بعد مقتل (جورج فلويد) في (مينيابوليس) واندلاع عنف الشرطة إتجاه المتظاهرين ردا على الاحتجاجات في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، تأتي الدعوات،أيضا، من حول العالم للتغيير في نظام الشرطة من نشطاء و مسؤولين ومشاهير سياسيين ومواطنين غاضبين تحت وسم (#Abolish_the_police) بمعنى إلغاء جهاز الشرطة.
و على عكس المحاولات السابقة الداعية لإصلاح الشرطة في أعقاب عمليات القتل البارزة للأشخاص الملونين أو ضد المحتجين على الظروف الاجتماعية أو السياسية القاهرة، والتي تركزت في الغالب على الدعوة إلى إعادة الهيكلة أو تغيير نمط التدريب الموجه للأجهزة الأمنية، فإن المطالب الجماهيرية حول العالم هذه المرة باتت أكثر راديكالية: إيقاف تمويل الشرطة و إلغاء الجهاز تمامًا.
الشرطة في أي بلد في العالم جهاز مخيف، لأنه يستخدم العنف بالقانون. الشرطة مواطنون مثلنا، وظيفتهم حمايتنا من العنف عبر استخدام العنف ضدنا! هذا التناقض الغريب في دور الشرطة هو مصدر الرعب الناتج من وجودهم في حياتنا. الرادع الأساسي هو وجود قوانین صارمة جدا تنظم عمل الشرطة وتضع ضوابط شديدة للحالات التي يسمح فيها باستخدام العنف، وهذا ما لا يحصل و من الصعب تطبيقه في كثير من الأحيان والبلاد والسياقات.
عنف رجال الشرطة ليس ظاهرة أمريكية بل تتفشى عقليتهم القمعية في كل أنحاء العالم.
خلال “الربيع العربي”،كان فساد وقمع أجهزة الشرطة في العديد من الدول العربية وتحولها من حماية الشعوب إلى قهرها وإذلالها أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع ثورات” الربيع العربي”، حيث كان عنف الشرطة في تونس الشرارة الأولى لاندلاع احتجاجات أسقطت عدة أنظمة عربية، بعد ما أقدم المواطن التونسي “محمد الطيب البوعزيزي” بحرق نفسه نتيجة قيام عناصر من الشرطة بمصادرة عربة الفاكهة التي كان يجرها في الأزقة، محاولا شق طريقه إلى سوق الفاكهة والاستيلاء على بضاعته.
تلقى “البوعزيزي” صفعة على وجهه من إحدى الشرطيات فهانت عليه نفسه وأشعل النار في جسده… ومنذ ذلك اليوم نامت أعين “البوعزيزي” للأبد… لكن عين العرب لم تنم… حيث تحولت حادثة حرقه لنفسه إلى سبب اندلاع للثورة على الفقر والظلم، استلهام مشاعر الكرامة والتضحية بالنفس و تفجر مشاعر السخط على نظام الشرطة.
بعدما أصاب الربيع العربي، عادت هذه الأجهزة من جديد لتكون أكثر قمعا وبطشا بالشعوب، وأصبحت التجاوزات والانتهاكات التي ترتكبها شبه محمية من قبل الأنظمة التي تولت الحكم في تلك الدول، مما فتح الباب أمام ملف إصلاح أو إعادة بناء أجهزة الشرطة.
بعد حوالي عقد من أحداث الربيع العربي، عاد إلى الواجهة بطش البوليس تزامنا مع حادثة مقتل (جورج فلويد) و الذي تم قتله بدم بارد على يد شرطة (مينابوليس)بسبب تهمة كتابة شيك مزور. حيث شارك العديد من النشطاء العرب ونشطاء من مختلف دول العالم عبر وسائل التواصل الإجتماعي بصور تظهر الكلمات الأخيرة لضحايا إطلاق النار من الشرطة في بلدانهم على إثر احتجاجات مختلفة : “أرجوك، لا تدعني أموت! لماذا أطلقت النار علي؟ لقد وعدتني أنك لن تقتلني”.
كل هذا في ظل نقاش موسع حول إصلاح جهاز الشرطة أو إلغاءها… يتسائل البعض : “كيف سنكون آمنين في ظل وجود الشرطة؟ كيف سنكون آمنين بدونهم؟ “
يقول الكاتب الصحفي (ديريكا بارنال)عبر مدونة(بوسطن ريفيو):” يجب على الشعوب المضطهدة أن تتخلى عن الأنظمة التي تضر بها. الشرطة ليست في خدمة العامة ولم تخدم مصالحهم يوما . تعتقل الشرطة و تركز عملها حصريا على الناس من الفئات الهشة لترسلهم إلى السجون لملئ الأسرة. ضباط الشرطة هم جنود مشاة، مجتمع قمعي ، والفقراء هم أهدافها”.
يقول (ديريكا ): “يتطلب الإلغاء أكثر من اختفاء ضباط الشرطة من الشوارع. وهذا يعني تقليل الاعتماد على الشرطة تدريجيا ثم القضاء عليها. يجب علينا توسيع مفاهيم الإلغاء و معرفة بداياته.”
لا يمكن فهم فكرة “إلغاء الشرطة ” بشكل منفصل عن حركة “إلغاء السجون”، التي بدأت في أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن المنصرم. عبر نشطاء من أمثال (أنجيلا ديفيس)، (روث ويلسون) و (غيلمور) الذين ،كانوا يسعون للحد من السجون وأنظمتها أو إلغاءها، واستبدالها بأنظمة إعادة تأهيل، لا تضع كل تركيزها في العقاب وترسيخ الطابع المؤسسي السلطوي.
تكتب (أنجيلا ديفيس) في هذا الصدد: «إن السجن الجماعي ليس حلًا لمشلكة البطالة، وليس حلًا لمجموعة المشكلات الاجتماعية الجاري إخفاؤها في شبكة سريعة النمو من المعتقلات والسجون. ومع ذلك، ينخدع الغالبية العظمى من الناس ويعتقدون بفعالية السجن، على الرغم من أن السجل التاريخي يُظهِر بوضوح أن السجون لا تنجح».
بعد توسع فكرة “إلغاء السجون” بدأ النشطاء يتجهون نحو مركز الخلل الأول -جهاز الشرطة- ،كتبوا حينها وثيقة تسمى “القبضة الحديدية والقفاز المخملي” ، حيث بدأوا مناقشة واسعة عنوانها: “هل هناك أي عمل شرطي في الواقع أدى إلى نتائج جيدة؟”
وثيقة تقول في مجملها أن على المجتمعات أن تفهم أنه من أجل تحقيق “إلغاء السجن” ، يجب فعل شيء حيال الشرطة أيضًا. لذلك بدأت حملات إجتماعية في الظهور بين النشطاء الذين أرادوا في البداية سجن بعض رجال الشرطة القاتلين و الفاسدين، ولكن بعد ذلك بدأوا يرون أن ذلك لن يحل المشكلة حقًا. حيث يتطلب الأمر أكثر من اختفاء بعض من ضباط الشرطة من الشوارع.
تقول (أنجيلا ديفيس): “عندما نفهم الطبيعة الأساسية للشرطة ، حتى لو كان المجتمع يسيطر عليها ، فإنها لا تزال مؤسسة تابعة للدولة تعتمد على استخدام العنف لإصلاح المشكلات. وتاريخياً ، لم تعمل أبداً لصالح الفقراء وغير البيض بل كانت دائما جهاز يعمل لصالح الأنظمة و الأثرياء و الطبقة البرجوازية”.
“كيف سنكون بأمان مع الشرطة؟ كيف سنكون آمنين بدونهم؟”
يجادل البعض متحججا: “ماذا يحدث عندما لا تفعل الشرطة أي شيء؟ من سيحافظ على القانون والنظام إذا ألغيت الشرطة ؟”
يشرح (ميشيل دينزل سميث) نشاط الشرطة بهذه الطريقة: “90 في المائة من وقت الضابط غير مكرس لسلامتنا ، بل بالأحرى لفعل أشياء قد نجدها مزعجة (مثل مصادرة السجائر غير الخاضعة للضريبة، إنشاء سوق سوداء بالنسبة للسلع التي تهدد أرباح الشركات التي تدعمهم وإدخال احتمال العنف حيث لا يوجد سبب إلى ذلك). إن رجل الشرطة يفرض تطبيق القانون بشكل تعسفي وفقا لمفهوم السلام الشخصي لكل ضابط منهم بعيدا عن مصلحة الأمن العام”.
لا تقتصر عملية إلغاء الشرطة على إنهاء عمل أقسام الشرطة في العالم على الفور حسب (ميشيل دينزل سميث). بدلاً من ذلك ، نحن نتحدث عن عملية تدريجية لإعادة تخصيص الموارد والتمويل والمسؤولية بشكل استراتيجي بعيداً عن الشرطة ونحو النماذج المجتمعية للسلامة والدعم والوقاية. يجب أن يكون الأشخاص الذين يستجيبون للأزمات في مجتمعنا هم الأشخاص الأكثر استعدادًا للتعامل مع تلك الأزمات. بدلاً من غرباء مسلحين بالبنادق.
الجريمة ليست عشوائية. في معظم الأحيان، يحدث ذلك عندما يكون شخص ما غير قادر على تلبية احتياجاته الأساسية، لذا، من أجل “مكافحة الجريمة” حقًا، لسنا بحاجة إلى مزيد من رجال الشرطة؛ نحن بحاجة إلى المزيد من الوظائف، والمزيد من الفرص التعليمية، والمزيد من البرامج الفنية، والمزيد من المراكز المجتمعية، والمزيد من موارد الصحة العقلية، والمزيد من النقاش في كيفية عمل مجتمعاتنا بشكل تضامني مدني. بالتأكيد، في هذه العملية الانتقالية الطويلة، قد نحتاج إلى فئة صغيرة ومتخصصة من الموظفين العموميين الأمنيين تتمثل مهمتهم في الرد على الجرائم العنيفة في حالات استثنائية.
لكن جزء مما نتحدث عنه هنا هو الدور الذي تلعبه الشرطة في مجتمعنا. الآن، رجال الشرطة لا يستجيبون فقط لجرائم العنف؛ إنهم يوقفون حركة المرور غير الضرورية، ويقبضون على متعاطيي المخدرات ذو الأعمار الصغيرة بشكل عنيف و قاتل في كثير من الأحيان، يضايقون الأشخاص من السود والملونين، وينخرطون في مجموعة واسعة من السلوكيات القمعية التي لا تؤدي إلا إلى إبقاء المزيد من الناس البريئة تحت إبهام نظام العدالة الجنائية.
في العديد من المجتمعات، الشرطة ضارة بشكل نشط. تاريخ الشرطة هو تاريخ من العنف ضد المهمشين، تم إنشاء أقسام الشرطة أول مرة في أمريكا أصلاً للسيطرة على الفئات الهشة وتجريم مجتمعات من العمال الملونين والفقراء البيض، وهي وظيفة يواصلون القيام بها حتى يومنا هذا.
لقد نمت القائمة المستهدفة من طرفهم عبر زمن ممتد: أشخاص من ذوي الميول الجنسية المثلية والثنائية، المتحولين إلى الجنس الآخر، ذوي الاحتياجات الخاصة، الفقراء،والثوريون و المتدينون. بسبب هذا الاستهداف الموسع يتعرض الكثير منا للاعتداء من قبل رجال الشرطة على أساس يومي. وهي أكبر من مجرد وحشية نظام أمني. إنها تتعلق بخطة ممنهجة لتدمير مجتمعات من أجل حفظ مصالح فئة سلطوية ضيقة.
رجال الشرطة لا يمنعون العنف. إنهم غالبا من يتسببون فيه من خلال الاضطرابات العنيفة المتتالية في كل مكان،التي دائما ما كانت الشرطة نقطة بدايتها.
تدقيق لغوي: سارة ريشان.