مالذي ستقوله فتاة صغيرة من أنمي ياباني حول “ما بعد نهاية العالم” لعالم 2020 حيث الجائحة؟كانت لتقول الكثير، إذا كانت هذه الفتاة ناوسيكا، البطلة من أنمي “ناوسيكا أميرة وادي الرياح – Nausicaä of the Valley of the Wind”، وهو الفيلم الذي أنتجه استوديو الأنمي الياباني الشهير غيبلي. حيث تقع أحداثه في القرن الثلاثين، إذ يُبرز الفلم عالماً ذا تشابهات مقلقة مع واقعنا الحالي، متضمناً أناساً يرتدون الكمامات في مواجهة كارثة عالمية.
منذ السابع والعشرين من مايو، بدأت شبكة HBO بعرض كامل أفلام استوديو غيبلي لتثير بذلك ضجة كبيرة في الصحافة الفنية.كان استوديو غيبلي ومنذ وقت طويل يعد كنزاً وطنياً في موطنه اليابان. لكن القليل من الأمريكيين يفهمون سبب ذلك أو فهموا أهمية روائع استوديو غيبلي الفنية بالنسبة إلى عصرنا الحالي. يوظف نقاد الأفلام الأمريكيين كلمات من قبيل “جميل”، “فاتن”، أو “ساحر”، لوصف أعمال استديو غيبلي، مشيرين إلى أن هذه الأفلام يمكن أن تكون أفلام الخيال المثالية للمشاهدين للهروب من الواقع خلال فترة الحجر.
إن هذه الأوصاف ملائمة. تستحق أفلام غيبلي أن يُشاد بها لرمزيتها الرائعة وشخصياتها الآسرة والمعقدة على نحو مدهش. لكن ما لم يشر إليه النقاد، هو أنه على مدى 40 سنة، أنتج استوديو غيبلي أفلاماً ذات صلة بالعالم المنكوب لعام 2020 بشكل عميق ومؤلم حقاً.
لا نزال في الولايات المتحدة نميل إلى الاعتقاد بالأنمي بأنه مخصص للأطفال. لكن أفلام غيبلي للجميع، أو على الأقل لأي شخص قد إختبر الفرح والأمل، الألم واليأس. هي أفلام تحمل رسائل غير وعظية وغير منحازة، تلهم المشاهدين للتفكير والشعور بشيء خارج عن المألوف.
يحظى الأطفال في أفلام استوديو غيبلي بالنصيب الأكبر من أدوار البطولة، كما أنها بالتأكيد مناسبة للعائلة. لكن أفضل مخرجي الاستوديو، هاياو ميازاكي و آساو تاكاهاتا، كانا يرغبان بأن يواجه أبطال قصصهم الصغار ما يحرق الروح من نيران الدمار والفقد على مستوىً لم يسبق وأن كان له مثيل في أفلام الأنمي الأمريكية.
علاوة على ذلك، لا تُختتم أفلام استوديو غيبلي دائماً على طريقة هوليوود المعتادة حيث “السعادة الأبدية”. مثالاً على ذلك، الطفلان اليتيمان في أنمي المغامرة الخيالية لميازاكي “لابوتا: قلعة في السماء – Laputa: Castle in the Sky“: يكتشفان جزيرة طُوباوية مخفية عن الأنظار عائمة في السماء، فقط ليتعلما درساً مؤلماً بأن البشر قد لا يكونون مستعدين للمدينة الفاضلة.
إن الشخصيات صغيرة السن التي تسكن عالم أفلام استوديو غيبلي مفعمة بالأمل وشُجاعة. لكن في المقام الأول هي شخصيات مرنة تتعامل الفقد والمِحن بصبر مُلهم وحكمة. قد تحدث الكوارث على مستوى شخصي، مثل الفتاة الصغيرة “كيهيرو” التي تفقد والديها فجأة في أنمي الخيال “المخطوفة – Spirited away” الحائز على جائزة الأوسكار. لكنها يمكن أن تحدث على نطاق عالمي أيضاً، مثل الدراما المأساوية التي أخرجها كاتاهاتا “قبر اليراعات – Grave of the Fireflies”، حيث يحاول فتى وأخته النجاة من القصف الذي تتعرض له اليابان بالقذائف الحارقة خلال الحرب العالمية الثانية.
لكن فيلم استوديو غيبلي الذي قد يكون الأكثر ملاءمة لهذا العام الجائحي هو فيلم ميازاكي “ناوسيكا أميرة وادي الرياح – Nausicaä of the Valley of the Wind”، وهو الفيلم الذي مكَّن نجاحه في شباك التذاكر عام 1984 من تأسيس استديو غيبلي. تدور أحداث الفيلم في عالم مستقبلي مروِّع حيث سممت أبواغ1 سامة البيئة إلى درجة أن الخروج يتطلَّب وضع قناع واقٍ طيلة الأوقات. لكن الأقنعة لا يمكنها في نهاية المطاف أن تمنع تأثير السموم. يموت المسنِّون قبل وقتهم، ولا يبلغ الأطفال سنَّ الرشد، وبدلا من التكاتف معًا، يقاتل آخر المتبقين من البشرية بعضهم بعضًا إلى الممات عبر أرض قاحلة سامة.
ربَّما كان لدى مخرجين آخرين انبعاثٌ لشخصية ماكس المجنون2، كالتعامل مع الدمار باستعمال أدوات ذكورية معتادة للقوة الغاشمة، الماكرة وعديمة الرحمة. يمنحنا ميازاكي بدلا عن ذلك واحدة من أكثر إبداعاته إضاءةً- الأميرة الشابة ناوسيكا.
ناوسيكا ذكية- تقوم ببناء مختبر تحت قلعة والدها بغرض دراسة الأبواغ السامة. كما أنها طيارة ممتازة. تُصوِّرها بعضٌ من أكثر مشاهد الفيلم التي لا تُنسى مُحلِّقةً بطائرتها الشراعية فوق القفار. وهي مبارِزة قوية، مستعدة لاستعمال القوة إذا كانت ضرورة حتمية.
ولكن الصفات التي تجعلها الأكثر تميُّزا هي تلك التي يمكنها أن تكون مصدر إلهامٍ لنا جميعًا في الأوقات المظلمة. تلك الصفات هي عطفها العظيم، ذكاؤها الخيالي والمُراعي، وتعاطفها العميق. لا يمتد هذا التعاطف إلى البشرية المكافحة فقط، بل يمسُّ كلَّ الكيانات التي يتشكل منها العالم من حولها.
تؤمن ناوسيكا بأن الحياة كلها مقدسة وتُظهِر ذلك، ليس فقط عندما تمسك بحنانٍ يدينِ مريضتين لأحد رفقاء والدها المسنين، ولكن أيضا حينما تحدِّقُ بعجب مبتهج في الكائنات الوحشية والجميلة بشكل سيرياليٍّ، والتي تمكنت من الازدهار في بيئة سامَّة. إنَّها –ناوسيكا- تمنحنا نموذجًا للتقبُّل، الفرح والشجاعة في عالم يبدو أحيانًا مُظلمًا بطريقة غير مفهومة.
مكَّن نجاح ناوسيكا في شباك التذاكر من تأسيس استديو غيبلي. على مدى حوالي أربعين عامًا من وجوده، أنتج الاستديو 21 فيلما. تشمل هذه روائع ملحمية مثل “الأميرة مونونوكي – Princess Mononoke”، التي تدور أحداثها في عالم مزقته الحرب في القرن الرابع عشر. لكن أعماله تتضمن أيضا جواهر أصغر مثل “جاري توتورو – My Neighbor Totoro”، الذي تتعلم فيه شقيقتان صغيرتان كيفية التأقلم مع مرض أمهما واحتمالية وفاتها.
كلا هذين الفلمين من إخراج ميازاكي، لكن من بين عروض استديو غيبلي الأخيرة لمخرجين آخرين، لعلَّ الأكثر ملاءمة لعصرنا هو الفيلم الاستثنائي الأخير لتاكاهاتا، “حكاية الأمير كاغويا – The Tale of Princess Kaguya”. على الرغم من أن الفيلم قائم على خيال القرن العاشر، إلا أن رسالته بمثابة تردد لصدى الحلاوة المرة الملائمة للقرن الحادي والعشرين. تُرسَل فتاة صغيرة مشعة من القمر لتتعلُّم دروس الحياة المؤثرة على الأرض.
العمل حقيقةً “عذب”، “جميل” و”ساحر”. لكن الحزن والتساؤل الذي يكمن خلف القصة يجعل منها أكثر عمقًا وإلهامًا. كما تقترح أغنية الفيلم، العالم الذي نعيش فيه يشبه عجلة تدور باستمرار، تحمل الفرح، الأسى، الربيع والشتاء. استديو غيبلي يحمل لنا العالم بكل جماله وحزنه الفانيين، وهي رسالة ملائمة للزمن المعقد الذي نعيشه.
هامش:
1: الأبواغ، Spores: هي خلية، أو تركيبة تكاثرية خاصة، تمنح كائنا جديدًا، عن طريق تكاثر لاجنسي، أو جنسي، وهي تشكل واحدة من خطوات دورة الحياة للعديد من البكتيريا، النباتات، الفطريات، الطحالب وحتى الكائنات الأولية (بروتوزوار).
2: ماكس المجنون: شخصية من سلسلة أفلام Mad Max، ماكس المجنون.
المصدر: هنا
ترجمة: سماح صلاح ومنال بوخزنة.
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي