لقد عرف كيركغارد أنه عندما يضطر الفرد لأن يختار بين مسارين مختلفين، فليس هناك كمّ كافٍ من المعلومات التي يمكنها أن تساعد في حل هذه المعضلة.
إن أحد أهم إنجازات كيركغارد الفكرية هي قيامه بالتمييز بين نوعين من الحقيقة. وقد وصفهما أحياناً كالحقيقة “الموضوعية– objective ” والحقيقة “الذاتية– subjective”؛ وعرّفهما أحياناً أخرى على أنها الحقيقة التي تُعرف– known، والحقيقة التي تُعاش – lived. وفقاً لكيركغارد فإن الحقيقة المعاشة والذاتية هي أهم أنواع الحقيقة لجميع البشر الموجودين. ومبطناً في هذا الادعاء هناك نقد للفلسفة التقليدية، لأن أغلب الفلاسفة -بغض النظر عن الخلاف حول كيفية تعريف الحقيقة وكيف يمكن إدراكها وكيف يمكن الوصول إليها- قد ظنوا أن الحقيقة، إذا أمكن إدراكها أبداً، فسيتم إدراكها على شكل معرفة- knowledge.
إن كيركغارد غير مهتم بالنقاشات الفلسفية حول إذا ما كنا نعرف بحق أن الشيء الذي ندركه موجود فعلاً، أو إذا كنا نعرف حقاً أن اليوم هو الإثنين. ففي موضوع المعرفة كنوع من أنواع الحقيقة، يميل كيركغارد نحو التوكيد على غياب الأحكام اليقينية القاطعة: فعلى سبيل المثال، يجادل كيركغارد بأن الوقائع التاريخية لحياة المسيح ليست سوى مسألة إيمان فقط، وليست مسألة معرفة، ويجادل أن الاعتقاد المسيحي بسر تجسد المسيح -incarnation * هو معضلة لا يمكن للمنطق البشري أن يدركها. ولكن أهم شيء في نظره، هو الطريقة التي يرتبط بها كل فرد مع هذه الاعتقادات، أو أي اعتقادات، قيم أو أفكار أخرى. فالمهم هو كيف تُعاش هذه الاعتقادات، بشكل روتيني يوماً بيوم بل حتى لحظةً بلحظة. لقد ركز كيركغارد على السؤال حول ما معنى أن تكون حقيقياً– true، أو ما معنى أن توجد بصدق– exist truthfully.
ويحوم في الخلفية هنا القول المشهور المنسوب إلى المسيح في إنجيل يوحنا: “أنا الطريق، أنا الحقيقة، أنا الحياة.” فلو كانت الحقيقة أسلوب حياة، فماذا يعني هذا بالنسبة للناس العاديين؟ فهذا النوع من الحقيقة الوجودية أو المصداقية يمكن إدراكها بتعابير من الأمانة، أو الشهامة، أو الإخلاص، أو الأصالة. وبالنسبة لكيركغارد على أي حال، الحقيقة المعاشة في الأساس مسألة ولاء -مسألة كون الشخص صادقاً– true نحو شخصٍ آخر، أو نحو الله، أو حتى نحو الشخص نفسه. فعندما تُفهم الحقيقة بهذه الطريقة، تصبح فكرة أننا نعيش داخل الزمن شيئاً محورياً. يركز كيركغارد على فكرة أن الوجود البشري في حالة صيرورة دائمة، متغيرة ومتطورة بشكل دائم إلى درجة أنه لا توجد لحظتان متشابهتان أبداً. ولكن كيف يمكن لشخص متغير أن يكون حقيقياً، أو وفياً لأي شيء؟
وقد كانت لمسألة الوفاء أهمية خاصة في حياة كيركغارد. ففي سنة 1840، خطب كيركغارد البالغ من العمر 27 سنة رغينا أولسن البالغة من العمر 17 سنة. لقد كان واضحاً أن الزوجين كانا متعلقين ببعضهما البعض، ولكن مباشرة بعد خطبته من رغينا، غير كيركغارد رأيه- وكان من الواضح أن السبب لم يكن عدم حبه أو رغبته برغينا. وأعقب ذلك عدة أشهر شاقة من الحيرة: فهل يبقى وفياً لوعده ويتزوجها، أم يكون وفياً لشعوره وينهي العلاقة؟ وأي هذين الخيارين يمثل أن يكون صادقاً نحو رغينا، ولحبه لها؟ في النهاية قرر فسخ الخطوبة على الرغم من الأسى الذي سببه هذا الشيء لخطيبته الشابة. كتب كيركغارد بعد ذلك, “لو كنت أملك إيماناً لبقيت مع رغينا.”
ولم تؤثر هذه الفترة العصيبة على كيركغارد عاطفياً فقط، بل وفرت مواداً لكتاباته الفلسفية. فبعد فترة قصيرة من فسخ خطوبته مع رغينا، غادر كوبنهاغن متوجهاً نحو برلين؛ وقد عاد لمدينته بعد حوالي أربعة أشهر، حاملاً معه في حقيبته مخطوطة أول كتبه الرئيسية، إما \ أو Either/Or. وقد كتب هذا الكتاب تحت اسمين مستعارين، وقد قدما وجهتا نظر متناقضتين حول مواضيع الحب، والزواج، والالتزام، واتخاذ القرارات. وقد كتب كيركغارد بعد إما\ أو كتاباً أسماه تكرار-Repetition، وهو رواية فلسفية قصيرة تتكلم عن شاب يمر بأزمة وجودية بعد فسخ خطوبته. لقد نُشر تكرار في نفس اليوم الذي نشر فيه كتابه ذائع الصيت خوف ورعشة، والذي يركز فيه على القصة الإنجيلية لتضحية إبراهيم بابنه إسحاق**- وهو الفعل، الذي يؤكد كيركغارد على أنه يفتقر لأي تبرير أخلاقي. ويبدو أنه يطابق بين وضعه ووضع إبراهيم. يكتب كيركغارد في نهاية خوف ورعشة: “ما هو الشيء الذي حققه إبراهيم؟ لقد بقي صادقاً– true لحبه.”
إحدى الأفكار التي انبثقت من صراع كيركغارد الداخلي في قصة حبه هي أنه عندما يضطر الفرد لأن يختار بين مسارين مختلفين، فليس هناك كمٌّ كافٍ من المعلومات التي يمكنها أن تساعد في حل هذه المعضلة. بالطبع، يمكن للخيارات أن تكون مدروسة بشكل أفضل أو لا. لكن على أي حال، إن القرارات حول ما يجب أن يُفعل دائماً ما تخص المستقبل- والمستقبل مجهول دوماً. فمثلاً، عندما قرر كيركغارد أن يتزوج رغينا، لم يعرف أنه سيقوم بتغيير رأيه؛ عندما قرر إبراهيم تنفيذ أوامر الله بالتضحية بإسحاق، لم يعرف أن الأمر سيلغى في آخر لحظة. فهذا يعني أن حقيقة الوفاء- fidelity هي خاصةٌ مختلفة عن الحقيقة التي يمكن إدراكها بالمعرفة. عادة ما نجد في أعمال كيركغارد الادعاء بأنه لا يمكن للفلسفة التقليدية واللاهوت -ويمكننا أن نضيف أيضاً المعرفة العلمية- أن توفر الهِداية للأفراد حول كيفية العيش بأمانة تجاه أنفسهم والآخرين.
*سر التجسد: وهو أحد المعتقدات في الديانة المسيحية بأن المسيح هو تجسد لكلمة الله. ففي البداية وكما يقول الإنجيل كانت الكلمة وكانت هذه الكلمة مع الله. ثم من شدة حب الله لأبنائه البشر قام بإنزال كلمته وتجسيدها في رحم مريم العذراء لكي تلد المسيح عيسى أبن مريم.
**نفس القصة موجودة في التراث الإسلامي ما عدا أن التضحية تقع على عاتق إسماعيل لا إسحاق.
تدقيق لغوي: حفصة بوزكري.