إنّ الضوء من المواضيع المثيرة للإهتمام، وتاريخ طبيعته يقدّم درساً قيماً تعلمه لنا الفيزياء، فيما يلي سنَبسط أشرعتنا لنعرف هذا التّاريخ ونكتشف طبيعة الضوء، هل هو جسيم؟ أم أنّه موجة؟
الكرة الصغيرة مثال جيّد عن الجسيمات، شكل صلب ويشغل حيزاً من الفضاء، يمكنه التّحرك وفق مسار محدد، و إذا اقترب جسيمان كفاية فإنّهما يتصادمان، و يتبادلان بعضا من كمية الحركة.
لتَصوّر الموجة، نعتبر موجة في الماء تشوهاً يتنقل عبر الوسط، على غرار الجسيم، فإنّ الموجة عكس الجسيم لا تشغل حيّزا من الفضاء بل تنتشر ولا تتموضع في حيز معين، ولكن هنا نتكلم عن التّشوه في موضع ما، وإذا التقت موجتان فإنّه لا يحدث تصادم، بل تجمّع التشوهات.
من الواضح أنّ هذان الشيئان مختلفان، ومهمتنا معرفة تحت أي فئة يمكننا تصنيف الضوء.
في كتابه Opticks المنشور سنة 1702، ادّعى الفيزيائي الإنجليزي إسحاق نيوتن بكل ثقة “أليست أشعة الضوء عبارة عن أجسام صغيرة منبعثة من الأجسام المشعة ؟ “، كان مؤيداً للنموذج الجزيئي للضوء، كانت هذه الرؤية مشهورة منذ زمن الإغريق ومعروفة باسم المذهب الذّري، والتي تنص أنّ العالم مكوّن من جسيمات صغيرة، و من الطبيعي أن يشمل هذا الضوء أيضا، في نفس الوقت كان هناك علماء مخالفون لهذا الرأي، ومنهم الرّياضياتي الهولندي كريستيان هويجنز الذي دعم النموذج الموجي للضوء، ونشر نظرية حوله سنة 1690 في كتابه Treatise On Light.
كلتا النظريتان كانتا تشرحان سلوك الضوء بافتراض طبيعته (سواءً جُسميّة أو موجيّة)، وكلتاهما واجهتا بعضا من الصعوبة، لم يكن النموذج الجُسيمي مقنعاً في تفسير الإنكسار (تغيير الضوء اتجاهه عندما يعبر من الهواء إلى الماء مثلاً).
أمّا النموذج الموجي فكان عليه أن يفترض وجود وسط لانتشار موجات الضوء (تماماً مثل انتشار الأمواج الصوتيّة في الهواء) يملأ كلّ الفضاء لكن لا يمكننا رؤيته أو لمسه، كان النموذج الجُسيمي متفوقاً خلال القرن الثامن عشر وجزء كبير من هذا يعود إلى سمعة نيوتن، لكنّه سرعان ما بدأ بالاختفاء بعد فشله في تفسير ظواهر شوهدت لاحقاً، أهمها التداخل.
التداخل في سياق الضوء هو انعدامُه في مواضع وزيادة شدّته في مواضع أخرى سُلط عليها الضوء من عدّة مصادر، هذا طبيعي جدّا في النموذج الموجي فالتّشوهات يمكن أن تلغي بعضها لكنّ الجسيمات لا يمكن أن تفني بعضها وتختفي كما هو ملاحظ في التجارب.
في ورقته (“On the Theory of Light and Colors “1802) وصف الفيزيائي البريطاني توماس يونج بعض ظواهر تداخل الضوء، وفي 1817 وضعت الأكاديمية الفرنسيّة للعلوم الحيود (وهو انحناء الضوء عند مروره حول العوائق) كموضوع أساسي لتلك السنة، فقام الفيزيائي الفرنسي جان فرينل بتقديم ورقة يشرح فيها الظاهرة اعتماداً على النموذج الموجي، بعدها حاول مواطنه سيميون بواسون والذي كان مخالفاً لهذا النموذج بإثبات خَطأهِ، وبرهن أنّه اعتماداً على نموذج فرينال، فإنّه إذا وضعنا عائقاً دائريّا أمام مصدر نقطي للضوء ستظهر بقعة مضيئة على محور مركز العائق، وهذا سخيف جدّا إذا كان الضوء جسيماً، لكن فرضيات فرينال تقود لهذه النّتيجة، وفعلا قام الفرنسي فرانسوا أراغو بتجربة حذرة وكانت المفاجأة أن ظهرت البقعة المضيئة حسب نموذج فرينال وحسابات بواسون.
هذه كانت نهاية النموذج الجُسيمي، أجل كانت نظرية جيّدة وكان نيوتن من مدعميها، ولكن الدلائل التجريبيّة كانت تشير إلى اتّجاه آخر، وهكذا تجري الأمور في الفيزياء.
بعد عدّة قرون من العمل حول الكهرباء والمغناطيس وصف ماكسويل كلّ شيء بخصوصها في 4 معادلات في 1864 معروفة باسمه، هذه المعادلات تستلزم وجود موجات تنتقل في الحقل الكهرومغناطيسي وسرعتها كانت قريبة بشكل مدهش من سرعة الضوء، فاقترح أنّها بالفعل موجات الضوء، وبعد بضع سنوات وبالتّحديد في 1887 اختبر هارتز هذا الاقتراح، وتمكّن من إنتاج هذه الموجات وكشفها، كان هذا انتصاراً عظيما للفيزياء والنموذج الموجي بصفة خاصة، لأنّ هذا مختلف عمّا ذكرناه سابقاً، لم نفترض طبيعة الضوء، بل حتى لم نفترض وجوده، أثبتنا ذلك انطلاقاً من مبادئ أوليّة لا خلاف فيها، وهذه أقوى الطرق المستعملة في الفيزياء.
بالرّغم من أنّ النّظرية الكهرومغناطيسية كانت دليلا قويّا على موجيّة الضوء، إلاّ أنّها لم تكن نهاية القصة. ظاهرة معروفة قد عمل عليها الفيزيائيّون لوقت طويل كانت على وشك أن تجعل بعض الرؤوس مُوجَعة، كان ملاحظاً أنّه عندما يتّم تسليط الأشعة فوق البنفسجية على المعادن فإنّها تفقد بعض الإلكترونات، وكان هذا منطقيّا فالموجات تحمل طاقةً وتأخذها الإلكترونات لتتحرّر من الذّرة، لكن مع الوقت أصبحت التّجارب أكثر دقة ولوحظ شيء غريب، تحت تردّد محدد لا يحدث هذا التّأثير الكهروضوئي مهما كانت شدّة الضوء، الشيء الغريب هو هذا الاعتماد على التّردد لأنّه طبقا للنّظرية الكهرومغناطيسية طاقة الضوء تعتمد على الشدّة فقط، ولا دخل للتّردد بأي شكل من الأشكال.
من أجل حل هذه المعضلة، قام الفيزيائي الألماني ألبرت اينشتاين سنة 1905 بناءً على أفكار مواطنه ماكس بلانك بافتراض أنّ الضوء مكوّن من أشياء منفصلة (تسمى فوتونات) تمتلك طاقة تتناسب مع تردّد الضوء، هذا التقسيم شرح لماذا لا يحدث التّأثير باستعمال ضوء ضعيف التّردد بغض النّظر عن شدّته، كل تلك الشدّة تأتي في قطع منفصلة، و لا قطعة تمتلك طاقة كافية لتحرير الإلكترون، لا يوجد بناء مستمر للطّاقة مثلما هو متوقع من الموجة، لم تقبل الفكرة بشكل كامل لأنّها تخالف نظرية ماكسويل التي كانت ناجحةً بشكلٍ كبير، لكن لم يكن هناك خيارات كثيرة كما أنّ معادلات اينشتاين كانت دقيقة في وصف النّتائج التجريبيّة، يبدو أنّ فكرة الطبيعة الجزيئيّة للضوء أُعيدت للحياة.
سنة 1923 لاحظ الفيزيائي الأمريكي آرثر كومبتون أنّه إذا قمنا برفع التّردد أكثر فإنّ الإلكترونات لا تمتص الفوتونات، بل إنّ الفوتونات تنحرف عن مسارها و يقلّ تردّدها، ولم يمكن تفسير هذا بالنموذج الموجي على الإطلاق، و فسّر كومبتون الظاهرة التي تحمل اسمه باعتبارها تصادمات بين الفوتونات والإلكترونات، واستخدم زخم الفوتونات المقترح من طرف اينشتاين و تماشت الفكرة مع النتائج التجريبيّة بشكل جيّد، و قد حصل هو واينشتاين على جائزتي نوبل لهذه الأعمال في 1921 و 1927. هذه الملاحظات لا يمكن تفسيرها بالنموذج الموجي و هي دلائل قوية على كون الضوء جسيما، إذاً هل نتخلى عن النموذج الموجي؟ لا يمكننا فعل ذلك لأنّه لن يمكن تفسير ظواهر أخرى مثل التّداخل، ما هو الحل إذاً؟ وأيّ نموذج علينا أن نتبنى؟
عادةً في الفيزياء نواجه العالم بأحكامٍ مسبقة، لدينا فكرة محفورة في عقولنا ونريد من العالم أن يحترمها، وحقيقةً ينجح هذا في كثير من المرّات، ولكن في مرّات أخرى يظهر العالم بشكل مختلف عمّا نجبره أن يكون، وهذه واحدة من تلك المرّات، على أيّ أساس فرضنا أن يكون الضوء موجة أو جسيماً، إنّ هذا بالفعل تخمين عقلاني، ولكن عندما يقدّم لك العالم دلائل قوية فإنّ التّخلي عن التخمينات العقلانيّة يصبح أكثر عقلانيّة، وهذه المرّة فلنقبل أنّ الضوء أكثرُ تعقيداً من أن يوصف بأنّه موجة أو بأنّه جسيم، طبيعته أعمّ من هذا وله كلا الخاصيتين التي تتجلّى على حسب الظروف.
إعداد: عمر الفاروق كسير.
تدقيق: بوسيف ميّادة.