في التفلسف، لا يمكننا إيقاف علَّة التفكير. يتوجب أن تأخذ مجراها الطبيعي، والعلاج البطيء هو الأهم.
لودفيج فيتغنشتاين
ضمنيا، نتساءل في هذه المناقشات عن جائحة الكورونا COVID-19 إذا ما كانت هناك معايير أو “قواعد” للإنسان؟ في السابق كانت مهمة تكوين النظم التي بموجبها تم إعطاء الحدود وكذلك العتبات الجديدة المجهولة للأفعال، مقتصرة على الفلسفة. كتب أرسطو في كتابه “السياسة”:
إن السفينة التي يبلغ طولها شبرا فقط لن تكون سفينة على الإطلاق، ولا حتى سفينة بطول ربع ميل؛ ومع ذلك، يمكن أن تكون هنالك سفينة ذات حجم معين، إما كبيرة جدًا أو صغيرة جدًا، ستظل سفينة، لكن سيئة للإبحار.
(أرسطو ، السياسة ، الكتاب 7 ، 1326b1).
هذه القيود ترتبط بالطبيعة كذلك، هنالك تأثير حرج يقبع خلف تقييد الطبيعة لتكوين طيور قادرة على الطيران لأسباب تتعلق بمشاكل في الإقلاع. بمجرد أن يتوفر لدينا النظام، الذي يشير على مقدار كل عنصر -طول الأجنحة، الوزن وقوة الأنسجة- بعدها يمكن معرفة مقاديرها المحتملة تناسبيا مع بعضها البعض. باتباع النظام، أو النقد بالمعنى الكانطاني (نسبة إلى كانط)، نصل إلى معايير أو بعض الإعدادات التي تشكل “القاعدة” التي يستخدمها النقاد في حكمهم. قد يقول ناقد موسيقي معروف وملم بأحدث القواعد أن أغنية بوب ما لا تمتلك تناغما واحدا.
في ذات النص، وضع أرسطو معايير للمدن أيضا، خاصة المسافة المثلى بين المدينة والبحر، إذ يوضح أنه كلما كان البحر بعيدا عن المدن كلما كان الحال أفضل. فحتى في وقتنا الحالي، يشكل البحر تهديدا من النوع غير المألوف، والغامض، فهو يعتبر بوابة دخولٍ للغرباء، اللاجئين والمنحطين. هذه الأسباب ذاتها التي تثير في معظمنا اليوم شعور النفور والكراهية، قواعد الكارتل اليوناني* مدمجة مع دستورٍ مسيّر من قبل عدد قليل من الرجال، مع استبعاد النساء والعبيد من ديمقراطيتهم، لا يمكن أن تكون هذه معاييرنا في السياسة.
نفترض من الاستخدامات الشائعة لمصطلحي “طبيعي” و”عادي” أن الطبيعة هي مجموعة من القواعد. المبدأ العام لهذا الفكر المضلل هو كوناتوس سبينوزا (الجهد) ** -النزعة لدى جميع الكائنات التي تسعى بها في كيانها. ومع ذلك، إذا كانت هناك نزعة في كل شيء (بقدر ما هي الأشياء)، فهي أن تطيل نفسها بما يكفي في “بيئة/وسط” في سبيل أن تستمتع بكونها -غير كينونة مختلفة- وتكون في مكان مغاير. تختلف هذه التغييرات في فتراتها عبر الأنظمة الحية وضمن كل نظام حي. داخل أجسامنا، تجدد معظم الخلايا نفسها في غضون أسابيع، تكتسب المناعة، وتخضع للطفرات. يشير الاستتباب الداخلي*** إلى الاستقرار النسبي كخاصية للأنواع، بينما يستبدل الإنتواع**** مجموعة سابقة من القوى بمجموعة جديدة. كان داروين مهتما بالتناسب الحاصل بين الوسط الخارجي والداخلي لأشكال الحياة. يمكننا فهمه على أنه التعديل المتبادل للأشكال الداخلية والخارجية. الطبيعة بالكاد عادية. أي أن الشكل في شكل حي ليس نموذجا أفلاطونيًّا، ولكنه شيء أقرب لفصل مصارعين لا يمكن تمييزهما في لحظة تلاحم قوي.
إن الفيروس، الكائن الذي يتحدانا، متواجد في مكان ما بين مفهومنا للكائنات الحية وغير الحية. قدم جيدو بونتيكورفو Guido Pontecorvo -عالم الوراثة المولود في بيزا- تنبؤات معينة حول الأوبئة الفيروسية في عام 1948، مفترضا أن إصابة مضيف بشكلين غير فتاكين من الفيروسات في آن واحد قد تنتج شكلاً جديدًا سيؤدي بعد ذلك إلى ظهور أوبئة من النوع الذي نمر به حاليا. لكن الفكرة الكامنة وراء هذا التوقع كانت أن الفيروسات تتكاثر جنسياً، وهو ما ينتهك واحدة من أقوى مفاهيمنا لـ “قاعدة” الحياة. حيث ينطوي المفهوم الطبيعي على “قاعدة” للتكاثر الجنسي توجب وجود أعضاء متخصصة لتبادل المواد الوراثية. ولكن في الواقع، إن أي آلية يتم من خلالها إعادة التركيب الجيني هي تكاثر جنسي.
لقد كنا، خاصة في السنوات الأخيرة ، ننسب لأنفسنا ولما يسمى الطبيعة عدة قواعد. هذه السمات لها مبدأ عام -الفيزياء الدونية hypophysics– والتي تعتبر أن الطبيعة تتوافق مع الخير. يعتبر أمر ما جيدا عندما يكون قريبًا من طبيعته ويكون شرًا بابتعاده عن تلك الطبيعة. إن التفسير الأخلاقي للنظام الأرضي والحيوانات سهل التمييز هنا. تم تحديد “القواعد” للحيوان البشري كذلك. على سبيل المثال، يُفترض أن “ظروف الحياة الطبيعية” بأنها طبيعية للإنسان وأن كل شذوذ فيها ينظر إليه بعين شك. بالنسبة لغاندي، كانت هذه “القاعدة” هي الحياة المثالية لرجل من الطبقة العليا الثرية في قرية هندية. بالنسبة لجورجيو أغامبين، فإن “القاعدة” هي “الظروف الطبيعية العادية” التي تحيط بها الثقافة في بلدة مثالية الحياة، أين لا تزال الكنائس تحدد أسلوب الحياة. نحن ندرك أنه لطالما كانت الظروف المعيشية لقلةٍ محظوظة ،التي أصبحت “قواعد” للثقافة؛ ما أنتج استجاب حرمان الأغلبية من هذه “القواعد” ذاتها لكي يحققها الآخرون؛ وأن “المفكرين البرجوازيين” يضعون نظريات للحفاظ على كيانهم.
ضمن سلسلة المفكرين هذه يبرز بيير كلاسترز – Pierre Clastres، فهو أيضًا كانت لديه قاعدة، مع أنها لم تكن مستنتجة من بيئته الخاصة وإنما من خلال ما أسماه “المجتمع البدائي”. إن الانحراف عن “القاعدة” في المجتمع البدائي يجعل “الدولة” تظهر، وعند تلك اللحظة بالذات يتم فيها سلب طبيعة الإنسان. بحث كلاسترز عن آثار الدولة في المجتمعات البدائية، لكن كلّ ما استطاع اكتشافه هو أنه عندما يُستحضر شيء -مثل الفأس المعدني- إلى مجتمع بدائي من الخارج (العالم الحديث) فإن جهدهم -كوناتوس- سينهار. يجب أن نرى بكلماته الخاصة الصورة الكاملة لـ “قاعدة” الإنسان ،أو الجهد -كوناتوس.
المجتمع البدائي، إذن، هو مجتمع لا يهرب منه شيء، ولا يسمح لأي شيء بأن يخرج من تلقاء نفسه، لأن جميع المخارج مسدودة. بالتالي، يجب على المجتمع أن يعيد إنتاج نفسه بشكل دائم دون أن يؤثر عليه أي شيء طوال الوقت.
لنسمي كل هذه النظريات للقواعد المقترحة المثالية “بديهيات”، باتباع المثال الذي وضعه فوكو. مثالية البديهية مشتقة من الفيزياء الدونية -hypophysics-؛ إنها، لحظة في تاريخ القلة تُفسَّر على أنها الطريقة الطبيعية للوجود لأنها تمثل “ظروف الحياة الطبيعية”. وراء الظواهر العديدة “للسياسة الحيوية” تكمن حالاتها الخاصة لمثالية البديهية.
كان تحديد القواعد مهمة الميتافيزيقا -الماورائيات- حتى القرن الماضي. فقد قامت الميتافيزيقا بضبط هذه القواعد من خلال اعتبار “الكينونة” بمثابة قابلية التمايز الأساسية. في “لغات البرمجة” القابلة للتمايز، نجد أن هنالك فوارق بين لغات الأسمبلي (Assembly Languages)، ولغات الكومبيلد (Compiled Languages). المُتمايَزة لا يمكن تنبؤها من المُتمايِزة، ولهذا، لا نقول أبدا أنّ “إن الدالة معادلة خطية”. خلقت هذه العمليات سلسلة من الفوارق في الميتافيزيقا، كالتي بين “الفكرة” و”الأشياء”، و”الإله” و”المخلوقات”، وما إلى ذلك. اِنطلاقا من هذه الأزواج، يمثل العنصر الأول الكينونة العليا التي تُأسّس “القواعد” للإنسان. كان هيدجر ليُنشِئ تشعّبا جديدا اِستثنائيّا بين الكينونة والكائنات، بلا تمايز، وكان ليُطلق عليه الاختلاف الأنطيقو-أنطولوجي. أدى هذا الاختلاف الغريب -إذا كان هذا منطقيا، فهو غير مفهوم- بالميتافيزيقا إلى نقطة تعليق. إلى أن أنهى جين لوك نانسي هذه المعاناة بكتابته لـ “الوجود يتفوق ويُنجح نفسه.”
هذه الأفكار، والتي تشكل سلسلتها الخاصة، تُظهر لنا أن الطبيعة ليست طبيعة وتشير إلى أن كل شيء يحل بنا له سبب؛ بالأحرى أنّ كلَّ شيء يدفعنا إلى إعطائه سببًا. في الواقع، نحن نعلم أنه يمكننا توقع مسار التعاقب من شيء إلى شيء آخر، أو حالة إلى حالة أخرى. فحتى هذه الجائحة تم التنبؤ بها عدة مرات في الماضي. عندما يُحقِّق توقع ما غايته يكون هنالك شعور بالرضى، مثل أن نتوقع تساقط شهب البرشويات شهر أغسطس ولا تخيب آمالنا. أما في حالة عدم تحقيقه لغايته، يكون هناك تفاجؤ أو خيبة أمل. رغم كل التوقعات المتعلقة بالكوارث المختلفة في العالم، فإننا نواصل التفكير بيقين مطلق أن هذا العالم نفسه لن يتقهقر، وأنه لن يخيب ظنًا، على الرغم من أننا لا نستطيع تقديم سبب لذلك، لأنه لا يوجد سبب لعدم تقهقره في هذه اللحظة بالذات. سبب يدفعنا تجاه هذه التجربة حينما ننغمس فيها. منطقياً، يمكننا التكيف مع هذه التجربة -وهي التجربة الأكثر دنيوية وتشاركا بالنسبة للبشرية – بالقول أن نهاية العالم ليست حدثًا في العالم، وبالتالي فهي ليست كذلك. في الوقت الحالي، فلنضع عليها علامة على أنها “تجربة غامضة”.
في هذا الظرف الحالي، شيء آخر يتبع هذه التجربة الغامضة. كما اكتشف فيتغنشتاين – Wittgenstein لاحقاً، أن التجارب تُعطى حسب الحالة التي يتم مشاركتها في المجتمعات، بلغة الشعب. تشير استحالة تدوين تجربة خاصة بشكل تام إلى أن المرء لا يستطيع لوحده فهم التجربة المذكورة. حجة فيتغنشتاين تلغي سلطة كل تصوف. بدلاً من ذلك، يبقى لدينا هذا اللغز الدنيوي المشترك الذي لا يمكن فك تشفيره بالمنطق، رغم تحويطه له. هذه التجربة الشائعة -يقين مطلق بأن العالم سيدوم- لا تخلق أي “قاعدة”، وهذا راجع لكونها غامضة. بدلاً من ذلك، فهي تطالب بأن لا “نلعب” السياسة بطريقة -هي الأكثر مشاركة من بين جميع التجارب- يتم الاستسلام فيها لمثالية البديهية، أو للوفرة التكنولوجية.
لقد حان وقت التمعّن مجددا في علاقتنا بالتكنولوجيا، وكل من التقنيات الحيوية والتقنيات الحسابية، ونموهما المتقارب. بدأت بعض التحولات الجذرية في تاريخ البشرية بالقرن التاسع عشر، عندما قدَّم سيملفيس – Simmelweis مفهوم خلق حاجز بيننا وبين الميكروبات من خلال غسل اليدين. بالإضافة إلى كوخ – Koch، باستور – Pasture، وعديد العلماء الآخرين، عندها شرعنا في تحمل مسؤولية “أجهزتنا المناعية” وتوجيهها وفقًا لصالحنا مستخدمين اللقاحات، مضادات الفيروسات والأدوية المثبِّطة للمناعة. الوصول اللاحق للروبوتات النانوية (هندسة المستوى الذري، تم تحقيقها بالفعل) والتي ستجري عبر جهازنا الدوراني، بشكل يجعل أنظمتنا المناعية مجسدة كليا، ومكملةً إنتواعَنا الجديد.
قمنا برسم نظام نقل حول الأرض أشبه بالجهاز الدوراني، عندما بدأنا الجَولان بالأرض منذ ما يقارب الخمسين ألف سنة، كنا قد بدأنا بالفعل في عملية ربط أقطار الأرض ببعضها البعض، تمثّلت بعد ذلك بطريق الحرير والإنترنت. هناك العديد من الحالات التي يمكن أن نلاحظ فيها أن النظام المناعي المجسد، الإنترنت الشبيهة بالجهاز الدوراني والسلع الأساسية، كلها مدمجة. على سبيل المثال، الأدوية التي تساعد الجهاز المناعي يتم إنتاجها في آسيا، ثم تصدر لباقي دول العالم. يمكن تسيير الأنظمة الطبية الحيوية عن بعد عبر الإنترنت. معًا، أصبحنا كعضو واحد من صنع أيدينا على الأرض.
ماذا إذن عن الأرض؟ على الرغم من أنها قد تبدو فكرة بغيضة، فإن “الأرض” بدورها مُقحمة بالفعل في النظام الدوراني هذا، الذي بدأ على الأقل مع الزراعة. إن الرفاه الخاص بهذا الجهاز الدوراني العالمي سيعاني من الفيروسات مرة أخرى مستقبلا. كما تحجج محمد وساندبرج، أن خبث كل من الفيروسات التي تصيب الكمبيوتر والفيروسات التي تصيب جسم الإنسان ستكون شبيه لدالة معدل التغيّر التفاضلي للنظام الدوراني العالمي، وأظهرا أن الفيروسات العضوية ستصبح كذلك جزءا من الهندسة قريبا.
اليوم، تقف القوميات ومختلف الميول العرقية المتمركزة في طريق رفاه النظام الدوراني العالمي هذا. بسبب الحروب البيولوجية الإلكترونية المحتملة، إن النظام الدوراني العالمي نفسُه معرضٌ للخطر. في نهاية المطاف، سيتم استيعاب عناصر هذه الأنظمة الأقدم للعالم بمجموعة جديدة من القواعد. ومع ذلك، فقد حان الوقت والظرف (تجربة الإنفلونزا في النظام الدوراني العالمي) بالنسبة لنا لنُفكِّر معًا في النماذج المستقبلية لكينونتنا، معًا كأولئك الذين تشاركوا التجربة المألوفة وحتى الغامضة. بهذه الطريقة نعود إلى نقطة البداية: ما لم ندرك، جميعا، بكل مكان، أن هذا العالم هو الإنتماء المشترك بمساواة للجميع في مشاركة اليقين الغامض، بل المطلق لاِستمراره، وخلق مفاهيم سياسية وتشكيلات جديدة، قد تصبح هذه السفينة إما أصغر أو أكبر من أن تبحر مرة أخرى.
المصدر: هنا
(*) كارتل (Cartel) كلمة أو مصطلح لاتيني مشتق من كلمة (Charta) اللاتينية والتي تعني الميثاق.
(**) الجهد هو الوظيفة الوجودية للنفس، أي الوجهد الذي تبذله لإثبات وجودها.
(***) الاستتباب الداخلي أو التوازن الداخلي هي خاصية لجسم كائن حي، ينظم الجسم بها بيئته الداخلية بغرض الحفاظ على استقرارها وثباتها أمام تغيرات قد تكون داخلية أو خارجية.
(****) الانتواع (بالإنجليزية: Speciation) هو عملية تطورية تظهر بواسطتها أنواع جديدة من المخلوقات الحية.
ترجمة: بشرى بوخالفي، رامي نزلي.
مراجعة: نصرالدين بلبكري.
تدقيق لغوي: عمر دريوش.