غضب من صدري إلى حلقي. كانت أصابعها الرّطبة تترك بصماتها على الزجاج، وبدت رائحتها شبيهة برائحة أولئك الرّجال في سراويلهم الجينز الضّيقة الذين كانوا يتدفّقون في مجموعات من حانات البلدة الرّيفية أثناء طفولتي، وهم يصنعون أحزمة ذات حليات معدنية، بينما يتصاعد دخان سجائرهم ويختفي في السماء الرّمادية. عندما سعلت مجدّدا، أصبحت الشّرارة لهيبا وصحت بها: “اللعنة ! اغربي عن منزلي”. لكنها لم تتحرّك، فقبضت ذراعها وسحبتها بعيدا عن الكرسيّ التي تجلس عليه، وقلت: “اخرجي! فإذا وصلت رائحة التبغ إلى رئة ابني ستقتله”. حين قامت وخرجت عبر الباب، جررت العبوة قريبا من الخزانة، وجلست على أريكتي أبكي إلى أن أصبحت عاجزة عن التقاط أنفاسي.
**
يعجّ منزلنا بمنتوجات التّنظيف، بمعلّبات الفاصولياء والمعكرونة والطّماطم الجافّة. ونحن نحاول بقدر الإمكان تجنّب الخضر والفواكه الطّازجة، وهي أكثر ما أحبّه. دخل الأطفال الذين كانوا يلعبون في الممرّ المجاور إلى منازلهم – كم كنت أنزعج من أصواتهم وهم يلعبون بتلك السّيوف والخناجر. وفي اللّيلة الماضية، ترك لنا بعض أصدقائنا المقرّبين طعاما في مدخل البيت، بعض البيتزا المصنوعة منزلياً، وبسكويت زبدة الفول السوداني. لوّحنا لهم من بعيد وأرسلنا قبلات عبر النّافذة.
في أوّل علاقتي مع دافيد، كنت أعاني من كوابيس تغيّر من وتيرة تنفّسي، وتجعلني أنشج بشدّة وأنا نائمة إلى أن أوقظه، ثمّ يهزّني برفق لأستيقظ وأتخلّص من الكابوس. كان ذلك بعد وفاة والدتي، وكنت أتأمّل وجهه وأتعجّب في كلّ مرة كيف تمكّن كلٌّ منا من إيجاد الآخر. لازلت أرى كوابيس إلى الآن، لكنها ليست بنفس الوتيرة. في الأسبوع الماضيّ، وبينما كان يعمل في مكتبه سمع صوت تنفّسي ونشيجي في الغرفة المجاورة، وجاء إلى السرير ليقطع عليّ ذلك الرّعب الذي كنت أعيشه. نظرت إلى وجهه، إلى الوجه المفضّل عندي، وشعرت بالرّاحة أنّني لم أفقد دوري في مرآب للسّيارات، أنّني لم أكن أحلّق في الهواء نحو موتٍ أكيد. شعرتُ بالرّاحة أنّني استطعت أن أستيقظ مجدّدا، ولو كان ذلك في هذا العالم.
ترجمة: إحسان معزوز، سماح صلاح، وأميرة بوسجيرة.
تدقيق لغوي: حفصة بوزكري