فيلم بعلم الوصول: صوت المرأة الصارخ بالهموم والاكتئاب

بطاقة تعريفية بالفيلم.

اسم الفيلم: بعلم الوصول

سنة العرض: 2019

إخراج وسيناريو: هشام صقر

عن الفيلم:

فيلم بعلم الوصول هو فيلم يطلق صوت المرأة معبرا بوضوح وقوة عن همومها واكتئابها ودواخلها النفسية بأبسط الطرق وأقربها لحياة الإنسان العادي في المجتمع المصري.  عُرض الفيلم في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، مونبلييه الفرنسي، ساو باولو، وتورنتو. يتحدث الفيلم بشكل صارخ وبسيط وملهم عن هموم المرأة.

(قد تحتوي المقالة على حرق بعض المشاهد رغبة في تحليلها وتوضيح الصوت الفريد بها).

يبدأ بحركة خفيفة متمعنة في الملامح بالتركيز على انطباعات بطلة الفيلم “هالة”، التي تقوم بدورها الفنانة بسمة، تشعل سجائرها ببطء وحنق. تتابع الدخان المار حتى يتبعثر أمام بخار الشاي الساخن، تتبعثر الروح. نرى بدقة خنقتها وضيقها وحركة جسدها البطيئة المتململة. بطلتنا سيدة فقدت أباها بعد لف على المستشفيات إثر إصابته بسرطان البنكرياس. لقي حتفه بعد شهر من ميلاد أختها الصغرى، ليتركهما مبكرًا لشقائهما في الحياة وأمهما.

تتزوج البطلة وتنجب طفلة. زوجها موظف كادح، عامل في بنك. يعمل بقوته ويحارب ضيقه في الوظيفة وملله وإرهاقه المضني. يعاني من ضغطيْ الحياة والمنزل. يقوم بكل عملية في وظيفته بصعوبة وشق الأنفس كأنه يحارب ويجاهد لكي يتخلص من صخور تعبه. صخور  تعب الإنسان المصري في ظل دائرة الحياة التي تحل بك لكي تنفق وتتعب وتعمل وتسعى في كل اتجاه. لا يشكو ولا يتبرم. يشغل باله صحة زوجته ويسأل عن طبيب لها باستمرار، ويستجدي نصائح الصحة النفسية. يعود بكامل محبته وابتسامته كي لا تنفعل زوجته أو يشق عليها. لا يعطيها ولا يكلفها أي هم. يستجدي سعادتها وراحتها في السر والعلن. يصنع أسبابا قد تخفف عنها دون أن يفصح بأنه المسبب. لا يهمه التقدير لكنه يهمه شريك حياته وحبه وأم ابنته. يهمه صحتها ويصدقها بكل جوارحه.

بينما بطلتنا حزينة. ترفض الذهاب لطبيب نفسي. تعيش في وحدة قاسية. تتكور على ذاتها وتتقوقع داخل نفسها. تتابع رضيعتها بصعوبة وبجهد شاق كأنها تتسلق جبلاً كل يوم. ملامحها حزينة صارمة بها الكثير من التعب. تسعى لتحكي أحيانا لتخرج من عزلتها ووحدة ذاتها. تتحدث عن نفسها وتنشغل بقصص يومها. تشعر بالضعف، ولا ترغب في العودة للعمل. أقل كلمة تشكل ثقلاً هائلاً عليها، بينما هي تجلس وحيدة صامتة أغلب الوقت، تتألم من اكتئابها الناتج عن فقدان الأب واكتئاب ما بعد الولادة. التردد الذاتي والتعب يجعلك محاطًا بهالة من السواد متمركزاً حول الذات، لكن هذا لا يمنع حبها الواضح واشتياقها الدائم وتلعقها بزوجها وابنتها. لم تصرخ ولو لمرة!

يتابع المخرج كل ملامحها ودواخلها النفسية ببراعة وتقوم بسمة بتجسيد كل تلك المشاعر بحِرفية وصدق بالغيْن. ينبع الصدق من تصريحها أنها حين أنجبت بعد الفيلم شعرت بأنها ربما مرت باكتئاب ما بعد الولادة أو اقتربت منه، وربما قد ساعدتها التجربة الشخصية مع براعتها الفنية في تجسيد المشاعر بقوة، سواء في حركة جسدها أو كلامها.

لديها جارة وصديقة تدعى منى، فتاة بسيطة تطلب منها كل فترة أن تجلس مع والدها العجوز لترعاه ساعة أو ساعتين لسبب خفي وهو أن تتخلص من الوحدة قليلاً، وكان السبب ناتجاً عن اتفاق مع زوجها. منى سيدة ربما ترمي بعض “الدبش” كما نقول في مصر، صراحةٌ مفرطةٌ وكلامٌ في غيره محله. يثقل على بطلتنا، لكنه لا يثقل الحب بينهما. منى فتاة مثقلة بالهموم لكنها نشيطة، حركية وبها روح في سرعة كلامها عكس بطء كلام البطلة، في سرعة حركتها، في مشيها، وفي انفعالات جسدها، وربما التناقض والتضاد في حالتيهما وانطباعاتهما يبرز مشاعر كل منهما ويبلورها بقوة ووضوح، مشاعر البطلة وضيقها وتبرمها من ملامح وجهها حين تغمض عن غضب أو عن ضيق وتتجاوزه بسماحة نفس وحب.

يسجن الزوج بسبب خطأ عمل يتهم فيه بالاختلاس، والحل هو الوصول للسيدة صاحبة الحساب التي تسافر، فيسجن على ذمة التحقيق مما يشكل أزمة في المنزل، فعمود الأسرة وظهر البطلة راح، وحين تقابله ليس لها سوى أن تبكي وتخبره بمدى افتقادها له. البطلة التي كانت ترى من قبل أن حل مشاكلها ربما يكون في الحاجة للسفر ورؤية البحر، لتتخلص من الكوابيس التي تراه فيها يرحل عنها، وتتوقف عن البكاء والتألم. لتتخلص من معاناتها ليل نهار، مسيتقظة ونائمة. زوجها الذي كان يشكل في هواجسها نقطة حب وارتباط كان في خطر شاق، ولم يكن همه سوى أسرته وحالة ابنته وزوجته النفيسة.

تعيش مع أمها مؤقتا. تلك السيدة دائمة الغضب عليها وعلى الأخت الصغرى، التي بدورها تحب اللهو، تعشق الرسم وتجيده ببراعة. الأم دائمة اللوم والغضب، تهوى رمي كلام يثير الضيق ويشعل الصدر من الغضب والحزن. تنكل بالبنتين وتفرغ طاقتها وتسقط غضبها عليهما. تتعامل الأخت الكبرى بضيق دون صبر مع الأخت الصغرى التي تقوم بدورها الممثلة السورية “رافل” أو نعمة كما في الفيلم. بطلتنا هالة لا ترى فن نعمة ولا تنظر لمشاكلها ولا لحياتها والتنكيل بها. تنصحها ببرود فقط. تكتفي بنفسها وبنتها وعالمهما. متقوقعة على ذاتها. تعود هالة للمنزل للحصول على بعض الأغراض لها ولبنتها وهناك تجد جواباً في ظرف على زرعة أمام باب الشقة. تطلب منها منى مفتاح الشقة لتقضي بعض الوقت خلسة مع زوجها السري فتنسى هالة. قبلها تمرض الطفلة وتشكل خطر تهديد على البطلة وفي تلك اللحظة يتولد الخوف والخطر على شخص مقرب لقلبها بل قطعة من روحها. تهرع لطلب النجدة من منى لأنها لا تعرف غيرها ولا قريب لقلبها سواها. تمر الأزمة ويمر تهديد آخر حرك مياه عينها وروحها الراكدة.

“أزيّك، ببعتلك رغم إني زعلانة علشان مش بتسألي عليا قلت اسأل أنا. الأمور كويسة عندي الحمد لله، يعني المنغصات ما بين مرض أمي ومشاكل الشغل، بس قادرة كل يوم أسيطر على دماغي ومخليهاش تروح لحتة تانية. قادرة أنزل وأتعامل وده يعتبر إنجاز منتي فاهمة. المهم إنت أخبارك إيه ، يارب تكوني بخير، إبقي طمنيني عليك وخدي بالك من نفسك.. سلام”.

 تعود للعمل، وفي تلك الفترة يموت والد منى، وتعود لحضور العزاء. تجد هالة رسالة على باب شقتها مرة أخرى.

“من يومين أمي تعبت وراحت المستشفى وقعدت أفكر لو جرالها حاجة، كنت زعلانة لأني مش عارفة أعملها حاجة، في وسط إحساس الضعف والعجز اضايقت منها ومن مرادها واضايقت من نفسي، وبعدين قلت وهو من امتى مشاعري ليها منطق؟ ومن امتى زعلي من ترتيبات الحياة بيبقى ليها تأثير؟ ساعات كتير بتحمس عن أفكار معاني كل ده. إيه اللي يخليني قادرة أقوم من السرير في يوم بكل خفة، وأيام تانية بتنفس بالعافية؟ وبعدين مش بقدر أجاري الأفكار دي. بحاول أشغل نفسي في أي حاجة. مش عارفة إذا كنت قادرة تقري الكلام ده ولا لا. أنا عارفة محدش بيستحمل الضعيف لإن كل واحد فيه اللي مكفيه. بس بحس لو مطلعتش الكلام ده هتجنن! أمي كانت دايما بتقولي متفكريش كتير علشان متتعبيش. غريبة أوي ازاي بنتعلم ازاي بنخاف نفكر.. بنخاف نحس بنخاف نعبر لحد مالحياة متبقى بتخوف أكتر من الموت”.
ترى هالة بأن الرسائل قد تكون من زميلة زوجها في العمل، وهي التي كان لدى أحد أهلها أزمة اكتئاب. تقابل تلك الفتاة الطيبة وتشكل معها صداقة جديدة، لكنها تتأكد بأنها ليست هي. تسعى مع المحامي وتهرع في مرة لمنى لتحكي لها عن بعض الأمور، لينشب صراع مع حبيب آخر لها وهي منى صديقتها المقربة، تخبرها منى بمدى أنانيتها وتقوقعها ورحيلها في العزاء وعدم السؤال عليها، وعدم تقدير حالتها المحمودة. “مش كان ممكن أبقى زيك!” خاصة بعد وفاة الوالد في حالتها. تخبرها بما كانت تفعله سرًا وجهرًا لتساعدها وبأنها لا تحد المقابل. حين احتاجت مفتاح الشقة تهربت هالة ولم تعطها. كان ذلك الحوار صرخة لتستيقظ ذاتها ونفسها من الاستسلام والثبات. صراع وصدام هز نفسها وتعابيرها ومشاعرها، من هنا وبجانب الرسائل بدأت ترى منى بشكل حقيقي وتفكر فيها، ترى ابنتها بشكل أكبر، ترى أختها الفنانة ورسمها الرائع، تلك التي تلهو في المدرسة مع البنات وتريد عيش سنها. تصالح أختها الصغيرة بعد صراع نشب بينهما. ترى جمالية رسم الفتاة على حائط غرفتها. شرفة مفتوحة وشمس وبحر. الصفاء والمحبة والسلام والحب. رسمت نعمة ما تحتاجة هالة وما يحتاجه الجميع لنفسه. حرية الروح من كل الألم والإرهاق المضني. ينشب صراع أو أزمة مع كل طرف محيط بها، ينبهها بشكل ما لضرورة النظر لنفسها وحبها وحب الناس والتعامل معهم واستمرار المواجهة واستمرار محاولة العيش والتمسك بالحياة وعدم التكاسل. محاولة معرفة الذات وإنقاذها. في النهاية كل أزمة تترك أثراً، لكن لا شيء يدوم للنهاية، وربما يتغير الفرد لكنه بحاجة لمواصلة الكفاح ومن حقه أن يعيش بسلام وصفاء. من حقه أن يعيش رغم الفقدان والغياب والألم. من حقه أن يعيش لكونه إنسان.

” قلت أبعتلك أطمنك. أمي خرجت امبارح من المستشفى. اتحسنت نسبيًا يعني الحمد لله. مهو كل حاجة لازم تخلص بس مش دايمًا النهايات بتكون سعيدة زاي الأفلام. اللحظات السعيدة بتيجي وقت محنا بنكون مشغوليين في حاجات تانية علشان نقدر نكمل. زاي دلوقتي، بعد مخرجنا من المستشفى أقدر أروح أنام جنب ماما بهدوء. مش عارفة بكرا هيجيب إيه، ومش عايزة أعرف. أنا مش عارفة إذا كانت الجوابات دي بتوصلك ولا لأ. مش عارفة إذا كنت هبعت تاني. مش عارفة إذا كان ليها أي قيمة غير إني بسمع نفسي وأنا بفرغ كلامي. يمكن أحس بونس”.

تعتقد بأن الرسائل عنها، لكن الصغيرة نعمة تخبرها بأنه لا يفترض وجوب ذلك، فكل الناس لها مشاكل. هي رسائل ربما من الحياة. رسائل وأصوات نساء أخريات عبّرن بالكتابة والمشاركة عن أعمق ما في نفسهن من مشاعر وألم وقررن طرح وجعهن، فتقرر هي أن تحاول وتسعى لطرح نفسها وتبتسم لأول مرة من قلبها في مشهد النهاية، بعد أن ذهبت للسيدة التي يجب أن ترجع الفلوس التي تم إيداعها بالخطأ في حسابها وتتلو عليها قصة صغيرة. تخرج ولا نعلم هل عاد الزوج أم لا، لكننا نرى ابتسامة وتصالحاً مع الذات.

نرى رسالة كتبتها هالة وتقرأها علينا لتعلن مشاعرها وصوتها وصراخها الهاديء للسماء. تكتب الرسالة وتلقيها في الهواء ليحملها كيفما شاء ناحية من يحتاج صوتها والأصوات الأخرى. التكاتف القوي للمرأة وللحب ضد الاِكتئاب اللعين والألم.


“حاولت أعرف إنت مين وفشلت. بس عايزة أحكيلك عن خالد جوزي المحبوس ظلم. إزاي نقدر نعيش والفقد والعجز والظلم يبقوا أحاسيس ثابتة في حياتنا! عارفة لما روحت للست كنت خايفة جدا كان ده الأمل الوحيد جوايا. حكتلها قصة أفتكرتها وأنا بحكي لنعمة عن بابا. زمان كنت بصحى على صوت أهاته والوجع. في يوم خدت كل التحاليل وروحت ألف بيها على المستشفيات  يمكن ألاقي حد يساعد أو على الأقل أفهم أحنا محتاجين مصاريف قد إيه . وأنا بلف في مستشفى قابلت بنت كانت أكبر مني بكام سنة أما شافتني بعيط بصتلي ولما عرفت إنه سرطان في البنكرياس قالتلي إن باباها كان عنده نفس المرض وإنهم صرفوا نص فلوسهم وهما بيلفوا، وإن دلوقتي أمها تعبانة وبتصرف بقيت الفلوس عليها. حكتلها القصة دي ومشيت. مشيت وأنا مش عارفة إيه هيحصل. بس من ساعة محكتلها على الموقف وأنا عارفة إن إحساس العجز قادر يمنع أي شيء جوايا. إحساس العجز قادر يمنع الحياة. وقتها عمري كان 17 سنة وفضلت مسيطرة على تفكيري مكنتش عارفة أهرب منها وفضلت بقول أكيد الناس بتعمل نفسها مش واخدة بالها علشان تعرف تعيش. ساعات بحس إني مخنوقة وإن مفيش مكان مكفيني. مش عارفة إزاي الأمل بيموتنا ويحيينا في نفس اللحظة. يمكن علشان الأمل والإنتظار ملازمين لبعض. بنعيش بالأمل وبنموت بالإنتظار. مش عارفة إزاي الواحد بيبقى جاهز إنه يواجه الحياة بتغيراتها. أصل الصبر طاقة. يمكن دي هتبقى غيمة في خيالي وهتعدي بس أنا عارفة إن اللي هتسيبه عمره مهيروح. وبقعد أفكر نفسي دايما إن الخوف من الظلمة مبيفضلش لإن الظلمة نفسها مبتفضلش”.

كاتب

الصورة الافتراضية
Marwan Mohamed Hamed
المقالات: 0

اترك ردّاً